ثمن مواجهة التنِين المالي
Published On 13/6/2016

قيس قاسم
“كنت في جزر كيمان الكاريبية ورأيت أمامي الكثير من ذيول الجرذان ظاهرة، حاولت سحب أحدها لكنه كان أكبر مما تصورّت سحبت وسحبت وكان الذيل يكبر ويكبر حتى غدا مثل ذيل تنين وحشي. ذهبت إلى سويسرا لسحب الذيل الكبير فظهر أمامي تنين عملاق بعدة رؤوس تنفث كلها نيراناً من أفواهها. ثلاثة رؤوس أحدهما كان بنكاً والآخر وسيلة إعلامية والثالث يشبه الادعّاء العام السويسري. نظرت الرؤوس إليّ بغضب وبدأت بمطاردتي وما زالت تطاردني!”
هذا المقطع جاء في كلمة ألقاها مُسرِّب الوثائق الخطيرة السويسري “رودولف ألمر” في مؤتمر صحافي نظمته وسائل الإعلام البريطانية له عام 2011 وحضره وقتها مسؤول مؤسسة “ويكيلكس” جوليان أسانج.
أوجز فيه بأسلوب أدبي تجربته “الكابوسية” مع البنوك السويسرية بعد تسريبه وثائق سرية فضحت أساليبها في التغطية على عمليات نقل الأموال بطريقة غير شرعية وتشجيع زبائنها “الكبار” على التهرُّب من دفع الضرائب في بلدانهم وكيف يستغل أصحابها مبدأ ما يسمى بـ”الحفاظ على السرية” للتغطية على خروقاتهم المالية.
ثمن كل تلك التسريبات كان غالياً، دفع قسم كبير منه موظف البنك السابق “ألمر” وكان لابد، حسب رأي المخرج البلجيكي “ديفيد ليلوب”، من عرض بعض تفاصيله ليشهد العالم على حقيقة ما تقوم به البنوك السويسرية العملاقة وكيف تعامل “الخارجين” عن طاعتها معاملة بشعة وغير إنسانية وتعمل كل ما في وسعها لسحقهم.
قصة المُسرب البنكي بدأت قبل أكثر من عشر سنوات لكنها ظهرت على السطح وعرفها العالم في عام 2008 ومنذ ذلك الحين يلازم الوثائقي السويسري البلجيكي A leak in Paradise صاحبها مثل ظلّه. رافق كل مرحلة من مراحل تطور قضيته ونقل أجواءها المرعبة ومحاكمها “الكافكوية” وحياته الشخصية، التي انقلبت رأساً على عقب خلالها، فكان نصه، بسبب كل تلك التداخلات وتنوع المستويات خليطاً؛ من البورتريه الشخصي والبحث الاستقصائي والجهد التحليلي تم جمعها وتقديمها بأسلوب سينمائي رائع فيه الكثير من الإثارة والتصعيد الدرامي.
لم تنقصه المصداقية ومع ذلك أضفت تحليلات وتعليقات الصحفيين البريطانيين والأمريكيين عمقاً إلى نصّه المؤثر، أما جمالياته فكانت تظهر عبر الصورة المقربة الناطقة بقوة عن مشاعر شخصياته الرئيسية وفي تسجيله التفاصيل الخارجية المحيطة والمؤثرة في حياة المُسرب وأكثرها جذباً للاهتمام وقائع محاكماته والتحقيقات التي خضع لها، بالرغم من افتقاد بعضها لشروط تنفيذها اللازمة سينمائياً مثل؛ (جودة الإنارة ونقاء الصوت) إلا أنها رغم ذلك ساهمت في تقوية عناصره الحكائية اللازمة.

لطول مدة التصوير وتشعُّب الأحداث الواقعة خلالها لجأ المخرج “ديفيد ليلوب” إلى أسلوب “التداخل الزمني” ليحافظ على وحدة خط فيلمه وعدم تشظِّي حكايته، وبالتالي ما عاد يهم متلقيه كثيراً معرفة متى عُقدت جلسات محاكماته ومتى نُقضت أحكامها على سبيل المثال، المهم كان بالنسبة إليه هو توصيل نتائجها وعرض دلالاتها النهائية والأمر نفسه انسحب على جوانب أخرى تتعلق بانتقال أبطاله بين جغرافيات متباعدة، إذ تم معالجتها بالتركيز على الوقائع التي جرت فيها ومعرفة تأثيرها على مجمل القضية، التي قام “رودوولف ألمر” بسرد أجزاء منها بلغة واضحة وبأفكار منتظمة، في أول لقاء تم معه في جزيرة “موريشيوس” في المحيط الهندي.
تاريخه الوظيفي، الذي بدأه قبل خمسة عشر عاماً في بنك “يوليوس بير” مُشَرِّف. ارتقى سلمه حتى وصل إلى منصب نائب المدير التنفيذي ومسؤول قسم الزبائن في فرع “جزر كيمان” الكاريبية.
يلمح الصحافي البريطاني نِك ديفيد إلى خلفية “ألمر” العمالية وإيمانه بفكرة العدالة، التي ربما كانت وراء عدم ارتياحه للعمليات غير القانونية التي اكتشفها بنفسه خلال عمله في الجزر الكاريبية وتعزّزت بعد انتقاله للعمل في “بنك ستندارد” وعليه قرر كشفها للعدالة.
يميل الوثائقي إلى تصديق فكرة الصحفي فيُشير إلى تاريخ ظهور بوادرها في الأشهر الأولى من عام 2003، حين أخضعه البنك لفحص “جهاز كشف الكذب” الذي تُخضع إدارة البنوك موظفِّيها له دورياً. مباشرة بعدها قرّروا طرده من العمل بذريعة محاولته خداع الجهاز.
بعد خمس سنوات من الإحباط والتردُّد سيقرر المُسرب السويسري، بدوره، إرسال قسم من الوثائق السرية الخاصة بالبنوك التي عمل فيها إلى “ويكيليكس” ولم تكن مشهورة كفاية في بداية عام 2008.
ركّز على مجموعة خاصة منها تكفي لتسليط الضوء على جانب، لم يكن معروفاً على نطاق واسع، من جوانب التلاعب المالي والتهرُّب الضريبي، ويتمثل في فتح الزبائن الكبار “شركات” لهم، ذات طابع تعاوني وخيري وتسمى في حقل البنوك بـ”صناديق الدعم”، في مناطق غير خاضعة للرقابة الدولية المعروفة بـ”الجنات الضريبية” وغالباً بأسماء غير أسمائهم.

وظيفة تلك الصناديق استقبال الأموال غير المصرح بها لدوائر الضرائب، من البنوك السويسرية التي تلعب دور الوسيط “الموثوق” والمحافظ على سرية نقلها وعدم كشف هوية أصحابها الحقيقيين.
يدقق “تسريبات من جنة ضريبية” الوثائق الخمس الأولى المتعلقة بـ”حيتان” “الجنات الضريبية” يظهر من بينهم رجل الأعمال تونغ شي ـ وا، واليونانية آنا كانلاكيس وابنة النحات الشهير هنري مور، التي فتحت “صندوق سبنسر” لنقل أثمان مبيعات الأعمال الفنية الثمينة إليه دون الإعلان عنها للدوائر الضريبية ولم يستغرب المحللون والصحفيون وجود اسم الجنرال المكسيكي “أرتورو تشابارو” على لائحة أصحاب الصناديق الخاصة إلى جانب إحدى المرشحات لرئاسة البرازيل.
أغلبية هؤلاء وخلال عمليات تفتيش الشرطة لبيوتهم وجدوا عندهم مبالغ كبيرة غير معروفة المصدر.
من تقصِّيه توصل الوثائقي إلى حقيقة صادمة تمثلت في استغلال “الحيتان الكبيرة” والبنوك لوسائل الإعلام. فبعد مدة من نشر التسريبات سارع بنك “يوليوس بير” بتكليف مجموعة محاميين من ولاية لوس أنجلس الأمريكية للتشويش على التسريبات وإحاطة مصداقيتها بظلال كثيفة من الشك.
يعرف هؤلاء المحامون كيف يتعاملون مع المؤسسات الإعلامية وبشكل خاص “الانترنت” ويعرفون جيداً آلية عملها من خلال صلتهم المباشرة بأصحاب أشهر صفحاتها. وعلى خط ثانٍ يعملون على تقديم المسرّبين والجهات الناشرة لوثائقهم إلى المحاكم وفي أحيان كثيرة يقومون بإيصال تهديدات مبطنة ذات طابع قانوني إليهم.
عن التسريبات الأولى يقدم “ويكيليس” خلاصة لها ويقومها بالإيجابية لأن مجموعة المحاميين التابعة للمؤسسة استطاعت منع البنوك من رفع قضايا ضدهم إلى المحاكم ما أعدّوه نصراً لهم. لكن على المستوى الشخصي ازدادت الضغوطات على المسرب “ألمر” ووصلت إلى حد تهديد عائلته وإخافتها، ما اضطرّه لترك الجزر والعودة إلى مدينة زيورخ.
الأخطر في شهاداته تعريتها التواطؤ غير المعلن بين مكاتب الادعّاء العام السويسري وبين أصحاب البنوك. فكل الشكاوى المقدمة لهم ضد رجال “التحري الخاص” الذين ما انفكوا يستفزونه ويقتربون من بيته سجلّوها ضد مجهول وأسقطوها. سيكشف المسرب سراً مذهلاً حول عمل الشرطة والادعاء العام السويسري، وسيدفع الوثائقي للتأكد منه لأنه من غير المصدق أن تتجاهل جهة وظيفتها حماية المواطن والدولة الوثائق الخطيرة، التي سلمّها لها ولا من المعقول أن تقوم هي بنفسها بتسليم الـ”سي.دي” السري إلى البنك مع نسخة من الشكاوى المقدمة ضده واسم المشتكي مثبت فوقها!
سيُفجر الوثائقي “قنبلة” ثانية من خلال كشفه معلومة سرّبها له “رودلوف” تؤكد تسليمه نسخة من الوثائق إلى دائرة ضرائب مدينة زيورخ وقد شفعت له خطوته تلك كثيراً وساعدت الوثائقي على المضي في “النبش” عن الحقيقة ومعرفة حجم التواطؤ بين مؤسسات الدولة السويسرية وبين أصحاب البنوك ودرجة تقارب مصالحهما في اللحظة “الحرجة” التي قد يثيرها “مشاغب” مثل المُسرب السويسري؟!

ستبرهن سير المحاكم وقرارتها المتباينة ضده الارتباك السائد في عمل دائرة المدعي العام في زيورخ وستشكف أيضاً انحيازها للبنوك واعتماد أكثر حيثيات تهمها على قانون “حماية السرية البنكية”. على هذا المبدأ، الذي جرى العمل به منذ ثلاثينات القرن الماضي وما زال، يمكن إتمام كل العمليات غير الشرعية للبنوك ويمكن للزبائن المتحايلين النوم بهدوء ما دامت أسمائهم وأموالهم في أمان. عند هذه النقطة يتوقف الوثائقي ويحللها بعمق مدعوم بوثائق تظهر رغبة قادة الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية للحدّ من تنفيذه بل والرغبة في إلغائه، لأنها تخسر سنوياً مليارات الدولارات بسبب “تهريبها” عبر البنوك وتحت غطاء “حماية السرية”.
لا يفصل الوثائقي البلجيكي بين الشخصي وما يتعرض له المُسرب السويسري من عقوبات وسجن لمدد متقطعة وتهديد جدِّي لوجوده، وبين القضايا المرتبطة به بوصفه خصماً عنيداً للبنوك والإعلام المتعاون معها ولأجهزة الشرطة المحلية.
مهمة ليس بمستطاع رجل واحد التصدِّي لها ومع هذا ظلّ “ألمر” على موقفه حتى بعد خروجه من مستشفى الأمراض النفسية، بسبب ما تعرض له من ضغوطات رهيبة وبعد سجن انفرادي لمدة نصف عام، لم يركن إلى منزله بل قرّر العمل في السياسة فانضم لحزب صغير دافع عنه يوم كان وحيداً يواجه أكثر من تنِين عملاق.
رفض قبول الرشاوى التي عرضوها عليه وسجلّها الوثائقي سراً، ولم يرضَ بالتعويضات مقابل السكوت ولم يتهاون في الدفاع عن قيَّمه. رجل نادر رأينا أشباه قليلة له وفي مجال عمله مثل تلك التي قدّمها المخرج “بِن لويس” في فيلمه “قنبلة فالتشاني المالية” لكن يبقى التَميُز في عمل “ديفيد ليلوب” لافتاً، لجمعه أكثر من أسلوب سينمائي في عمل واحد، ولبنائة الدرامي المحكم وتحليله المعمق لطبيعة عمل البنوك وصلاتها القوية بالأنظمة السياسية الغربية.
