امرأة مجهولة من كوريا الشمالية

محمد موسى
 
بينما تغلب التعميمية والأحكام الجاهزة على معظم التغطيات الإعلامية لما يجري في كوريا الشمالية، البلد المُقفل الذي تحول بسبب انغلاقه وتطرُّف حكامه إلى أمثولة للدولة المنعزلة غريبة الأطوار، يُميط الفيلم التسجيلي “سيدة بي: امرأة كورية شمالية” (Mrs.B: A North Korean Woman) للمخرج الكوري الجنوبي “جيرو يون”، اللثام عن قصة شخصية مُتعددة الطبقات لامرأة من هذا البلد، عَلِقت في تعقيدات الحياة في بلدها وتبعات قرارها بالهرب منه واللجوء للخارج. يقدم الفيلم ما يقارب من الأربعة أعوام من حياة هذه السيدة التي يشير إليها الفيلم بالحرف (بي)، في حين أن محنة الشخصية تلك بدأت قبل عقد تقريباً، ومازالت متواصلة لليوم، حيث يتركها الفيلم، وهي في قلب متاهة جديدة، وبعيدة عن الاستقرار الذي قطعت من أجله بلدان شاسعة.
 
لا تكشف بداية الفيلم عن أيّ تفاصيل تُعين المشاهد على فهم ما يجري حوله، إذ كانت الكاميرا، وكحال الشخصيات التي كانت ترافقها، تحاول أن تتخفى خوفاً من انكشاف أمرها. تستمر البداية المُربكة تلك لدقائق طويلة، تظهر فيها نساء خائفات، وطفل لا يتوقف عن الصراخ، ومشاهد جانبية للبطلة، تظهر وجهها الذي بدا كصندوق أسرار، لا يكشف الا القليل عن العواطف التي تجول داخل صاحبته. رغم الفوضى التي غلبت على تلك المشاهد، إلا أنها ستكشف تدريجياً أن هذه المرأة التي تقترب من الأربعينات من العمر، تقود عملية لتهريب نساء أُخريات من كوريا الشمالية إلى كوريا الجنوبية، عبر الصين وبضعة دول آسيوية أخرى.
 
بعد بداية عنيفة صاخبة، يعثر الفيلم التسجيلي على السكون في بيت ريفي في إحدى القرى الصينية التي تقع على الحدود مع كوريا الشمالية. ومرة أخرى يبتعد الفيلم عن إغراق مشاهده بالتفسيرات، ويتأنى كثيراً في سرده، إذ يلتقط المخرج شذرات من الحديث والقصة المُبعثرة، ويترك المهمة على المتفرج أن يلصقها ببعضها ليرسم ملامح البطلة وتفاصيل حكايتها. فهي تركت بلدها قبل سنوات من زمن تصوير الفيلم إلى الصين بنيّة العمل هناك، وهرباً من الفقر والحاجة في البلد الشيوعي المعزول، لكنها في الطريق الى الصين، ستقع في أيدي عصابات مجهولة، تقوم بخطف النساء، لتبيعهن إلى مزارعين صينيين ليتزوجوهن، وأحياناً يُسخرّن كعبيد في مزارع أو مصانع. 
لا يوحي إيقاع الحياة في البيت الصيني الريفي حيث تعيش الشخصية الرئيسية في الفيلم، أن ساكنته قد أُجبرت على الحياة فيه والزواج من مالكه، فهي تتصرف كسيدة المنزل، وزوجها يخشى غضبها ويسعى لرضاها، وكذلك يحاول والديه المسنين. يتقرب الفيلم في ثلثه الأخير من أن يحلل التبدل الذي طرأ على البطلة بعد زواجها، والأسباب التي جعلتها بقيت متمسكة بزوجها الذي بيعت له مقابل مبلغ مالي. يجد المخرج الحرية في التصوير في البيت الريفي، والمتعذرَّة خارجه، وهناك سيصادف شخصيات كورية شمالية عديدة، منهن نساء مع أطفال، قطعن نصف الطريق، الذي قطعته البطلة. سعيا للوصول إلى كوريا الجنوبية، حيث يتوقعّن هناك الترحيب الرسمي. 
 
في واحدة من مشاهد الفيلم تبين البطلة للفتيات الشابات، عواقب بيعهن إلى مزارعين صينيين، وكيف أن الزواج هنا هو أحيانا ثمن لا بد من دفعه للوصول بعدها إلى كوريا الجنوبية، الهدف الذي يسعى إليه كثير من الكوريين الشماليين.
عندما تقرر البطلة أخيراً التوجه إلى كوريا الجنوبية والالتحاق بولديها اللذين هربا مع زوجها السابق في أوقات ماضية إلى كوريا الجنوبية. يأخذ الفيلم مساراً مثيراً، إذ يتوجب على البطلة التي ترافقها كوريات شماليات، أن يعبرن مسافات شاسعة داخل الصين للوصول إلى حدود الصين مع تايلاند، وفي طريقهن إلى كوريا الجنوبية. يقتنص المخرج رغم خطورة المهمة، مشاهد رائعة للطريق، ويصور البطلة في فضاءات مفتوحة، أحياناً وحيدة تحدق بالأفق، بانتظار عبورها إلى الضفة الآمنة، وهو الأمر الذي بدا أقلّ إلحاحاً، بسبب الحب الذي صارت تحمله لزوجها الصيني. بل أن قرار الشخصية الذهاب أخيراً إلى كوريا الجنوبية، له علاقة بترتيب حياتها ودعوة زوجها الصيني للعيش معها في البلد الجديد، أكثر منه رغبة بالالتحاق بولديها.
 
يواصل الفيلم تسجيله ليوميات وتحولّات البطلة النفسيّة بعد وصولها إلى كوريا الجنوبية، فيبدأ الجزء الذي صُوِّر هناك، بمشهد طويل لها من عملها الجديد، كمنظفة ماكينات قهوة. مازال وجه البطلة مشدوداً ولم ترتخِ عضلاته أو تتكشف أسراره، كما أنها لم تبتسم ولا مرة واحدة طول زمن الفيلم. 
يُبقي المُخرج على أسلوب المراقبة ذاته ويتجنب الأسئلة المباشرة أو الحوارات، ويذهب مع بطلته إلى البيت الذي يعيش فيه ولديها وزوجها السابق. يخيم على حياة البطلة في كوريا الجنوبية شبح مُحاكمة قادمة، ذلك أنها اتُهمت بتهريب البشر والإتجار بالمخدرات، وهناك شكوك أيضاً بأنها تتعامل مع استخبارات كوريا الشمالية. وسط تعقيدات حياتها الجديدة، مازالت البطلة تحِّن إلى زوجها الصيني، الذي تتواصل معه عبر الإنترنت، بل أنها كشفت في مشهد صادم، بأن هذا البلد (كوريا الجنوبية) سيقتلها، وأنها تريد العودة إلى “زوجها” في الصين.
 
تُحافظ مُعالجة المخرج “جيرو يون” على مسافة متفهمة من الشخصية الرئيسية، مُراعية من جهة تعقيد وضعها القانوني المُعقد، ومن الجهة الأخرى طبيعة العلاقات العائلية، بطبقاتها المُركبة والمسكوت عنه في تلك العلاقات. يبرز أسلوب المخرج الشكليّ، في جزء الفيلم في كوريا الجنوبية، والذي صور بعيداً عن المضايقات الأمنية على خلاف المشاهد التي صورت في الصين، إذ تلاشى حضور المخرج في مشاهد كوريا الجنوبية، سواء تلك التي صورت البطلة في الشارع، أو في حياتها العائلية مع أولادها، وبلغت تلك المشاهد مستويات عالية من المراقبة الخالصة، وجاءت مُغلفّة بحزن وتردد يعكسان ما تمرّ به الشخصيات.  
 
يختار الفيلم أن يترك بطلته وهي على وشك اتخاذ قرار مفصلي جديد في حياتها، وهو الخيار الأسلوبي الذي ربما يعترض عليه البعض، الذين يرغبون بتكملة رحلتهم مع البطلة، لكنه من الجانب الآخر يكثف من محنة المرأة، ومن حياتها التي فقدت السيطرة على دفتها.
 
 

إعلان