سينما آسيا الوسطى
محمد رُضــا
يتخذ المكان في السينما عموماً أهمية كبيرة. هو ما تدلف الحكاية بأسرها إليه وتنطلق منه.
في الغالب من الأفلام الأميركية يتم التمهيد بلقطات ومشاهد للمدن، وفي أفلام الغرب القديمة، كان التمهيد السائد هو لمناظر من الصحارى أو الجبال التي يتقدم منها الأخيار أو الأشرار لدخول البلدات حيث ستقع الأحدث فيها.
السينما الأوروبية حفلت بتعدد شاسع، لكن السائد، ��صوصاً في أفلام إيطالية وفرنسية وإسبانية وإلى اليوم، هو التمهيد بوضع الشخص في المكان المعين. بذلك يدلف مباشرة إلى التأكيد بأهمية الشخص والشخصية على المكان بحد ذاته. على ذلك، فإن هذا المكان (داخل بيت في أفلام لأنطونيوني أو على شاطيء البحر في أفلام لرومير، مثلاً، يبقى مهمّـاً طوال العرض لكونه يحدد معالم كل شيء بما فيها سلوكيات الشخصيات التي تعرّفنا عليها في المقدّمة.
بالنسبة إلى سينما آسيا الوسطى (أو المركزية كما تُـسمّـى في الغرب) فإن السهول والوديان والجبال والصحاري تنال الإهتمام الشاسع في المقدّمات ويستمر منوال ذلك ليطغى على الفيلم ذاته.
السبب جغرافي في بعض أسسه لكنه أيضاً على علاقة بما فرضته التضاريس من شروط حياة لوّنت كذلك طبائع الأمم التي تشغل الدول الخمسة التي تشكل جمهوريات آسيا الوسطى وهي كاجكستان، قرقستان (أو «غرقيزيا» في بعض المتداول)، أوزباكستان وطاجكستان وتركمنيستان. غير بعيد عنها مطلقاً وبغالبية إسلامية موازية للغالبية الإسلامية في باقي تلك الدول تقع أذربيجان مباشرة على الساحل الغربي لبحر القصبة الذي يفصلها عن تركمنيستان الشرقية وعن كازخستان إلى الشمال الشرقي.
عناصر الموزاييك الكبير
كما هو معروف، إنتمت هذه الدول إلى المنظومة الشيوعية سابقاً وكانت تعيش وتعمل تحت مظلة الإتحاد السوڤييتي منذ عشرينات القرن الماضي وحتى إنفصالها إثر تفكك المنظومة الرسمية تلك واعتراف روسيا بالتعدد العرقي للجمهوريات غير الأوروبية (كما الأوروبية في الشمال الغربي مثل ليتوانيا واستونيا، الخ…) أو جنوب روسيا (بولندا وتشيكوسلوفاكيا الخ…) وبحقها في الإستقلال عنها.
لكن في حين أن الإنفصال عن التبعية السوفييتية والهيمنة الكبرى للنظام الستاليني في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، دفع بسينمات الدول الشيوعية سابقاً (مثل ليتوانيا أو بولندا أو المجر) إلى إطلاق أفلام كثيرة تندد بالشيوعية والحقبة السوفييتية كلها، نلحظ خفوت هذا التوجه لدى كل تلك الجمهوريات الآسيوية المستقلة. بمراقبة عشرات الأفلام التي انتجتها خلال العقود الماضية، يتبدّى أن الموضوع السائد هو موضوع اجتماعي ينص على الحديث عن أزمات فردية واجتماعية عامة تنتمي إلى الحاضر والآني في معظم الأحيان وخالية من التعرّض للفترة الشيوعية تلك بالنقد الشديد الذي عرفته السينمات الأوروبية ذاتها.
هذا لا يعني عدم العودة إلى الماضي بشكل مطلق، ذلك لأن في الماضي البعيد منه والقريب، حكايات لا تود تلك السينمات أن تفوتها. ما يعنيه تحديداً أن السينمات المذكورة تداولت هامشاَ عريضاً من الأمس يكمن الكثير منه في أزمنة تاريخية غابرة.
هذا مردّه أهمية التاريخ بالنسبة لتلك الشعوب. تلك القبائل المختلفة التي نزحت إلى تلك المنطقة من عناصر وأعراق متعددة نتيجة اجتياح شعوب لأخرى (المغول والتتار) وتمددها ثم استقطاب نزوح العناصر المكمّـلة للموزاييك الكبير (الشعوب التركية ما بين القرن الخامس والعاشر ميلادياً). الحياة المتداولة في تلك الربوع الواسعة ذات الكثافة السكانية المحدودة حتى اليوم، كانت تحتوي على ذلك القدر من النزوح حيث الرعي والماء حتى بالنسبة لسكانها الأصليين قبل قدوم الغازين ثم انتشار الإسلام في تلك الدول.

وتطالعنا الأفلام المتعددة الآتية من تلك المنطقة بصورة تعريفية غنية تستلهم مفاداتها من طرق الحياة عبر العصور، كما من الثقافات والتقاليد الدينية والإجتماعية التي تتشابه في تضاريس مختلفة خصوصاً في تلك الأجزاء الشرقية من هذه الدول.
لم تلد السينما باكراً جدّاً في تلك الدول. وصول بعثات الأخوين لوميير ومصوّري شركة باتيه الفرنسية إلى كازخستان وطاجكستان وتركمنيستان وأوزباكستان وغرغستان لم يكن سهلاً أساساً. فالطرق وعرة وطويلة والسفر منهك وشاق والمطارات التي سينتقل منها المصوّرون بعيدة تحيط بها أراضٍ خالية من السكان (في العقود الأولى من القرن الماضي). كذلك فإن شعوب تلك المنطقة الكبيرة كانت شعوب بداوة تجيد الصيد والتنقل والرعي وأماكن عيشها صعبة البلوغ. لذلك، وفي حين أن الكاميرات الفرنسية (والبريطانية في العقد الأول من القرن العشرين) انتشرت في مصر والأردن وفلسطين ولبنان وسوريا ودول المغرب العربي بأسره، على نحو مبكر وكذلك في بقاع أفريقية مستعمرة كما في مختلف أرجاء أوروبا، تطلب الأمر عقوداً عدّة من قبل أن تدخل السينما نطاقاً محدوداً من الإهتمام المحلي لكل دولة من تلك الدول.
علماء وشعراء
الفضل في ذلك يعود إلى فترة الحكم الشيوعية. على كل مساوئها من حيث محاولاتها طمس المعالم الثقافية والإجتماعية والوطنية وتشكيل كيان رسمي واحد ينتمي إلى موسكو والثورة، فإن السينما الأولى في معظم تلك الدول أتت عن طريق رغبة الروس في إنتاج أفلام محلية تعزيزا للحمة السياسية أساساً. نلحظ ذلك من خلال حقيقة أن الأفلام الأولى في كازاخستان مثلا وردت في أواخر الثلاثينات عندما قام الروسي موسى ليفين بتنفيذ مشروع مدرج على قائمة «استديو لينين» عنوانه «أمانجلدي» والموضوع كان سياسياً إذ دار حول الثائر الكازخستاني أمانجلدي إيمانوف الذي قاد ثورته ضد القياصرة سنة 1916.
الحال أسوأ في جمهورية أوزبكستان، فحتى سنوات قريبة لم يكن هناك أي وجود فعلي للسينما فيها. هي أيضاً شهدت قدوم بعض السينمائيين الروس لتصوير أفلام وطنية، تسجيلية وروائية، لكنها جميعاً لم تزد عن كونها حفنة محدودة على عكس تلك التي تم تصويرها في أذربيجان مثلاً. كون تلك أقرب الى روسيا وبموازاة جورجيا الأوروبية جعلها موطأ قدم لأفلام أكثر حتى ولو أنها، بدورها، كانت تاريخية ووطنية تتحدث عن نعم الثورات ضد الإقطاعين والخارجين عن القانون المرتبطين برأسالمال.
نتيجة كل هذا، فإن البحث في تاريخ هذه السينمات لن يدلنا إلا على نماذج متشابهة من حيث كونها أنتجت، غالباً، تحت غطاء الرداء السوفييتي وبتعاليمه. على هذا النحو نجد مثلاً «نجمة في الليل» الذي تم تصويره في طاجكستان سنة 1972 عن العالم والفيلسوف الطاجيكي أحمد دونيش (1827-1897).

في الواقع، عاش دونيش (الذي قام بتمثيله محمود وحيدوف) حياة سياسية متقلبة فهو عادى أمير البلاد ورجال الدين جهراً وكتب عنهم أنهم فاسقون وفاسدون ومنافقون (الوصف الأخير طال كبير القضاة آنذاك). ويصور المخرج عبدالسلام رحيموف كل تلك الحقبة كتمهيد للتذكير بأن دونيش كان أول من دعى للتقارب بين الدولة الطاجكستانية وبين روسيا (قرونا قبل الثورة الشيوعية).
والممثل محمود وحيدوف (الذي درس المسرح أساساً) كان شخصية رئيسة في فيلم طاجكستاني آخر في العام 1971، ذاك الذي حققه المخرج بوريس كيمياغاروف بعنوان «حكاية رستم» حول الشاعر أبو القاسم الفردوسي استيحاءاً من مقطوعته الشعرية «الشاهنامة» (التي وردت في مؤلَّــفه «كتاب الملوك» قبل أكثر من 1000 سنة. كما في «نجمة الليل» مزج «حكاية رستم» (والفيلم الذي تلاه عن أبو القاسم وإبنه سحراب في العام التالي) بجانبيها الشخصي (بيوغرافي إلى حد) والإجتماعي- السياسي (موقف الشاعر المناهض للغزو الفارسي في أيامه). إلى جانب أن الحوار المستخدم في الفيلم هو، في نسبته الغالبة، الأبيات الشعرية لأبي القاسم نفسه، يستخدم الفيلم لوحات ورسومات للشاعر وإبنه سحراب (الصورة). لوحات معلقة تمر بها الكاميرا راغبة في تأكيد العلاقة بين الشعر والفن كما بينهما والسينما ذاتها.
إمرأة ترفض الوحدة وتموت وحيدة
السينما التركمانستانية المحلية بدأت قبل زميلتيها الكازخستانية والطاجكستانية، لكن هذه البداية المبكرة نوعا (1929) لم تختلف عن مسارات باقي تلك الدول ولا هي أنجبت حركة سينمائية نشطة طوال تاريخها وإلى اليوم، ولو أن عدد الإنتاجات في السنوات العشر الأخيرة يتجاوز كل ما تم إنتاجه منذ ذلك التاريخ. الفيلم الأول هو «ذهب أبيض» وهو تسجيلي طويل أخرجه ألكسندر فلاديشوك عن الزراعة والجمعيات التعاونية التي تحسن استثمار المحصول لصالح كادحي الأرض.
مفاد هذه الجولة هي التأكيد على ارتباط البدايات السينمائية في تلك الدول بالعجلة النظامية الشاملة التي عززتها الدولة السوفييتية ضماناً لنشر مباديء الثورة الشيوعية. في الواقع، المبرر شبه الوحيد لتحقيق أفلام ذات مظهر ومحتوى تاريخي، كما في النماذج الطاجكستانية والأوزباكستانية، كان التأكيد على المضامين السياسية المناسبة للأيديولوجية الإشتراكية. ومع أن الكثير من هذه الأفلام عكس الحياة كما كانت والأحداث والشخصيات قريبة من الواقع، إلا أن الأفلام القادرة على سبر غور الحياة الإجتماعية في هذه البلدان لم تنتشر (وفي أحيان لم يتح لها أن تبدأ) إلا من بعد زوال المظلة السوفييتية. من هذه النقطة المتأخرة في ثمانينات القرن الماضي، نستشف ملامح السينما الجديدة في تلك المناطق.
على أن بعض هذه الأفلام الحديثة، لم يفك ارتباطه التعبيري بملامح سينما الأمس. هذا واضح في فيلم «نبات» الأذربيجاني المنتج سنة 2014.

يعمل «نبات»، الذي أخرجه إلشين موسى أوغلو، بمقتضى موديل السبعينات من الأفلام التأمّـلية الواقعية للبيئة التي تقع فيها الأحداث.
دراما ريفية تدور ما بين بيت على تلّـة وقرية تبعد عنه قليلاً. شخصيات قليلة وكلام أقل. وحركة كاميرا موازية لإيقاع الحياة. «نبات» هو إسم بطلته (فاطمة معتمد أريا) أو قد يكون باللهجة المحلية “نبط”. وهي إمرأة تقارب الخمسين سنة من العمر تعيش وحيدة مع زوجها. إبنها ذهب في حرب نشبت بين قوات متحالفة مع روسيا وأخرى ضدها سنة 1991 ولن يعود والصورة الوحيدة له ضاعت.
تفتح الكاميرا صباح يوم غائم لنشاهد تلك المرأة وهي تقطع المسافة من بيتها إلى القرية. المشوار من نحو خمس دقائق سينمائية والإيقاع في هذا التمهيد سيفرض نفسه على باقي الفيلم. تحمل قارورتين من الحليب من إنتاج بقرتها الوحيدة. تبيعهما ثم تعود إلى زوجها المريض (ڤيدادي ألييڤ) تعتني به. حالته تسوء ويموت بعد حين. آخر ما سمعه صوت المدافع في الحرب الدائرة. صباح اليوم التالي ها هي تمشي إلى القرية وتجدها مهجورة. جميع أهلها رحلوا. ستمضي الأيام المقبلة وهي تذهب كل صباح لتضيء مصابيح الغاز حتى إذا جاء الليل بدت القرية مضاءة كما لو كانت مسكونة بالبشر. يسقط ذئب في الفخ المنصوب فتنقذه لكن بقرتها تفلت وتتوه وها هي الآن وحيدة تماماً إلا من حلم يتردد حول إبنها الغائب. اللقطة الأخيرة لها ميتة في مكانها المفضل على مقعد خشبي خارج البيت وقد بدأ الثلج ينهمر ميّـتة.
الحكاية مأخوذة عن حادثة واقعية لكن حسناً فعل المخرج موسى أوغلو بعدم وضع لافتة في مطلع الفيلم يؤكد ذلك بل نسج الفيلم كحالة مستقلة. الأحداث مصوّرة بحساسية ومصوّرة جيّـداً مع التأكيد على إضاءة طبيعية ليلاً ونهاراً. نهاية الفيلم تتوعّـك قليلاً بإدخال حكاية الذئب الذي يتحوّل إلى راصد. من ناحية تضيف جديداً على منوال الحكاية، لكن من ناحية أخرى لا أهمية عضوية لها فيما نراه. حافز نبات للبقاء في البيت وحيدة مفهوم فهناك عاشت عائلتها وماتت، كما هناك في ذلك البيت ما زالت تحلم بأن يعود إبنها ولا تريد أن تترك ذلك الحلم يمضي ولو كانت تعلم أنه مجرد أمنية.
الصمت والطبيعة
حقيقة أن النسبة الطاغية من الدول الآسيوية المعنية هنا هي أراض برية مفتوحة على السماء والسهوب على خلفية جبال ووديان جعل العديد من الأفلام قادرة مباشرة على الإستفادة من هذه الفضاءات والأماكن. باتت سمات مناهضة لتلك الأميركية أو الأوروبية عموماً كما حتى الهندية والصينية في هذه الآونة.
إنها أراض بكر ومجتمعات محافظة وتلك السمات الطبيعية تفرض نفسها على كيف سيصوّر المخرج، كما الحال مع «نبات»، عمله وكيف سيلتقط العلاقة البيئية بين المجتمعات والأماكن.
نجد ذلك واضحاً في «طلبان» (2008) لسيرغي دفورتسفوي حيث تعيش العائلة التي يتابع الفيلم ما يدور بين شخصياتها في خيمة منصوبة في ربوع الريف. لجانبها الماشية وفي عدادها الزوج والزوجة والأولاد الثلاثة. أحدهم يشترك مع شابين آخرين من القرية ذاتها في استحواذ يد الفتاة طلبان. المعالجة الكوميدية لما يقع في هذا الفيلم الذي شهد عرضه العالمي الأول في مهرجان «كان» في عام إنتاجه (قبل إنتقاله إلى كارلوفي فاري وتورنتو ولندن) لا تقلل من حسنات الغوص في ملامح ذلك المجتمع الذي مازال يعيش بشيفرات الأزمنة البعيدة.

«طلبان» فيلم “متكلّـم” قياسا بالسائد من أفلام آسيا الوسطى. ليس إن حواره مثرثر، لكنه متعدد في الأماكن والمواقف، وذلك على العكس تماماً من «نبات». ما يكشفه الصمت في الغالب من الأفلام الآسيوية تلك (خصوصاً ما يدور منحى في رحى أزمنة حديثة) يتواءم مع طبيعة المكان. فكل الحوار المستخدم في «نبات» لا يزيد عن صفحتين أو ثلاثة صفحات من السيناريو. والحال نجده أيضاً في الفيلم الكازخستاني الآخر Kelin لمخرجه إرمك تورسونوف.
إنه فيلم صامت عملياً يدور حول الفتاة كَـلين التي تزوّجت رغماً عنها لشاب لا تعرفه. تتوقع، والمُـشاهد معها، حياة قاسية وعاطفة مهدورة، لكنها تكتشف أن زوجها ليس شخصاً جائراً وبل تقع في حبه. الفيلم يسجل اللحظات التي (في غير هذا الفيلم) قد لا تكفي لصنع فيلم منها، ويحوّلها إلى دراسة في الحياة والحب والفضاء الزمني والمكاني الشاسعين. مع تصوير بديع (من مراد علييف) دلف الفيلم، مثل العملين السابقين، إلى سلسلة من المهرجانات بترحاب شديد.
وللعاطفة مكان دائم في مثل هذه الأفلام.

في «الأخ الصغير» (2013) يدلّـنا المخرج الكازخستاني سيريك أبريموف (وهو من أنشط السينمائيين العاملين اليوم في الجمهورية) حكاية صبي في التاسعة من عمره يعيش في واحدة أخرى من تلك القرى البعيدة. لا أحد يعيله ولا من يرعى حاجاته وقريبه الوحيد هو الشقيق الأكبر سناً الذي كان نزح عن القرية بحثاً عن فرص عمل أفضل. بعد حين يعود شقيقه ذاك. يفرح الصبي به. متاعبه العاطفية الناتجة عن الوحدة وتلك النفسية التي تراكمت عليها أحاسيس الخوف والإحباط تبدو آلت إلى نهاية. لكن ذلك ليس صحيحاً. فشقيقه العائد جاء منهكاً وبلا روح. قلبه خاو من الحب وباله عالق بالرحلة المقبلة. الصبي يدرك أن خلاصه بيده هو وليس بيد سواه.
نافذة على العالم
الصمت في «الأخ الصغير» مُـجاز أيضاً أولاً لأن بطل الفيلم، الشقيق الأصغر، يمضي الوقت قبل وصول شقيقه، مراقباً ومتعاملاً مع مشاعره الدفينة، وثانياً لأن أخيه يعود مطبقاً على نفسه لا يتحدث كثيراً ولا ينوي البوح بشيء قابل للتداول.
الحال مشابه في الفيلم المنتج على نحو مشترك بين أوزباكستان وطاجكستان سنة 2014 بعنوان «40 يوماً من الصمت».
إنه من تلك الأعمال التي تستفز المرء بصمتها وبطء حركتها قبل أن يدرك المشاهد أن صانعيها يحسنون التقاط خيوط الصمت والصوت والصورة في تناسب جيّـد. على الرغم من ذلك، هذا الفيلم الذي شاركت هولندا بتمويله وتقدم عليه مخرجة لم يسبق لها الوقوف وراء الكاميرا من قبل، لديه حكاية محدودة يرويها. ما يثير الإعجاب أنها صنعت من هذه الحكاية المحدودة عملاً مثيراً للإهتمام، ثري الصورة ولو أنه خاو في أكثر من مكان.

بطلة الفيلم فتاة في مطلع الشباب إسمها بيبيشا (روشان صاديكوڤا) نلتقي بها وقد انتقلت للعيش في بيت جدّتها سعادات (سعادات رحيمنوڤا) الكائن في قرية جبلية بعيدة. معهما في البيت عمّـتها التي تنوي الإنتقال من القرية لتكون قرب من تحب وقريبة أخرى حبلى. العجوز مصدر الحكمة والفتاة الصغيرة رمز البراءة. المخرجة تحسن إلتقاط الأحاسيس حتى وإن بدت في لحظات ورودها غريبة: يد الفتاة على الجدار المتعرج وهي تمشي بجانبه. لحس العسل الصافي بأصبعها. النظر إلى الرعاة وهم يسوقون الماشية. تأمّـل السحاب وهو يحط على الوادي الخ… لكن لجانب أنها مناظر بديعة هي مناظر موحية بعزلة تخفي قساوة تلتقي وذلك الرباعي الأنثوي (لا وجود لأدوار رجالية ناطقة، بل أحياناً ما نرى ملامحهم بعيدة كرعاة الغنم). بقليل من الجهد الإضافي، كان يمكن للمخرجة تحقيق عمل يحمل ما يضيف إلى القصّـة. ما يجعل المتابعة المتأنية (أحياناً أكثر من اللازم) حافلة بثراء من المضامين المناسبة.
تلتقط المخرجة وجوهاً مألوفة. على بعد المسافة هي ذات الوجوه الساكنة في أرياف تركيا وسوريا ولبنان. ذات تجاعيد الوجه تحت ذات الملاءات وبالشفاه ذاتها حين تدعو وتسبّـح وتذكر إسم الله ورسوله. إنه نقل يقترب من الروحانية تعايشه المخرجة عن معرفة وإدراك.
والصمت يتحول إلى الموضوع بذاته في فيلم لنرجسة محمد كلوفه المعنون، تلقائياً، «الصمت». إنه حكاية قرقازية قصيرة حول عائلة في واحدة من تلك القرى الشمالية حيث تكتسي بالثلج لمعظم أشهر السنة. عائلة عايشت وأجدادها تلك المنطقة المقفرة منذ عصور متوالية وتعرّفت على التلفزيون حديثاً. عايشته وأحبته كونه إطلالة على العالم البعيد عنها. ذات يوم يخسرون هذه الإطلالة على العالم فرب الأسرة كان استدان من المصرف مالاً ولم يستطع دفعه ما دفع بالبنك لاستحواذ كل ما له قيمة وجهاز التلفزيون في المقدّمة.
وهناك مكانة لبضعة أفلام تحمل هوية مقاطعة أبخازيا، التي كانت محور الأحداث في مطلع التسعينات عندما اعتبرت أبخازيا نفسها دولة مستقلة رغم معارضة جورجيا، أهمها «جزيرة الذرة» (2014) يحمل، على غير العادة، هوية إنتاجية مشتركة ولو جزئية ذلك أن التمويل ورد من المانيا وروسيا أيضاً. المخرج جورج أوفاشفيللي يحسن تحقيق دراما حول ذلك الرجل الذي يعيش فوق ربوة صغيرة تحيط بها المياه (يسميها الفيلم مجازاً بالجزيرة). فوق الربوة كوخ خشبي وأرض أمامه مزروعة بالذرة. يريد الرجل وإبنته (ولاحقاً جندي فار من الخدمة خلال الحرب الجيورجية- الإخبازية) حصدها قبل أن يرتفع منسوب المياه. الجيش الجيورجي يجوب هذه المنطقة الواقعة على الحدود ما يشكل ضغطاً إضافياً على الجميع. الفتاة المسلمة تشعر حيال المجند الهارب بالتعاطف. الأب يدرك ذلك والجندي لن يخن الثقة. لكنه في النهاية فإن كل هذه الطروحات عبثية فالمطر ينهمر، والمحصول ينطمر والربوة تغرق والبيت ينهار… إنها حياة بنيت على أوهام!

الحاضر والتاريخ
هذا كله ليس للقول أن السمة الدائمة للأفلام القادمة من هذه الدول تميل إلى الصمت، بل الغاية هي إظهار ذلك التناغم القائم بين الصوت والصورة تبعاً لأماكن نائية من الطبيعي أن لا يسودها حديث المدن وضوضائها. هنا تؤدي الموسيقى في بعض هذه الأفلام دوراً مماثلاً في منح الأعمال الطابع القومي لجانب دورها المعتاد في مسايرة الأحداث.
نجد مثل ذلك في فيلم بخيتار خودوجنازاروف «لونا بابا» (1999) الذي هو واحد من إنتاجات قليلة تم لثلاث دول من المنطقة الإقدام على إنتاجها معاً وهي قرقزستان وأوزباكستان وطاجكستان.
الحكاية تتعلق بمغامرة لا تخلو من الكوميديا وقتما هي أيضاً عاكسة لمناخات التقاليد الصارمة. الفتاة الحالمة ماملكات (شبلان خاماتوفا) تحب التمثيل وتنتظر الفرصة المناسبة والفيلم يبتدع لها والد لا يمانع وشقيق على قدر من الهبل لكي يحل مسألة الصدام بين تطلعاتها وبين واقع وتقاليد المجتمع الذي تعيش فيه. هي بدورها ساذجة وعندما يستغل سذاجتها رجل يخبرها بأنه على معرفة بتوم كروز وسوف يطلب منه أن يأخذها ممثلة في فيلمه المقبل، ترضى بأن تنام معه. النتيجة طفل في أحشائها ورغبة من الأب والشقيق بملاحقة الرجل المختفي بحثاً لإجباره الزواج ممن غرر بها. لإستكمال دائرة الفيلم السوريالية يسرد المخرج فيلمه بصوت الطفل الذي لم يُـنجب بعد. لكن بصرف النظر عن هذا اللجوء إلى الفانتازيا والغرابة فإن الفيلم يقف على الحافة بين تنفيذ تقني جيد وحكاية تستفيد من الطبيعة المتغايرة (سفر دائم عبر تضاريس براً وبحراً) قدر المستطاع.

لا يمكن أن نغفل، في النهاية عن مجموعة كبيرة من الأفلام التي عادت إلى تاريخ إنشاء هذه الدول على نحو أو آخر. أفلام مثل «المنغول» و«ميان بالا» وبدو» و«العجوز» و«سقوط أورتار». معظم هذه الأفلام كازاخستانية التي أنتجت ما بين 1990 والعام الماضي نحو خمسين فيلم معظمها عرض في مهرجانات حول العالم.
أحداث «المنغول» (وله عنوان آخر هو «المنغول: صعود جنكيز خان») تعود إلى سبعينات القرن الثاني عشر والحرب التي قامت داخل المملكة المنغولية التي استقر بعض أمرائها فيما يعرف اليوم بكازاخستان. أخرجه الروسي سيرغي بدروف سنة 2007 ولم يعبه سوى تجواله بين سنوات ذلك القرن في مشاهد فلاشباك متكاثرة فككت بعض تلاحمه.
وجنكيز خان كان موضوع فيلم آخر من إنتاج أوزباكستاني هو «سقوط أورتار» لأرداك أميركولوف. هذا الفيلم جاء أكثر حرصاً على إظهار المدى الفاحش للدمار الذي أحدثه جنكيز خان للحضارة الأوزباكستانية خلال فترة استعماره.
إنها سينمات مختلفة في جوانب ومتلقية بلا اختلافاتعميقة في جوانب أخرى. فبصرف النظر عن الكم غير المتساوي من الإنتاجات بين دولة وأخرى فإن الناتج الدائم هو محاولة نقل المعالم والملامح الخاصّـة بكل ما تطرقنا إليه هنا من جوانب. بعض هذه الجوانب ديني وبعضها إجتماعي. حيز منها يدور عن الفرد والعالم الذي يعيش فيه وحيّـز آخر يبحث في الفترات التاريخية المختلفة التي أدّت جميعاً لتشكيل الوطن الحالي.