ما تتمنّاه الأُم ..
Published On 30/5/2016

قيس قاسم
المخرج الفنلندي “يوناس بيريهيل” هو بحق جامع حكايا بارع، يعرف كيف يختار موضوعاً واحداً متعدد الأصوات، يقبل التفردات لكنه يظل محورياً، حوله تدور الحكايا، كما رأينا في تحفته الوثائقية “بخار من حياة” حين أخذ “حمامات الساونا” البخارية التي اشتهرت بها بلاده ويمارسها كطقس اجتماعي كل فنلندي تقريباً. فـ”الساونا” تشبه الى حد كبير المجالس العائلية أو المقاهي المحلية، حيث يجلس الأصدقاء، يتسامرون فيها، يحكي كل واحد منهم قصته ثم يمضي في طريقه وحيداً.
فيلمه “بخار من حياة” حاصد الجوائز، قربنا كثيراً من روح الفنلندي، من بيئته الباردة التي يشيع البخار الساخن الدفء فيها.
“الساونا” كانت فيه منطلقاً للقصّ وليست موضوعاً بحد ذاته، تماماً مثل الأمومة في أحدث أفلامه Mother’s Wish فهي صفة عامة، قاسم مشترك لكل أمهات العالم، أما تفاصيلها فمتشعبة لا حد لها، ولهذا كان على المخرج “بيريهيل” أن يجد بينها حكايات قابلة للسرد بلغة السينما. تصل للمشاهد بصرياً. فيها حدث ولا تخلو من بعد زمني آني، فليس من الحكمة الحديث عن الأمومة عبر قصص شفاهية عامة لن تخدم عمله الوثائقي المشترط وجود الصورة والحدث في آن، وربما لهذا السبب فضّل المخرج أن يفتتح فيلمه بقصته الشخصية مع أمه ليؤطر بها بقية القصص التي ستغطي بدورها حالة “الأمومة” في كل مكان من العالم.
الملفت في “أمنية أُم” ميله الى أخذ الصور الواسعة والدخول منها إلى العوالم الخاصة الضيقة على عكس فيلمه السابق حيث المساحات الخارجية فيه كانت تتقلّص لصالح المساحات الداخلية الضيقة، وكأنه يريد فيها هذه المرة اختبار قدرته على التنويع والإجادة في رسم المشاهد الواسعة كما الضيقة.

إلى بيت والدته الصغير دخل من بوابة الأراضي الشاسعة المتجمدة المحيطة به. في تلك الدار، وحين كان في سن الثامنة من العمر، سمع من أُمه خبر مرضها واحتمال دخولها المستشفى لإجراء عملية استئصال ورم سرطاني في دماغها. يحكي تفاصيل اللحظة التي ظلّ فيها وحيداً في الحقل البارد في انتظار ما سيقوله الطبيب عن نتيجة عمليتها. فكرة موت الأم يقيناً مرعبة، بخاصة لطفل وحيد ليس له في الدنيا سوى والدته. الشعور باحتمال فقدان الأم وحده يثير الأسى والحزن فكيف سيكون الحال حين يسرد لنا صانع وثائقيات ماهر قصته الشخصية الحزينة؟ رغم قوتها وحلاوة تصويرها اعتبرها مجرد مقدمة لا تدخل ضمن نصّه السينمائي البارع الجامع في ثناياه؛ الحزن والفرح الأمل والإحباط. محوره؛ كما أراد أن يكون؛ واهبة الحياة: “الأم”. أراد الاحتفاء بها وبعظمتها ولهذا أهداه إلى أمه!
من خلال محاولة تفكيك النص تظهر أمامنا علامات جليّه وأحياناً أخرى ضبابية تظل بحاجة إلى معاينة أكثر دقة لاستخلاص الدلالات منها، مثل غياب صورة الرجل في “أمنية أُم”، تغييباً متعمدّاً. فهو لا يظهر على الشاشة إلا ما ندر طيلة سرد قصصه العشر.
ظهوره “ضمني” يأتي عرَضاً في حكايات النساء، وفي الغالب الأعم كان ثانوياً إن لم نقل سلبياً، على عكس الطفل فحضوره كان طاغياً وملازماً لهن طيلة الوقت. أراده أن يكون ظلاً باهتاً يجدر البحث عنه وعن سلوكه في ثنايا القصص وبخاصة التراجيدية منها، بوصفه مسبباً لبعضها ولكونه أيضاً القطب الأقوى في ثنائية العلاقة بين الرجل والمرأة!
في حين مثَل الطفل حالة التماهي الروحي والوجداني أو لنقل الغريزي مع أمه. ملازمة صورة الطفل لأمه لا تخلو من تمظهرات فكرية وفلسفية لم يرغب الفيلم في تناولها كموضوع رئيسي لكنه تركها تصل إلى متلقِّيه بسلاسة تتوافق مع سلاسة العلاقة الإنسانية بين الطرفين.
لم يخفِ الفنلندي “يوناس بيريهيل” القول إن الطفل ابن أمه، فذهبت القصص، التي بنى معمار نصه السينمائي عليها، كلها تقريباً بهذا الاتجاه وتجربة رائدة الفضاء الكازاخستانية تعززه. لاعتبارات مركبة ولكونها تجسد علاقة استثنائية لا يمرّ بها كل البشر. علاقة بين أم معزولة داخل كبسولة فضائية وطفلها الموجود على سطح الأرض. ومع كل ابتعادها الزمني والمكاني عنه ومع كل تركيزها الشديد على إتمام مهمتها الخطيرة كانت تتواصل معه.
ظلّت كلماته التي همس بها أثناء توديعها شاغلها الأكبر. وظلت قلقة من احتمال أنه لم يسمع كلمتها بوضوح: “أحبك كثيراً يا بُني!” أسئلة بقيت معلقة بين الأرض والسماء خلال كل الزمن الذي قضته داخل الكبسولة.
الآصرة القوية بين الطفل وأمه في حكاية رائدة الفضاء “كارين نيبرغ” مع خصوصيتها هي ذاتها التي تجمع بقية القصص “الأرضية”. فالأطفال هم مصدر سعادة البشر وعلى وجه التحديد “الأمهات” منهم وهم في أحيان يكونون سبباً في عذابهن لكن غيابهم عن الوجود يولد ألماً لا يمكن لكائن تخيلّه غير المرأة نفسها.

دخوله غرفة الولادة وتسجيل الدقائق الأخيرة من ولادة السيدة الكندية، مؤثر وشجاع، ففي اللحظة التي يرى الطفل فيها النور لأول مرة يظهر الزوج إلى جانب زوجته، لثواني قليلة، وهو يحاول مساعدتها نفسياً. هل يمكن النظر إلى وجوده كعنصر هامشي (مع إيجابيته) لكون المرأة في النهاية هي من تلد وهي من تتحمل وجع الولادة؟ وهي من قاست كما سمعنا منها لعدم بقاء الجنين في أحشائها وسقوطه المتكرر؟
يحتمل هذا المشهد وغيره الكثير من التأويل حيث المشهد الواحد يشي على الدوام في “أمنية أم” بأبعاد وتفسيرات متعددة وهي ما جعلت منه فيلماً متفرداً ذكياً.
موسيقى “يوناس سودرمان بولين” منحته قوة تأثيرية إلى جانب الصورة الواسعة المعبرة عن المناخ العام الذي جرت فيه قصصه وإن جاءت بأزمنة ومعالجات بصرية متباينة. ففي الوقت الذي أخذت قصة المرأة النيبالية أكثر من عشر دقائق من زمن الفيلم، لم تستغرق قصة الأم الجنوب أفريقية سوى دقيقتين وفي الحالتين كان التعبير عن مضامينهما قوياً.
فالأم الجنوب أفريقية كانت تمنح طفلها الحنان وتعابير الحب بلغة الجسد البسيطة، لأن الفقر حرمها من شراء ألعاب وأغراض حلوة له لكنها لم تتوانَ عن تعويضها بلغة تعبيرية يفهمها جيداً، هي بالنسبة إليه ربما أهم من كل هدايا الأرض، في حين كانت النيبالية بعنادها على تحمل أعباء الحياة وحدها بعد أن تركها زوجها وأساء أهله معاملتها، تمثل عينة مختلفة أكثر تصادمية وإشكالية. أم شجاعة قررت العمل في الحقل لتأمين حياة سوية لأولادها. أرادتهم تعليمهم وكان لها ما أرادت بفعل إصرار وتحدِّي نادرين، نُقلا على الشاشة بكل تجلياتهما ليظهرا لنا عظمة الأم وهي تكافح من أجل أطفالها في أقسى الظروف!
المُرّ والحلو في الأمومة يحضران بقوة في الوثائقي المتعدد المستويات والمزاج ـ بحكم تنقلّاته الجغرافية واختلاف طباع بطلاته ـ كما هن في الحياة نفسها. ففكرة خسارة أم لطفلها تظلّ مرعبة بنفس مقدار رعب فكرة خسارة الطفل لأمه. أكثر من حكاية مرّ عليها الوثائقي المشحون بالعواطف عبرت بشكل رائع عن ألم وعذاب الأم حين يضيع منها طفلها.
المستخلص من سياق القصص المعنية بوجع الخسارات؛ وحدة طابعها البشري وتشابهها. ففي كل الثقافات والحضارات خسارة الأولاد ـ في أي مرحلة عمرية كانوا فيها ولأي سبب كان ـ لن يُزيل الشعور بالنكبة ولا يخفف التمزق النفسي الهائل الذي يصيب الأمهات المنكوبات به. مروره على الأم الإنكليزية، التي تسببت بموت ولدها أثناء حادث سيارة كانت تقودها، لم يخففه الزمن ولم يُنسيها الإحساس المريع بالذنب. لم تتوقف عن البكاء كلما تذكرته وتذكرت ماذا صنعت به.
لا يكتفي “أمنية أم” بسرد القصص، بل يطمح لإيجاد خيط جامع لها، وعرض المناخ العام الذي تعيش فيه الأمهات في كل مكان في العالم. فقصة الأم المكسيكية التي تعمل في نادي ليلي من أجل تأمين عيشها وعيش ولدها الصغير لا تمرّ مرور الكرام على الشاشة. يتوقف عندها الفيلم ملياً لكونها تمثل عيّنة خاصة.

تجربتها تعزز فكرة أن غريزة الأمومة وفي حالات ليست قليلة، تغلب على “القيّم” و”الأعراف” بل أحياناً تُروض القيّم لصالح رغبة الإنسان في البقاء على قيد الحياة. يُلمِّح الوثائقي إلى حالة من التواطؤ الاجتماعي غير المعلن، يبرر فيه الناس أحياناً سلوك أمهات سُدت كل الطرق في وجوههن ولم يجدن غير بيع أو عرض أجسادهن مقابل تأمين ما يمنع أطفالهن من الموت جوعاً.
نذالة الأنظمة وقسوتها وراء التجاوز “الأخلاقي” لا الأمهات الفقيرات المغلوبات على أمرهن. على مستوى أوسع تبدو الهيمنة الذكورية وقلة فرص العمل والأمية سبباً فيما تعانيه النساء وأطفالهن من سوء الأوضاع وتبدو في حالات قليلة انعدام حنية بعض الأمهات سبباً في إيذاء أطفالهن وبخاصة الفتيات، واللافت أنه عندما يكبرن ويتزوجن نرى أغلبيتهن يقمن العكس تماماً، فيُضحِّين بكل شيء من أجل ألا يمرّ أطفالهن بنفس التجارب التي مررن بها.
المشترك في كل القصص؛ الروح التضامنية الأنثوية حين يتعلق الأمر بالأطفال والاستجابة الكريمة منهن لمساعدة بعضهن البعض. متعة ملاحقة قصص الوثائقي الفنلندي متعة خالصة مع كل ما فيها من هموم وأحزان، فالعالم الذي تعيش فيه المرأة يمضي في غير صالحها لكن غريزة الأمومة هي ما يمنحها القوة للمواجهة حفاظاً على بقاء الجنس البشري. هذا ما تمناه “أُمنية أُم” وقدّمه صانعه كتحية إلى كل الأمهات واهبات الحياة.