بروكلين.. معنى الوطن ومغزى الاختيار
أمير العمري
ليس من الممكن اعتبار فيلم “بروكلين” مجرد فيلم رومانسي، صحيح أنه يحتوي على جرعة كبيرة من الرومانسية، كونه يتوقف طويلا أمام الحيرة العاطفية التي تتعرض لها شخصية بطلته الشابة “إليش” التي تقع في الحب مرتين في زمنين متقاربين، وتجد نفسها بالتالي، في مأزق نفسي كبير.

غير أن الوقوع في الحب، في مكانين مختلفين، يرتبط بالفكرة الأساسية في الفيلم والرواية التي اقتبس عنها (الكاتب الأيرلندي كولم تويبن) وهي تدور حول معنى الوطن، هل هو الماضي أم المستقبل؟ المكان الذي ولد المرء فيه ونشأ، أم الذي اختار أن يصنع فيه مستقبله؟ الأسرة التي كانت احتضنته وهو صغير والتي ستنكمش بالضرورة ثم تتلاشى مع تعاقب الزمن، أم الأسرة التي يتطلع إلى تأسيسها في مكانه الجديد؟
هذه التساؤلات التي تحمل أبعادا فلسفية، هي ما يرتقي بالفيلم ويرفعه ويجعل منه عملا فنيا بديعا يمتلئ بالتأملات التي تؤدي بدورها إلى تداعيات كثيرة أخرى حول معنى الحياة التي نعيشها، كيف نعيش ومتى يمكننا الاختيار، وهل يأتي اختيارنا في الوقت المناسب، ومن الذي يتعين عليه أن يدفع ثمن اختيارنا، وما معنى الغربة بالهجرة، أو الهجرة في الغربة، وهل انغماسنا في التجربة الجديدة سيؤدي بنا بالضرورة، إلى القطيعة من ماضينا الذي جئنا منه، مع الوطن الذي ننتمي إليه، أم سيصبح أيضا قطيعة مع الذات التي كانت، مع ضعفنا وتخاذلنا وعجزنا عن التحقق، ليبعث فينا شخصية جديدة تكتسب ملامح وأبعادا جديدة مختلفة كلما مضينا في اكتساب خبرات ومعارف جديدة.
تحفة سينمائية
“بروكلين” فيلم من الإنتاج البريطاني الأيرلندي الكندي المشترك، أخرجه المخرج الأيرلندي جون كرولي، وكان قد رشح لثلاث من جوائز الأوسكار هي أحسن فيلم وأحسن سيناريو وأحسن ممثلة. ولا يقلل من قيمته الفنية عدم حصوله على أي من هذه الجوائز، فنحن أمام تحفة سينمائية تؤكد قدرة “الفيلم التقليدي” على الارتفاع بالدراما إلى مستوى الكلاسيكيات الكبرى في الفن، فهذا الفيلم يتمتع بتكامل مدهش بين عناصره الفنية بحيث يستحيل على أي عين فاحصة العثور على هفوة واحدة في سياقه الفني.

تعيش بطلة الفيلم الشابة “إليش” مع أمها وشقيقتها في الريف الأيرلندي، تعاني من شظف العيش، وجفاف الحياة، وغياب الأمل، فتقبل على تجربة الهجرة إلى أمريكا، إلى نيويورك، بمساعدة قس هو أحد أقاربها، يتولى ترتيب الأمور بحيث تجد عند وصولها منزلا تتشارك فيه مع مجموعة من الفتيات، تديره سيدة طيبة القلب، صارمة لكنها لا تفتقر لروح الدعابة والمرح، كما تجد في انتظارها وظيفة في متجر كبير في حي بروكلين الذي كان يقيم فيه كثير من المهاجرين الأيرلنديين في تلك الفترة التي تدور فيها الأحداث، أي أوائل الخمسينيات.
يبدع المخرج في تصوير الفترة الأولى التي تتألم خلالها “إليش” وتعاني من الحنين الشديد إلى الوطن، إلى الأم والشقيقة، تتلعثم وترتبك أمام زبائن المتجر، تشعر بغربة قاسية وسط سكان المدينة وأمام قريناتها من الفتيات اللاتي تشاركنها السكن، فهي لا تستطيع بعد التأقلم مع حياة المدينة الكبيرة، لكنه بمرور الوقت تتعلم كيف ترتدي ملابس مختلفة، وكيف تستخدم أدوات التجميل، كما ستتمرد أيضا على تلك الوظيفة الروتينية وتذهب – بمساعدة القس- لتدرس المحاسبة.

يأتي التغيير الأكبر في حياة إليش عندما تقع في حب شاب من أصل إيطالي هو “توني” وهو “سباك” مجتهد، يعمل كثيرا ويدخر المال ويخطط لتأسيس شركة مع أشقائه وتشييد منزل لأسرة مستقبلية يحلم بها، وتقبل إليش على العلاقة العاطفية دون أن تتخلى عن تمسكها بمبادئها الأخلاقية التي تعلمتها من أمها، ويبدو هو متقبلا الأمر، متفهما حقيقة مشاعرها، مفتونا برقتها وسحرها وهدوء نفسها، وسلاستها في الإقبال على الحياة، يذهبان معا إلى السينما لمشاهدة الأفلام، أو يقضيان بعض الوقت على شاطىء قريب خلال عطلة نهاية الأسبوع، يدعوها توني لزيارة أسرته وتناول العشاء معها، وتعرب هي في إحدى رسائلها إلى شقيقتها، عن تذوقها طعم السعادة الحقيقية أخيرا.
تتمكن إليش أيضا من التفوق في دراستها وتحقق ما عجزت عن تحقيقه في بلدها، غير أن الحياة لا تسير دائما كما ما يشتهي المرء ويحلم، فيقع حادث يغير من مسار الفيلم، عندما تتلقى ذات يوم خبر وفاة شقيقتها نتيجة مرض غامض، وتقرر السفر إلى بلدها رغم أنها لن تتمكن من حضور الجنازة، يقنعها توني بأن يتزوجا قبل سفرها لكي يضمن عودتها إليه، ويتزوجان بالفعل، ثم ترحل وتلتقي بأمها، لكنها لسبب ما، تكتم عنها وعن الجميع، خبر زواجها. وسرعان ما تلتقي بشاب أنيق ثري طموح، هو في الحقيقة، حلم فتيات البلدة، يقع في حبها، وتشعر هي بعاطفة قوية تجاهه، وتواجه الضغوط النفسية المباشرة وغير المباشرة التي تصب كلها في دفعها إلى البقاء والتخلي عن فكرة العودة إلى أميركا، فقد وجدت ما لم تجده قبل رحيلها: الحب والدفء والسعادة والوظيفة الجيدة التي عرضت عليها، كما أن أمها أصبحت في حاجة إلى وجودها بجوارها بعد أن أصبحت وحيدة.

ماذا ستفعل إليش الحائرة الآن بين الزوج- الحبيب الذي أنزلت عليه ستارا كثيفا وتصورت لفترة أنه لم يعد هناك، والحبيب الجديد الذي يعرض عليها حياة مستقرة وسط الأصدقاء القدامى والأم في البلد الذي تنتمي إليه؟ هل سترضخ لمشاعرها الجديدة أو بالأحرى لكل تلك الضغوط العاطفية ومنها ما ينبع من داخلها أيضا؟
مراحل عاطفية
من أهم جوانب الجمال في هذا الفيلم أن مخرجه يعرف كيف يجسد انتقال إليش بين ثلاث مراحل نفسية وعاطفية: أولا المعاناة من الغربة واهتزاز الثقة بالنفس والتطلع بدهشة ووجل إلى الآخرين، ثم اكتساب الثقة والقوة والتحقق من خلال الحب، ثم مرحلة التمزق بين الرغبة في العودة إلى حيث نجحت في تثبيت قدميها في الجانب الآخر من العالم، أو الاستسلام للحل الأسهل، أي البقاء والاندماج في المحيط الأصلي بعد أن أصبحت الأحوال أكثر حميمية!
نتابع تطور الشخصية، في المظهر وفي الإقبال على الحياة، وفي السلوكيات، وفي العلاقة مع الآخرين (لنرى مثلا كيف أصبحت تتعامل بلباقة كانت تفتقدها مع زبائن المتجر بعد أن عادت للعمل بصفة مؤقتة وسط دهشة المديرة التي كانت تنتقدها) ونتابع أيضا معاناتها في الاختيار الذي لا يصبح فقط اختيارا بين حبيبين، بل في الحقيقة اختيار بين عالمين، بين ماضٍ ومستقبل، وبين انتماء سهل، وتجربة خلق جديدة في أرض بكر ستؤسس فيها بيتا وأسرة.

تساهم جميع العناصر الفنية في تجسيد رؤية الفيلم، من الديكورات إلى الملابس والإكسسوارات التي تبدو مطابقة لتفاصيل الفترة على نحو مدهش، والموسيقى التي تتسلل بين سطور الفيلم برقة ونعومة، نغمات البيانو الممتزجة مع نغمات التشيللو، تعبر في البداية عن الحزن والألم والحنين، ثم تترك مكانها لنغمات أكثر حيوية وسرعة تعبر عن السعادة والثقة والتحرر. ولكن يظل من أهم عناصر الفيلم، التمثيل الذي تتفوق فيه مجموعة الممثلين جميعا بما في ذلك ممثلو الأدوار الثانوية، إلا أن ما يعلو بالفيلم كثيرا هو أداء الممثلة “ساويرس رونان”، التي تبدو وكأنها خٌلقت من أجل هذه الشخصية، فهي تتقمصها بكل أبعادها، وتضفي عليها براءة خاصة، وجمالا داخليا نادرا، تعبر بملامح وجهها، بنظراتها الصامتة، بارتعاشة جفنها، تتماسك على نحو مدهش وتؤدي أداء محسوبا في المواقف التي قد تغري بالمبالغة في التعبير عن المشاعر.
وعلى عكس ما يعتقد البعض من سهولة التعامل مع فيلم تقليدي كلاسيكي، لدينا هنا مخرج يستخدم المونتاج بحرفية عالية وبراعة كبيرة، لكي ينقل لنا مشاعر بطلته المتغيرة. يكفي أن نتأمل فقط المشهدين الأخيرين من الفيلم.

تقف إليش فوق سطح السفينة وهي في طريق عودتها إلى نيويورك. اللقطة متوسطة، في الخلفية على اليسار وجه فتاة حائرة قلقة تسأل بطلتنا ما إذا كانت ذاهبة إلى أميركا للمرة الأولى، فتقول لها إنها تعيش هناك، وتطمئنها بأن الأمور ستسير على ما يرام: (في البداية ستصابين بالحنين لدرجة تصيبك بالمرض، وتتمنين الموت. ثم ذات يوم ستشرق الشمس، وستجدين نفسك وأنت تفكرين في شيء ما، أو شخص ما…).. تنتقل الكاميرا إلى وجه إليش في لقطة قريبة، وهي تغمض عينيها كأنها تتذكر التجربة التي مرت بها في البداية والنصائح التي استمعت إليها من السيدة التي كانت ترافقتها على السفينة.
ننتقل بالقطع من هذه اللقطة إلى لقطة يظهر فيها توني وصديق له يغادران دكان خباز مع استمرار صوت إليش على شريط الصوت من خارج الصورة: (شخص ليس له صلة بالماضي..). وفي اللقطة التالية نشاهد توني يتطلع إليها ثم يجري نحوها، ثم في لقطة أخرى يدخل الصورة بظهره وهو يهرول ناحيتها بينما هي واقفة تستند إلى جدار منزل، تضع يديها خلف ظهرا وتنظر نحوه مبتسمة في ثقة وقوة ويقين، ثم يستمر صوتها من خارج المشهد: (شخص ما لك أنت وحدك. وستدركين عندئذ أن هذا هو أين أصبحت حياتك).. ثم تحتضن توني بقوة وينتهي الفيلم البديع.