الكلاسيكية الوثائقية “معركة شيلي”

أمير العمري

في عام 1973، كان المخرج السينمائي باتريشيو جوزمان Gozman في الحادية والثلاثين من عمره، لم تكن لديه خبرة سابقة في الإخراج السينمائي، وكان قد عاد قبل فترة قصيرة إلى بلده شيلي، بعد أن درس السينما في مدريد، وكان الرئيس سلفادور الليندي، أول رئيس جمهورية يساري يصل إلى السلطة عن طريق الانتخابات الديمقراطية، قد أمضى عامين ونصفا في الحكم، متمتعا بشعبية كبيرة في أوساط الطبقات الفقيرة، وكان قد بدأ برنامجا موسعا للإصلاحات الاجتماعية، شملت توزيع الأراضي على الفلاحين، وتأميم الكثير من المصانع، وتحديد حد أدنى للأجور، وكان الليندي يستند على تحالف اليسار ممثلا في جبهة “الوحدة الشعبية”.

الرئيس سلفادور الليندي يلقي خطابا من شرفة القصر الرئاسي

لم يكن اليمين ولا القوى الاحتكارية الخارجية راضية عن سياسيات الليندي رغم أنه كان يعارض بشدة اتخاذ إجراءات استثنائية مصرا على احترام قواعد الديمقراطية وقد ظل يرفض تسليح الجماهير لحماية المصانع حتى بعد بلوغ الإضرابات التي نظمتها القوى الرأسمالية بدعم مباشر من المخابرات الأمريكية، ذروتها، وكانت تهدف إلى إسقاط الرئيس الشرعي المنتخب وإجهاض تجربته الإصلاحية.

في خضم هذا الصراع قرر باتريشيو جوزمان ومعه فريق من خمسة أشخاص، كانت تنقصهم المادة الخام والخبرة السينمائية، تصوير فيلم يرصد ويسجل تطورات الأوضاع في شيلي، والتجربة الفريدة في التاريخ التي تتمثل في وجود رئيس يحظى بشعبية كبيرة ويتطلع إلى تخليص بلاده من قبضة الاحتكارات العالمية. وقد بدأ التصوير الحي المباشر في الشوارع والقرى والمصانع والأحياء الشعبية وداخل أروقة البرلمان والدولة والحكم بل والمؤسسة العسكرية، ورصد من البداية التطورات التي أدت إلى وقوع الانقلاب العسكري في 11 سبتمبر 1973 الذي أطاح بنظام الليندي ورسخ ديكتاتورية عسكرية فاشية ستستمر لسنوات طويلة، ويروح ضحيتها عشرات الآلاف من الأرواح، ويتعرض المزيد إلى الاعتقال والتعذيب والنفي والتشريد، وقد أمكن لهذا الفريق السينمائي الصغير تحقيق هذا السبق بفضل كمية معقولة من شريط الفيلم الخام أرسلها المخرج الفرنسي الطليعي كريس ماركر، هدية إلى صديقه جوزمان.

وهكذا تمكن جوزمان من إنجاز الفيلم الوثائقي الملحمي الكبير “معركة شيلي” The Battle of Chile (1975- 1979) المكون من ثلاثة أجزاء، والذي أصبح مؤخرا، متاحا على أسطوانات مدمجة وأتاح بالتالي للمهتمين بدور الفيلم الوثائقي في علاقته الواقع السياسي، مشاهدته والتعلم من تجربته الرائدة.

المخرج جوزمان يسار

كفاح شعب أعزل

تبلغ مدة عرض الأجزاء الثلاثة أربع ساعات ونصف الساعة، ويحمل الجزء الأول عنوان “انبعاث البورجوازية وكفاح شعب أعزل”، اللقطة الأولى في الفيلم تختصر التاريخ، وتوجز ببلاغة بصرية مذهلة موضوع الفيلم: من زاوية مرتفعة من أعلى بناية مقابلة للقصر الجمهوري في سانتياجو، نشهد تصاعد سحب الدخان مع توالي قصف الطائرات الحربية للقصر الرئاسي واشتعال النيران، وخروج ألسنة اللهب من نوافذه ثم تتسع الصورة مع تراجع العدسة بحركة “الزووم” إلى الوراء تدريجيا قبل أن يظهر عنوان الفيلم على الشاشة التي أصبحت تمتليء بالدخان والغبار.

ينزل التعليق الصوتي ليعود بنا الفيلم إلى الوراء، إلى الرابع من مارس 1973، قبل ستة أشهر من قصف القصر الرئاسي، إنه وقت الانتخابات البرلمانية التي تستقطب أنصار وأعداء حكومة الوحدة الشعبية، من اليمين ومن اليسار، وعبر سلسلة من اللقطات الفريدة لتجمعات ومسيرات المؤيدين من الطبقات الشعبية في الشوارع، تتسلل الكاميرا بمهارة بينهم، يتوقف المخرج ويوجه السؤال نفسه للكثيرين منهم: ما رأيك في الانتخابات؟ ونستمع للمرة الأولى في السينما ونشاهد مباشرة، ذلك التلاحم المذهل بين الجماهير الغفيرة والرئيس، فقد اعتبرت الانتخابات في ذلك الوقت اقتراعا بالثقة على حكومة الليندي، وتكتلت أحزاب اليمين (المعارضة) ضده وكانت على ثقة كبيرة من نجاحها في التخلص من حزمة الإصلاحات التي هددت مصالحها، وهو ما نلمسه في حماس ممثلي الطبقة الوسطى ورجال الأعمال وسائقي التاكسيات الذين يؤكدون جميعا أنه سيصوتون لصالح اليمين: الحزب الديمقراطي المسيحي والحزب الوطني.

(معركة تشيلي – الجزء الأول: تمرد البرجوازية، Cile / 1973-1979)

يصور الفيلم الأجواء المشحونة في الشوارع، وحالة الاستقطاب الحادة بين اليمين واليسار، ويرصد موقف الأفراد بحيادية، بل يتوجه أيضا إلى منزل أسرة من “الطبقة الوسطى” لاستطلاع رأي ربة البيت وابنها في الانتخابات. ولكن نتيجة الانتخابات تأتي في النهاية بمثابة صدمة كبرى لليمين، فقد نجحت جبهة الوحدة الشعبية في الحصول على مقاعد أكثر مما كانت تتمتع به في البرلمان، لكن أحزاب المعارضة مجتمعة مازالت تتمتع بالأغلبية، بعد انفراط عقد تحالف اليسار مع الديمقراطيين المسيحيين الذين انضموا لأقصى اليمين، وأصبحوا يطالبون بإلغاء التأميمات والتراجع عن برنامج الإصلاحات. 

التباين واضح بين تلك اللقطات القريبة للوجوه التي يمتليء بها هذا الجزء من الفيلم، بين وجوه سيدات الطبقة الوسطى، التي تبدو عليها علامات الصحة والحيوية ومعالم التجميل والتكلف وهن يتخذن أوضاعا خاصة لافتة أمام الكاميرا، ونساء الطبقة العاملة، بتلقائيتهن في الحديث أمام الكاميرا بحماس، يدافعن عن مكتسباتهن، ويؤكدن أنه لولا وجود الليندي في الحكم لما تحقق لهن شيء. 

بناء المشهد الذي يستغرق 16 دقيقة، يجمع بين السلاسة في الحركة وسط الجموع، والتقاط التفاصيل الدقيقة للوجوه المختلفة، والتحرك وسط السيارات التي تعبر الطرق، من خلال ذلك الأسلوب الذي اشتهرت به مدرسة “السينما النضالية” في أمريكا اللاتينية التي نشأت في الستينيات، وهو أقرب إلى أسلوب “الجريدة السينمائية” أو مدرسة “سينما الحقيقة”، مدعوم بالتعليق الصوتي من خارج الصورة، الذي يظهر أحيانا ويختفي أحيانا أخرى ليترك للصورة مجالا للتنفس، وإظهار الأصوات الطبيعية والأجواء المحيطة، كما يشرح ويقدم بعض المعلومات التي يقصد منها تنوير المشاهد، من خلال ذلك الجدل الدائم بين شريطي الصوت والصورة، يتحقق الأسلوب الثوري التعليمي الذي لا يفتقد للشاعرية والرونق والإيقاع الحي النابض.

وجوه من الطبقة الوسطى كما ظهرت في الفيلم

تدريجيا سيكشف الفيلم عن اتساع المقاومة التي تشنها أحزاب وتجمعات اليمين من خلال الإضرابات التي تنظمها خاصة إضراب عمال النقل احتجاجا على نقص قطع الغيار (نتيجة المقاطعة الأمريكية) لكنه صور على أنه عجز من جانب الحكومة، ونرى كيف يواجه عمال المصانع الأمر بتحريك حافلاتهم المخصصة لنقل العمال، لكي تساعد في نقل السلع والمواطنين، وكيف يعتلي المصور إحدى تلك الحافلات ليصبح وسط الناس، يسجل بينما يوجه المخرج الأسئلة.

ويأتي الإضراب الأكبر الذي سبب الكثير من الفوضى والاضطراب أي إضراب عمال مناجم النحاس، وهو أكبر مكسب حققته طبقة أصاب المصالح، علما بأن 20 في المائة من دخل شيلي يأتي من تصدير النحاس، وقبل التأميم كانت المناجم خاضعة لشركات أمريكية، العمال يطالبون بزيادة الأجور، ويصرون على مواصلة الإضراب رغم مناشدة الرئيس لهم بإنهاء الإضراب، لكن مع تأييد البرلمان بأغلبيته اليمينية لهم ضد الرئيس، وتمويل أعضاء البرلمان من اليمين- كما نرى بوضوح في لقطات مباشرة- لصندوق دعم أسر العمال المضربين، ينظم أصحاب الدكاكين إضرابا آخر تضامنا مع عمال النحاس، وتدور اشتباكات نراها بين الشرطة والعمال المضربين، ثم تخرج مظاهرات عارمة مضادة تأييدا للرئيس وسياساته، تردد شعارها الشهير الذي سيتردد كثيرا خلال الفيلم: الليندي.. الليندي.. الشعب سيحميك”. 

ينتهي إضراب عمال المناجم بعد 76 يوما، بعد أن تسبب في خسائر بملايين الدولارات، لكن اليمين يفشل في الإطاحة بالرئيس، ويقول التعليق الصوتي إنه لم يعد أمامهم سوى خيار واحد، وفي مشاهد مذهلة في قوتها وقرب الكاميرا من موقع الأحداث أمام القصر الجمهوري مباشرة، نرى تحرك وحدة عسكرية في الجيش يوم 29 يونيو 1973 لمهاجمة القصر، تحركات العربات العسكرية في الشوارع، فزع المواطنين وفرارهم أمام الطلقات النارية التي يطلقها العسكر.. ويقول التعليق إن باقي قطاعات الجيش لم تدعم المحاولة الانقلابية.

لقطة من الفيلم تظهر دبابة في اتجاهها إلى القصر الجمهوري

وفي لقطة دخلت تاريخ السينما الوثائقية ضمن فيلمنا نفسه، تتركز كاميرا المصور الأرجنتيني ليوناردو هنريكسن (وكان يعمل لحساب التليفزيون السويدي)، من على مسافة قريبة، على ضابط وحوله مجموعة من الجنود يطلقون النار، بينما ترقد جثة صحفي على الأرض أمام الضابط مباشرة.. الضابط يلمح المصور فيصوب مسدسه نحوه ويطلق النار ثم يأمر الجنود بإطلاق الرصاص عليه.. تهتز الصورة مع سقوط المصور على الأرض، لكنه يموت والكاميرا مازالت تصور لحظة مصرعه، وينتهي الجزء الأول من الفيلم.

سنعرف فيما بعد، من خلال المعلومات المتوفرة، أن الفيلم التي صوره جوزمان وفريقه، كان بطله المصور الأرجنتيني “خورخي ميللر سيلفا” (الفيلم مهدى إليه) باستثناء المواد التي استعان بها جوزمان من لقطات الأرشيف التليفزيونية، وقد تمكن من تهريب نحو 20 ساعة من الشرائط المصورة، إلى السويد، واعتقل جوزمان لشهرين في الملعب الرياضي يسانتياغو مع آلاف الأشخاص، قبل أن يتمكن من الهرب إلى كوبا التي سبقه إليها من بقى من أعضاء فريق الفيلم، وهناك أجرى المونتاج لفيلمه، أما المصور سيلفا فقد اختفى منذ اعتقاله ولم يظهر له أثر حتى يومنا هذا!

لقطة من الفيلم

الانقلاب

يبدأ الجزء الثاني من حيث انتهى الجزء الأول، أي بفشل المحاولة الانقلابية التي يقول التعليق إنها لم تلق تأييد باقي الجيش لأن الوقت لم يكن مناسبا بعد. أما البرلمان فقد صمت تماما ولم يصدر عنه بيان يدين ما وقع. ويصور جوزمان في هذا الجزء وهو بعنوان “الانقلاب” لقطات من أعلى للجنود أمام القصر الجمهوري، وفي لقطة نادرة يظهر بينوشيه (الذي سيتزعم الانقلاب فيما بعد) وهو يرتدي الخوذة التي يرتديها الجنود، يسير برفقة وزير الدفاع في حكومة الوحدة الشعبية (براتس)، والجنرال بيكرنج قائد الجيش، وكان بينوشيه وقتها من أنصار احترام الشرعية. ونرى في لقطات أخرى كيف ينزل براتس وبيكرنغ وسط المتظاهرين الذين تجمعوا أمام بوابات القصر الجمهوري لإدانة الانقلاب لإقناعهم بالانصراف وبأنهما سيتوليان الأمر، ثم انسحبت القوة العسكرية.

البرلمان كما نرى في لقطات مباشرة، يرفض مطلب الليندي إعلان حالة الطوارئ في البلاد، ومنحه سلطات أوسع لمواجهة جماعات العنف الفاشية، والطريف أن قيادات الانقلاب الذين اتضح فيما بعد أنهم من أنصار الحزب الزطني، لجأوا إلى سفارة الإكوادور، ويصور الفيلم المظاهرات الواسعة التي اندلعت احتجاجا على المحاولة، ويطالب المتظاهرون الليندي بحل البرلمان ولكنه يظهر ليلقي خطابا من شرفة القصر الرئاسي، يرفض حل البرلمان مصرا على استمرار التجربة الديمقراطية، لكنه يلوح باجرء استفتاء إذا اقتضى الأمر.

يتابع جوزمان في هذا الجزء يوما بيوم، تطورات الأوضاع داخل المصانع، وتصدي العمال لمحاولات عرقلة الإنتاج، ثم نجاح البرلمان في استصدار قانون حظر تسلح العمال وبدء الجيش حملة موسعة تنتهك المصانع وتقوم بنبش القبور (كما نرى) واستجواب العمال للبحث عن أسلحة، لكنهم يفشلون في العثور على أي منها. ويوجه زعيم العمال اتهامات مباشرة للولايات المتحدة بالتحريض على الانقلاب.

تستمر غارات الجيش بطائرات الهليكوبتر على المقابر والمصانع بحثا عن الأسلحة، وينقسم اليسار على نفسه، وتبدو مناقشات أعضاء النقابات العمالية متشددة في مطالبتها بتشكيل ميليشيا مسلحة لحماية المصانع، في حين يرفض قطاع آخر ويحذر من عواقب التسلح، وفي 19 يوليو نشاهد اغلاق العمال للطرق احتجاجا على اعادة الحكومة بعض المصانع التي سبق تأميمها لأصحابها يتحت الضغوط.

احتجاج العمال

يسعى الليندي كما نشاهد، لعمل ائتلاف مع الديمقراطيين المسيحيين لكن في 27 يوليو يتم اغتيال مستشاره الخاص لشؤون البحرية ” أرتورو أرايا بيترز”، ويتوقف الفيلم طويلا أمام اجتماع قيادات الجيش قبيل تشييع جنازته، مركزا على وجوههم، راصدا خلجاتهم، مستعرضا بالكاميرا سكناتهم وهمساتهم وابتسامات بعضهم ودموع البعض الآخر التي تبدو مفتعلة أثناء تشييع الجثمان بمشاركة الرئيس ألليندي، وكأنما يريد الفيلم التمهيد للانقلاب القادم الذي سيقف معه ويؤيده هؤلاء الضباط أنفسهم الذين يتظاهرون الآن بأنهم حماة الديمقراطية. 

يقول التعليق إن الجنرال كارلو براتس قال بعد فراره من شيلي الى الأرجنتين (عقب الاتقلاب) وقبل أن يُغتال هناك، بأن اغتيال بيترز كان بهدف الحيلولة دون أن يطلع على ما كان يجري داخل الثكنات من تخطيط للانقلاب القادم، وحتى لا تصل تلك المعلومات إلى الليندي. 

نرى بعد ذلك لقطات تفصيلية لإضراب سائقي الشاحنات، ولجوء الحكومة الى سحب الشاحنات المعطلة وتشغيلها بواسطة العمال، وهو ما يعترض عليه البرلمان ويتهم الحكومة بالاعتداء على الملكية الخاصة، ويضطر الليندي لتغيير الحكومة ويعين عددا من كبار الضباط فيها، فيها كما يعين الجنرال بينوشيه قائدا للجيش، لكن العسكريين سرعان ما يتقدمون باستقالهم كما يطالب الجنرال بينوشيه باستقالة الرئيس.

في الرابع من سبتمبر يسير نحو 80 ألف شخص في شوارع سانتياجو احتفالا بحلول السنة الرابعة على تولي الليندي السلطة، ويعلن الليندي للشعب أنه يعتزم اجراء استفتاء عام على بقائه يوم 11 سبتمبر، لكنه نفس اليوم الذي تتحرك فيه الدبابات وتقصف الطائرات القصر الرئاسي ويُقتل الليندي (أو يضطر لإطلاق الرصاص على رأسه حسب رواية أخرى)، ويبدأ حكم الفاشية في شيلي.

لقطة من الفيلم

في الفصل الأخير من الجزء الثاني نستمع إلى الخطبة التي وجهها الرئيس للشعب الليندي في السابعة والنصف صباحا، عبر إذاعة القصر الجمهوري، يؤكد وقوع انقلاب عسكري في البلاد، وصر على البقاء في موقعه وعدم الاستسلام، ثم يتحدث بالراديو مجددا في التاسعة والربع، ليؤكد أنه سيظل على ولائه لشعبه حتى لو دفع حياته ثمنا لذلك. ونرى اقتراب الدبابات من القصر وإطلاق النار، ثم قصف الطائرات لمبنى القصر في غارات متتالية، ثم يظهر الجنرال بينوشيه مع اثنين من مساعديه على شاشة التليفزيون، يعلن حل البرلمان والأحزاب والسيطرة على السلطة. ويقول لنا العنوان الأخير الذي يظهر على الشاشة إن “معركة شيلي لم تنته بعد”.

سلطة الشعب

في الجزء الثالث من الفيلم “سلطة الشعب”، يفتح جوزمان هامشا عريضا، فيعود تفصيلا، إلى سلسلة التحديات التي واجهها نظام سلفادور الليندي، وتمثلت أساسا في الإضرابات المتتالية التي بدأت من عام 1972، ووصلت إلى ذروتها في صيف العام التالي، ويصور كيف تصدى العمال والمواطنون العاديون، في المدن والأحياء والقرى والمصانع، لتعطيل الإنتاج، أو إغلاق المحلات وتفشي السوق السوداء، وشح المواد الضرروية، وخلقوا بدائل لنقل المواطنين بعد توقف المواصلات العامة نتيجة إضراب السائقين، وشكلوا ما عرف بـ “الأحزمة” التي يضم كل منها مجموعة من المصانع التي أصبحت تعمل بنظام التسيير الذاتي من أجل ضمان استمرار الإنتاج، واستمرار التصدير ونقل السلع، في ملحمة شعبية هائلة شاركت فيها النساء مع الرجال. 

تدخل الكاميرا إلى المصانع التي هجرها المهندسون والموظفون لتقابل العمال الذين تولوا إدارة العمل بأنفسهم وواصلوا الإنتاج، يتوجه جوزمان ومصوره إلى العمال، يصورون كيف استمر عدد من العمال التابعين للحزب الديمقرطي المسيحي المعارض للليندي في العمل تضامنا مع زملائهم، إن الجزء الخاص بالمصانع الذي يركز على استمرار الآلات في الدوران هو بمثابة فيلم مستقل وممتع عن “متعة العمل”، وسيمفونيا آلات الإنتاج، هنا يتحرر الإيقاع من الشكل السردي التعليمي ليتخذ طابعا شاعريا يذكرنا بأفلام من كلاسيكيات الوثائقي مثل “برلين سيمفونية مدينة عظيمة” (1927) لوولتر روثمان، و”الرجل والكاميرا السينمائية” (1929)  لدزيجا فيرتوف.

المخرج باتريسيو غوزمان ينظر للأسفل، لا يستسلم للذاكرة، ويرفض نسيان التاريخ الدموي للتشيلي

وعندما يتسع نطاق عمليات التخريب التي تقوم بها جماعات اليمين، ويشكل الليندي حكومة يعين فيها وزراء من العسكريين، يشعر العمال بالثقة في أن الجيش سيتدخل لحمايتهم من عنف “مومياوات” اليمين وجماعات أصحاب المصالح، وهي الثقة الخادعة التي سيثبت فيما بعد أنها لم تكن في محلها. وبوعي تاريخي مدهش يتحدث المخرج من وراء الكاميرا مع عدد من العمال من أنصار الليندي عن رأيهم في مشاركة العسكر في الحكومة فيبدي معظمهم ترحيبهم بذلك، وكأنما كان صناع الفيلم يتشككون وقتها في عواقب تلك الخطوة. 

أسلوب تصوير المقابلات في الفيلم لا يعتمد على الكاميرا الثابتة في مواجهة المتحدث، بل على الحركة النشيطة للكاميرا، فبعد أن تتركز قليلا على وجه الشخص المتكلم، تبتعد الكاميرا- دون قطع- لتتجول بحرية وترصد التعبيرات المختلفة على وجوده الأشخاص الحاضرين في المكان، لتخلق إحساسا بالحضور الجماعي والمشاركة.

كانت مظاهرات أنصار الليندي تردد الهتافات ضد من أطلقت عليهم “المومياوات”، أي أصحاب المصالح من الرأسماليين المستغلين وعملاء الاحتكارات الأمريكية في شيلي. ولكن المومياوات هم الذين انتصروا ولو لفترة، بفضل الانقلاب العسكري الذي ألغى جميع الإنجازات التي حصل عليها الشعب، وسلم اقتصاد البلاد مجددا الى “المومياوات” ولكن إلى حين، فلكل شيء نهاية!

إن “معركة شيلي” درس في قيمة وأهمية وخطورة الفيلم الوثائقي الذي يسجل الأحداث وقت وقوعها أي يعتمد على التصوير المباشر، ولذلك كان طبيعيا أن يدفع مخرجه ومصوره وفريق العاملين فيه الصغير، الثمن باهظا، اعتقالا وقتلا واختفاء ونفيا، , وأن يظل الفيلم ممنوعا من العرض في شيلي حتى اليوم بعد زوال نظام “المومياوات”.

 

 


إعلان