“تعلم السياقة”.. صداقة غير عادية في نيويورك

محمد موسى 

رغم أن عرضه العالمي الأول كان في مهرجان تورنتو السينمائي في عام 2014، إلا أن الفيلم الروائي الأمريكي “تعلم السياقة” استغرق عامين قبل أن يصل أخيراً إلى الصالات السينمائية الأوروبية، وبعد أن مرَّت عمليات التحضير له هي الأخرى بدورة طويلة وعثرات عديدة قبل أن يبلغ مرحلة التصوير الفعليّ، إذ إحتاجت بطلته الممثلة الأمريكية باتريشيا كلاركسون أعواماً عديدة حتى أقنعت شركات إنتاج صغيرة في الولايات المتحدة بإنتاجه.

لقطة من الفيلم: "ويندي"، المحررة والناقدة الأدبية الأمريكية و "دروان"، معلم السياقة من الأصول الهندية

إن السينما الأمريكية المستقلة التي ينتمي إليها الفيلم تمرّ منذ سنوات بأوقات عصيبة كثيراً، من منافسة التلفزيون لها، والذي أصبح الوجهة البديهية التي يقصدها أصحاب القصص والمقاربات الفنيّة التي كانت حكراً على السينما المستقلة الأمريكية، والانحسار المتزايد لمساحة هذه الأفلام في حسابات شركات الإنتاج والتوزيع الهوليودية، إذ يكاد ينقرض الفيلم التي تترواح تكلفته بين العشرة ملايين دولار والثلاثين مليونا، لتحل محله الأفلام ذات الميزانيات الصغيرة كثيراً، أو أفلام السلاسل والتي تهيمن اليوم على الطبيعة الإنتاجية للاستديوهات الهوليودية.

يستند الفيلم، الذي أخرجته إيزابيل كويسيت عن سيناريو لـ “سارا كونجيين”، إلى مقالة نشرت في مجلة “النيويوركر” المعروفة، وقصته عن صداقة غير متوقعة بين “ويندي”، المحررة والناقدة الأدبية الأمريكية و “دروان”، معلم السياقة من الأصول الهندية (يلعب دوره الممثل البريطاني المعروف بن كينغسلي).

الفيلم يقدم تشريحا نفسياً متمكناً لشخصياته على خلفية الأحداث العالمية القاتمة الراهنة، مركزاً على المكانة الخاصة  لـ “نيويورك” المدينة حيث تقع أحداث الفيلم، فهي ليست فقط الإطار الجغرافي والنفسي للحكاية، لكنها البوتقة التي تجمع أحلام وهواجس الشخصيات الآتية من خلفيات اجتماعية وإثنية مختلفة، في حين تقترب مشهديات المدينة في الفيلم من التسجيلية المحايدة. والأخير هو انشغال متواصل للسينما المستقلة الأمريكية التي تتخذ من مدينة نيويورك مسرحاً لها، والتي تبحث غالباً عن صورتها الخاصة للمدينة، وتحاول الفكاك من الوجه المترف والغني واللامبالي الذي كرسته الأفلام الهوليودية لـ “نيويورك” في العقود الأخيرة.

يتقاطع في وقت مبكر من الفيلم طريق شخصيتيه الرئيستين، فـ “دروان” الذي يعمل في الليل كسائق تاكسي، سيكون شاهداً على نهاية زواج “ويندي” مع زوجها، عندما كانا في سيارته، وسيترك سلوكه المهذب الأثر عند البطلة التي ستستعين به لتعليمها السياقة، تجمع ساعات تعلم السياقة البطلين، وتقرب عوالمها المختلفة، وستكون كاشفة للبطلة على وجه التحديد، عما يعانيه مدربها السيخي (من الديانة السيخية) من مضايقات في حياته اليومية، بسبب سحنته وزيه، وبالخصوص عمامته التي تشبه العمامة الإسلامية، دون أن يتحول هذا “الكشف” إلى خط سياسي مهيمن على الفيلم، بل يقدم كجزء من البناء التصاعدي لعلاقة الصداقة، ورد فعل بديهي من امرأة لبيرالية على الظلم الذي يقع أمامها. في حين لا تبدو أن شخصية “ويندي” تعني الكثير للبطل، عدا تعاطفه معها في أزمتها التي أعقبت نهاية زواجها الطويل مع زوجها.

يرتكز الفيلم على مسارين مستقلين إلى حدود كبيرة، ولا يتقاطعان إلا بعرضهما للأزمات العابرة التي تعصف بحياة الشخصيتين الرئيسيتين فيه، الأول للمرأة التي تعدت الخمسين من العمر، والتي اكتشفت هشاشتها بعد أن تركها زوجها من أجل امراة أصغر عمرا، والخط الآخر الموازي للرجل الهندي الأصل، اللاجئ السياسي الذي يعيش في أمريكا على الهامش تقريباً، والذي مازال لم يستعد توزانه بعد تركه بلده، وهو الذي كان يعمل هناك مدرسا في الجامعة، وليختار بعد وصوله الولايات المتحدة، أعمال أقلاً تطلباً، رغبة منه في تجنب المواجهات مع الآخرين. لا يَعد الفيلم بقصة عاطفية ستربط بين الشخصيتين، رغم أنه كان يسير أحياناً على الحدود الرفيعة بين بنيته الواقعية المتماسكة، والسقوط في الكليشيات العاطفية السهلة.

يأخذ الفيلم منعطفاً غير متوقع، عندما تصل خطيبة البطل من البلد الأُمّ، ضمن زواج تم ترتبيه هناك. ستزيد الحصة الزمنية التي يمنحها الفيلم لـ “دروان” بعد هذا التغيير في حياته، وستتشكل تفاصيل صغيرة عديدة مؤثرة حول الحياة الجديدة للبطل، الكثير منها سيكون عن الزوجة التي عليها أن تبدأ حياتها في بلد لا تعرف لغته أو تقاليده.

يقدم الفيلم قصة الزوجة بحساسية نسوية كبيرة وأبعادأ أوسع من القصة الفردية، إذ يجعلها أمثولة لما تمرّ به المهاجرات الجدد من وحدة وانعزال. ويؤسس السيناريو ذروته الدرامية في ربعه الأخير على تطور العلاقة بين الزوج وزوجته، رغم أنها بدت في البداية كجزء من مساعي الفيلم لإظهار صورة أوضح البطل. كما سيربط  الفيلم خواتيم قصة البطل الهندي مع زوجته، بما تبلغه حكاية البطلة الأمريكية، في مسعى تقليدي متأصل في السينما الأمريكية.

مخرجة الفيلم Isabel Coixet

تفهم المخرجة أزمات شخصيتيها الرئيستين المركبة جيداً، وستعكسها على شكل فيلمها ومناخاته، الذي يبدو وكأنه صور بعدسات تعبة ضجرة. حتى المدينة الضاجة بالحياة بالعادة، ستبدو كصدى لتلك الجروح النفسية العميقة للأبطال. كما يقلب الفيلم في تداعيات ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، عندما يتناول حياة مهاجرين شرعيين وآخرين يعيشان بشكل غير شرعي في الولايات المتحدة، أحدهما ابن أخت البطل.

في واحد من مشاهد الفيلم، يهاجم البوليس الأمريكي بيت المهاجرين الذي يعيش فيه البطل، بحثاً عن مهاجرين غير شرعيين. وفي مشهد آخر، يتحرش شباب أمريكيون بالبطل أثناء عمله، ويصرخون به: “ماذا تفعل هنا يا أسامة بن لادن”. 

يلعب الممثل المتميز بن كينغسلي، الدور الثاني له كمهاجر إلى الولايات المتحدة، وبعد دوره كمهاجر إيراني في فيلم “منزل من رمل وضباب”. هذا الممثل الذي لعب من قبل شخصية “غاندي” في الفيلم المعروف “غاندي”، قادر بسبب سحنته أن يلعب ما يمكن أن يُطلق عليه الإنسان العصري ذا الهوية الكونية التي يمكن تطويعها لتناسب هذه اللهجة أو تلك، تتجلى موهبة الممثل بفهمه العميق للشخصية، دواخلها وظاهرها، حكمتها وضعفها ومحدداتها، لتنعكس حتى في اللغة الجسدية للشخصية.

يسير كينغسلي في الفيلم بظهر مشدود منتصب وعضلات مشدودة، فهو لازال في قرارة نفسه الأستاذ الجامعي الذي وقف بوجه النظم القائمة، ودفع الكثير من أجل مواقفه، ولم تفارق تلك الحياة السابقة جسده. في المقابل تلعب الممثلة باتريشيا كلاركسون، دوراً متمكناً هي الأخرى، إذ عليها أن توازن بين شخصيتها الصلبة المتماسكة وتخلخل حياتها بعد انهيار زواجها الطويل ومشاق البداية الجديدة.


إعلان