جوليستان: أرض الورود والجميلات والبنادق
محمد موسى
حظيت مشاركة المقاتلات الكرديات في معارك الشرق الأوسط العنيفة المتواصلة بعدد كبير من التغطيات الإخبارية التلفزيونية العربية والغربية في العامين الأخيرين، والتي وصفت أحياناُ حمل الكرديات للسلاح بالظاهرة الفريدة، رغم أن عمر النضال النسوي الكردي المسلح يمتد الى عقود طويلة سابقة، بيد أن ما جعل مشاركة الكرديات في الحرب الشرسة ضد “داعش” تحديداً ينال على هذا النصيب الوافر من الإهتمام الإعلامي، والتلفزيوني على وجه الخصوص، هو ما يهيجه من آثاره وأسئلة إشكاليّة للمشاهد من المنطقة وخارجها، يطلقها التناقض الصارخ بين طرفي الحرب الدائرة اليوم، إذ تقف الكرديات المسلمات بشعورهم الطويلة ووجوهن الجميلة المكشوفة أمام عدو يملك تفسيرات متطرفة للغاية للإسلام ولمكانة المرأة في الدولة التي يسعى لتشييدها. لتبدو الكردية التي تحمل سلاحها بوجه هذا العدو، لا تدافع فقط عن أرضها وهويتها، بل عن وجودها.

تذهب المخرجة الكندية من الأصول التركية الكردية زينة أكيول في باكورتها التسجيلية الطويلة “جوليستان: أرض الورود”، والذي عرض أخيراً في مهرجان “Visions du Réel” السينمائي السويسري، الى مسافات أبعد كثيراً من تلك التي بحثت بها وتناولتها التغطيات التلفزيونية عن الكرديات المقاتلات، والتي بقيت في مجملها مبهورة أمام الظاهرة، وتعجلت في إطلاق أحكامها عليها، في الوقت الذي يَنفُذ الفيلم التسجيلي إلى قلب هذه القضية ويمرّ على خلفياتها التاريخية والاجتماعية، ويقدم بوتريهات شديدة القوة والعاطفية لمقاتلات كرديات، مبيناً فيها الأثمان التي تدفعها نساء، عرفن وقت إخترن القتال، أن عليهن أن يودعن الحياة العادية للأبد، وكما وصفت إحداهن في الفيلم. تسجل المخرجة أوقات تدريبات كرديات إستعداداً للقادم، وسترافقهن إلى جبهات القتال المتقدمة، والتي لا تفصل بعضها إلا أمتاراً قليلة فقط عن مقاتلي “داعش”، ليكمل الفيلم مهتمه بتسجيل حياة ويوميات نساء لم يرضين أن يراقبن عن بعد ما يجري في مناطقهن، واخترن المشاركة في حرب وجود وحشية.
على صعيد انتقالات الفيلم الجغرافية، ينقسم العمل إلى قسيمن: الأول صورته المخرجة من مكان مجهول في جبال منطقة كردستان العراق، لتدريبات كرديات ينتمين عقائدياً إلى حزب العمال الكردستاني المحظور في تركيا، أما القسم الثاني، فسترافق المخرجة فيه عدد من الكرديات اللواتي تعرفت عليهن في معسكر التدريب، إلى جبهات القتال القريبة من مدينة سنجار والموصل العراقية.

يختلف إيقاع الفيلم وروحه العامة بعد انتقاله الى جبهات القتال، لكن عدسته لا تضيع موضوعها، فتبقى قريبة وحساسة، مانحة الفرصة للنساء لتقديم شهادات غلفها الصدق والتأني والحميمية، فيما اكتفت المخرجة في مواقف عديدة بمراقبة شخصياتها دون أسئلة عديدة، لتشكل هذه المشاهد الصورية الصامتة التي تسجل الحياة اليومية لكرديات شابات وسط قسوة المعارك، شهادات بليغة عن تلك الشخصيات وهواجسها وتضحياتها.
لوهلة بدت حروب المنطقة ونزاعاتها شديدة البعد عن الجبال الخضراء الساحرة، التي صورت بها المخرجة ما يقارب من نصف فيلمها، والذي قدمت فيه حوارات قليلة مع كرديات عن حياتهن قبل وبعد الدخول إلى النشاط المسلح، ركزت المخرجة أحياناً على العالم النسوي الخاص للمقاتلات وقدمته بمشاهد تميزت بحساسيتها الأنثوية. فالتقطت اللحظات القليلة التي كانت المقاتلات يخصصنها لأنفسهن، وسط برنامج مزدحم بالتدريبات والمحاضرات. بدا أن المخرجة قد قضت وقتاً طويلاً مع الشخصيات، فلم يربك حضورها تلقائية اليومي في المعسكر. تناوب الحديث في مقابلات الفيلم، فتيات التحقن لتوهن بالحركة المسلحة، وأخريات من اللواتي قضين سنوات طويلة في الحروب مع كل دول المنطقة تقريبا، حتى أن واحدة منهم كانت تشرح لزميلاتها في مشهد طويل، الفروقات بين الأسلحة التي كان يستخدمها نظام صدام حسين، والنظام البعث السوري، والدولة التركية، والجمهورية الإسلامية، و”داعش”.

تركز المخرجة على مقاتلة كردية، وستقدمها في مشاهد خاصة خارج السياقات والروح العامة للفيلم، اقتربت فيها الكاميرا كثيراً من وجه المرأة، وأبرزته بشكل فنيّ كنموذج او لوحة للعذاب الكردي المتواصل. وعندما تتوجه هذه المقاتلة إلى جبهات القتال، ستلاحقها المخرجة إلى هناك، وستصور وجها الجميل وهو يستلم أخبار عبر الهاتف عن إصابة بليغة لرفيق لها. حسمت هذه الكردية خياراتها، إذ قررت أن تبقى مقاتلة، حتى يحلّ الأمن والسلام على المنطقة. يخصص الفيلم دقائقه الأخيرة لهذه المقاتلة التي لم تذكر حتى إسمها. وتصورها وهي تصحو في بيت مهجور من أهله، وتستعد ليوم طويل من القتال، في حرب ستكون على الأرجح طويلة كثيراً.

وعلى رغم أن الفيلم لم يشهد انتقالات او انعاطفات حادة في الفترة التي رافق بها شخصياته، إلا أنه في المقابل كشف وسجل الكثير من الحياة اليومية المجهولة للمقاتلات الكرديات، وهزَّ الإنطباعات العامة التي توصم مشاركة الكرديات بالحرب، والتي تتأرجح بين المبالغة والتسخيف. تقدم المخرجة مشاهد تقترب من الشاعرية في ذاتيتها، لنساء كرديات يحملن الكثير من الحب لوطنهن وشعبهن، ويكشف الفيلم عن صورة شديدة التوازن للحركة المسلحة الكردية، فينقل مثلاً، مقاطع من المحاضرات الفكرية التي يتلقاها المقاتلين، والتي كانت عميقة وعقلانية، وبعيدة عن العاطفية او الدعائية الفجة، وسعت في شرح ظروف العالم الذي يعيش فيه الأكراد اليوم، وكيف لهؤلاء أن يتعلموا حتى من خبرات أعدائهم، فوفق أحد المحاضرين، يمكن تعلم التخطيط والشجاعة من تنظيم “داعش” نفسه.