“فيكتوريا” تجربة مذهلة في واقعية الصورة
أمير العمري
هناك لحظة في الثلث الأول من الفيلم الألماني البديع “فيكتوريا” للمخرج سباستيان سكيبر، تشع بالحزن النبيل، إنها توجز في بلاغة وعفوية وسحر خاص وتلقائية يندر العثور عليها في السينما، مشاعر بطلتنا الشابة “فيكتوريا”، التي جاءت من مدريد إلى برلين، هربا من مواجهة صدمة الفشل في تحقيق حلمها القديم.

في هذه اللحظة التي تترك فيكتوريا نفسها تطرق بأناملها أصابع آلة البيانو، لتعزف نغمات إحدى المقطوعات الأربع من “فالس ميفستو” للموسيقار الألماني فرانز ليست، فإنها لا تفعل هذا فقط استجابة لما يطلبه ويلح به عليها صديقها الجديد “سون” الذي تعرفت عليه قبل أقل من نصف ساعة، بل هي تحاول أن تعثر داخل نفسها، على ما يعيد إليها ثقتها المفقودة، خاصة في تلك اللحظة التي تشعر أنها يمكنها أن تستعيد توازنها ولو من خلال الاستغراق في مغامرة عاطفية مازالت في بداياتها.
إننا أمام تجربة سينمائية “مستحيلة”، عن وحشة الغربة عندما تستبد بصاحبتها، ورغبتها فيالإفلات من القيد ومد جسر للتواصل مع الآخر، والانسياق في مغامرة لإعادة اكتشاف الذات والعالم. لكن هذا المدخل يقود المتفرج تدريجيا من ملامح عامة لقصة بسيطة، إلى مغامرة محمومة من نوع آخر، يقوم بها مجموعة من الشباب السذج الذين لا خبرة لهم بعالم الإجرام، تجد فيكتوريا ابنة العشرين عاما القادمة من الخارج، نفسها منساقة معهم في تلك المغامرة، حتى نهايتها الدموية دون أن تفكر للحظة واحدة، في التراجع.
هذه المغامرة الأرضية تماما التي ستتورط فيها فيكتوريا مع الشباب الثلاثة بعد أن يسقط رابعهم متأثرا بالإفراط في المخدرات، هي مغامرة السطو المسلح على مصرف في وسط برلين، لانتزاع مبلغ 50ألف يورو، وهي مغامرة غير تطوعية بل مفروضة فرضا عليهم من جانب مجرم محترف (زعيم عصابة) يطالب الآن بأن يرد له أحد أفراد المجموعة (بوكسر) الصنيع الذي قدمه له وهو يقضي عقوبة قصيرة في السجن.

إنها أجواء أشبه ما تكون بأجواء فيلم تارانتينو الأيقوني “كلاب المستودع”، غير أن الفرق الأساسي ليس فقط أن الشباب الذين يغيرون على المصرف لا يعرفون شيئا عن السطو سوى من خلال الأفلام غالبا، بل إن عملية السطو تنجح لدهشتهم الشديدة وعدم تصديقهم، ثم ينجحون في الفرار بالسيارة المسروقة التي تقودها فيكتوريا، لكنهم بدلا من أن يتفرقوا ويقوموا بإخفاء المال المسروق، يرتكبون خطيئة النشوة المفرطة، فيذهبون ملوحين في أيديهم بالمال، إلى الملهى الليل الذي حرموا من دخوله قبل ساعة واحدة بسبب إفلاسهم، يرقصون ويفرطون في الشراب ويتمايلون ويصيحون صيحات مجنونة بل ويتحررون أيضا من ملابسهم، في احتفال صاخب يلفت الأنظار.
لسنا أمام فيلم “بوليسي” تقليدي يبحث عن مبررات وتفاصيل، بل إننا لا نشاهد كيف تنجح عملية السرقة، ويصبح السقوط- مجازا، هو عنوان الجزء الثاني من الفيلم، أي تبخر ذلك الحلم الوهمي بالسعادة، بالحب، بالصداقة. هنا نصبح أمام حالة عدمية تذكرنا- على نحو ما- بما شاهدناه في فيلم غودار الأول “حتى النفس الأخير” (1959): موت البراءة. فهؤلاء في معظمهم “أطفال” أبرياء، يشعرون في لحظة ما، بأن الحياة ما هي سوى لعبة عبثية عليهم المراهنة عليها ولو بحياتهم.

هناك حس عدمي واضح في الفيلم، قدر كبير من العبث في لقاء الشباب الأربعة بالفتاة الاسبانية الغريبة في برلين، والتي لا تعرف الألمانية، فيدور الحوار في معظمه بينها وبين “سون” الذي يبدي إعجابه بها من البداية، بالانجليزية، ومعظم ما تتبادله معه من عبارات مترددة، متلعثمة، تبدو بلا معنى، لكنها تكتسب مصداقيتها من عفويتها الشديدة وملاءمتها داخل هذا السياق التجريدي.
هناك أجواء تذكرنا بسنوات الغضب والتمرد في الستينيات، موسيقى الديسكو العنيفة في البداية، الإغراق في المخدرات، الشخصيات التي لا تعرف عنها وعن ماضيها الكثير، والتي تبدو منفصلة عن واقعها، تبحث عن التحقق من خلال العبث، تصعد إلى سطح بناية سكنية للاستمتاع بالهدوء وتدخين المخدرات، ولكن ليس أهم ما في الفيلم حبكته التي كتبها المخرج في 12 صفحة، ووضع فقط خطوطا عريضة للشخصيات تسمح لها بالارتجال أمام الكاميرا، بل تكمن جاذبية الفيلم في أسلوبه السينمائي، فهو مصور كله في الزمن الحقيقي وبدون أي قطع أو توقف للكاميرا، فنحن نتابع الأحداث والشخصيات خلال أقل قليلا من ساعتين ونصف الساعة، جرى تصويرها ما بين الرابعة والنصف حتى السابعة صباحا في 22 موقعا في وسط برلين، بكاميرا ديجيتال متحركة، وباستخدام الضوء الطبيعي، والمواقع الحقيقية، حيث ينتقل الفيلم بالكاميرا من مكان إلى آخر، في سلاسة ورشاقة، يتابع أبطاله الهائمين على وجوههم تارة، أثناء سيرهم، أو تصحبهم الكاميرا التي لا تفارقهم أبدا، داخل سيارة سرقوها، تتطوع فيكتوريا بقيادتها، إلى حيث يوجد رئيس العصابة “آندي” في مرأب للسيارات تحت الأرض، حيث يتلقون التعليمات ويحصلون على الأقنعة والقفازات، ثم يتوجهون إلى المصرف.

تلعب الكاميرا دور الشاهد المصاحب للأبطال الخمسة، وتبدو كما لو كانت مربوطة بهم، تتخذ إيقاعهم وتعكس مشاعرهم المضطربة المتحولة من لحظة إلى أخرى. ويركز المخرج- المؤلف، بشكل أساسي على سوني وفيكتوريا التي لا تغيب عن معظم لقطات الفيلم، تارة في لقطات قريبة “كلوز آب”، وتارة أخرى في لقطات واسعة تراقب الكاميرا فيها من على مسافة، دون أن نرى بشكل واضح ما يجري كما في مشهد سرقة البنك، الذي نتابعه من داخل السيارة حيث تجلس فيكتوريا تنتظر في قلق خصوصا بعد أن تعجز عن إدارة المحرك بتوصيل السلكين.. وما ينتج عن هذا الفشل من توتر وتصاعد للهيستيريا، إلى أن يعود اللصوص بغنيمتهم ويتمكن بوكسر من إدارة محرك السيارة.
هذا الشكل الذي تتغير فيه المشاهد واللقطات والمواقف وتتباين المشاعر وتنعكس الانفعالات على الوجوه، دون أي قطع، يقتضي بالتأكيد وجود خطة محكمة في السيطرة على الصورة، الإعداد الجيد مسبقا للأماكن المختلفة، دخول بعض الشخصيات الثانوية إلى مجال الصورة بشكل محسوب وفي اللحظة المناسبة (كما في مشهد الاحتكاك الذي يحدث في البداية في الشارع بين بوسكر وبعض صعاليك الليل في برلين). كما يتعين أيضا تدريب الممثلين على الأداء بطريقة طبيعية أمام الكاميرا في مشاهد طويلة متصلة لا تتوقف فيها الكاميرا، ولا يُسمح بإعادة التصوير، ولا باستراحة أو إعادة عمل الماكياج مثلا.
كان من الطبيعي أن يجري المخرج تدريبات مكثفة على التصوير. وهو يقول في مقابلات معه، إنه اضطر لتصوير نسخة يستخدم فيها “القطع” ولكن بحيث يوحي بالاستمرارية، وهي نسخة تعاني مما يعرف بالـ Jump cut أي القفز في الصورة عندما تتوقف الكاميرا في لقطة ما ثم تعود لتستأنف التصوير من نفس النقطة والزاوية. وكان الهدف من هذه النسخة، إقناع الممولين بوجود نسخة احتياطية من الفيلم صالحة للعرض في حالة فشل تجربة التصوير المتصل في الزمن الواقعي. ويضيف المخرج أيضا أنه قام بتصوير الفيلم ثلاث مرات، إلى أن أصبح مقتنعا بالنسخة الثالثة من الفيلم وهي النسخة المعتمدة.

ليس من الممكن هنا التغافل عن دور المصور النرويجي ستورلا برانديث غروفلين، الذي نجح في اقتناص التعبيرات المختلفة على الوجوه، مضفيا ضبابية وشحوبا وظلالا داكنة على جوانب الصورة، مستفيدا من الإضاءة الطبيعية في المواقع، حيث دار التصوير بأكمله في الليل.
برعت بشكل ملفت، الممثلة الإسبانية “لايا كوستا”، التي أدت الدور كما لو كانت قد خلقت له، فتماهت تماما مع الشخصية، وأضافت من شخصيتها الحقيقية وعكست ذلك على أدائها المذهل حيث تنتقل من الضحك واللهو والعبث، إلى التأمل الحزين، إلى لحظات تنساب الدموع في عينيها، ثم إلى التوتر الشديد والاهتياج العصبي وهي تقود السيارة بعد إتمام عملية السرقة، ثم بعد أن تصبح هي من تقبض بيدها على زمام الأمور، تصدر التعليمات لصديقها “سون” داخل شقة الزوجين الألمانيين وطفلهما الذي سيتخذانه وسيلة للنفاذ عبر حواجز الشرطة، ثم كيف تشعر بالحزن الشديد وتكاد تنهار بعد وفاة سون متأثرا بإصابته،فتقف بعض الوقت عاجزة عن الحركة أمام جسده، قبل أن نلمح على وجهها كيف تستيقظ الرغبة في البقاء، في النجاة، لتصبح هي الشخصية الوحيدة التي ستنجو وتفلن أيضا بالمال المسروق!

أصبحت فيكتوريا هي الفيلم، والفيلم هو فيكتوريا. وبدا بالتالي عنوان الفيلم ملائما تماما لمادته. وتفوق كذلك زميلها الممثل الألماني فريدريك لو في دور سون، بتلقائيته وقدرته على تغطية المواقف التي كان من الممكن ألا يجد الممثلون شيئا يقولونه فيها بسرعة بديهته وقدرته على الارتجال البديع، بل وقد برع الممثلون جميعا في الارتجال سواء في الحركة أم في الكلام، في فيلم لم يكن من الممكن كتابة حوار دقيق له، يردده الممثلون أمام كاميرا لا تتوقف عن التصوير.
إن “فيكتوريا” الذي حصل على جائزة أحسن إخراج وأحسن ممثلة وأحسن تصوير في مهرجان برلين السينمائي، تجربة سينمائية مذهلة تستحق أن تقام لها ورشات عمل لدراستها والتعلم منها، بين شباب السينمائيين في العالم.