باتريشيو جوزمان وتجربته الوثائقية

أمير العمري

كتبت في هذا الموقع عن الفيلم الوثائقي الكبير “معركة شيلي” الذي ظهر في سبعينيات القرن الماضي ومازال يعتبر أحد أهم كلاسيكيات السينما الوثائقية في العالم، وكان مخرجه باتريشيو جوزمان (75 سنة) في ذلك الوقت مخرجا مبتدئا يتلمس طريقه، وسرعان ما مضى ليصبح أحد أهم التسجيليين في العالم، ومن أهم أفلامه التي كانت لها أصداء جيدة خلال السنوات الأخيرة فيلم “نوستالجيا للضوء” In Nostalgia for the Light (2010)، و”أزرار اللؤلؤ” The Pearl Button (2012) وقد سبق أن نشرت في “الجزيرة الوثائقية” عن هذين الفيلمين.

أما ما أردت أن أنقله للقارئ هنا فهو كيف يفكر المخرج الشيلي الكبير، وكيف ينظر إلى نفسه وإلى مساره وكيف يرى أفلامه وتأثيرها.

باتريشيو جوزمان

في الجزء الأول من “معركة شيلي” لقطة شهيرة دخلت التاريخ للمصور السينمائي السويدي الذي يصور مقتله مباشرة وهو يتلقى رصاصة قاتلة ثم يسقط على الأرض ونرى ذلك من خلال سقوط الكاميرا ومع ذلك استمرارها في التصوير، جوزمان يقول إنه استخدم هذه اللقطة لينهي بها الجزء الأول من فيلمه الطويل لأنه رأى أنها أقوى شيء يمكن أن يختتم به فصل الانقلاب العسكري، لقد أراد أن يصور البساطة التي يمكن أن تجعل ضابطا فاشيا يصوب سلاحه إلى مصور أعزل ويقتله، تماما كما يمكن لهذا الضابط تعذيب المعارضين بقسوة شديدة. 

معروف أيضا أن المصور جورج سيلفا ميللر الذي قام بتصوير معركة شيلي” اختفى تماما بعد ذلك ولم يعرف مكانه أبدا. ويقول جوزمان إنه يعتقد أن جثمانه قد ألقي به في مياه المحيط، وفي فيلمه “أزرار الماء” الذي سنتطرق إليه بعد قليل، صور اختفاء 1400 شخص قتلوا وألقيت جثثهم في مياه المحيط. وربما يكون قد دفن أيضا في أحد معسكرات الجيش ضمن مقبرة جماعية. ويضيف أن والد جورج وكان ألمانيا جاء إلى الأرجنتين هربا من النازي ليقتل ابنه فيما بعد على يد الفاشية الشيلية.

جورج مولر سيلفا، مدير التصوير للفيلم، في عداد المفقودين منذ نوفمبر 1974

في فيلم “أزرار اللؤلؤ” ” يصور جوزمان رحلة الماء، وعلاقة الإنسان في شيلي بالمياه المحيطة ببلاده تاريخيا، وكيف لعب الجشع والنهم الاقتصادي دورا رئيسيا في تغيير تلك العلاقة، بعد أن دخل المدفع والبندقية لإبادة السكان الأصليين والاستيلاء على أراضيهم، ثم يربط بين الماضي والتاريخ الحديث عندما تم إعدام المعارضين للحكم العسكري ودفنهم في أقاصي الصحراء في جنوب شيلي.

 يضع جوزمان الكثير من العناصر التي قد تبدو متناقضة، إلى جوار بعضها البعض: عنصر الماء إلى جوار الثلج والفضاء، النجوم، سكان أقصى الجنوب في شيلي، صحراء بتاجونيا، ضحايا حقبة الجنرال بينوشيه، كلها في بناء شعري يعزف على منظومة السماء والأرض، الموارد الطبيعية، وقسوة البشر على أنفسهم وعلى غيرهم، كيف أصبح الواقع خشنا فقيرا رغم كل هذه الثروة. ترى ما الذي كان يشغل بال جوزمان وهو يصور كل هذه العناصر ويضعها بجوار بعضها البعض في سياق سينمائي، وكيف يتوقع أن يربط المشاهد فيما بينها ويستخلص الدلالات من داخل العمل؟

يقول جوزمان إنه يطرح أفكاره على الورق أثناء مرحلة كتابة السيناريو، فهو يكتب النص ويصف الصور بالتفصيل، ويدون ملاحظاته بخط صغير جدا على هامش الورق، بل وأحيانا يرسم أيضا اللقطات بتصميماتها وزاوية الكاميرا، هنا يبدو أن كل شئ أصبح جاهزا وواضحا لكن جوزمان يقول إنه لا يتبع هذا السيناريو على أرض الواقع أثناء التصوير، بل يجد نفسه يصنع شيئا آخر. فالسيناريو في هذه الحالة مجرد دليل ذهني لما يريد تحقيقه لكن الالتزام بتفاصيله الفنية مسألة أخرى. وأظن أن هذه هي سمة السيناريوهات التي يكتبها معظم مخرجي الأفلام الوثائقية. فالفيلم عندهم كما نعرف يتشكل في شكله النهائي على طاولة المونتاج، في حالة فيلم “أزرار اللؤلؤ” مثلا اقتضى الأمر أن يذهب جوزمان إلى المواقع بصحبة مساعده ومهندس الصوت، مسلحا بكاميرا صغيرة في يده في رحلة استكشاف ولكن أيضا لتصوير بعض المواقع، وكانت لديه نقطتان للانطلاق والعمل منهما: سانتياجو العاصمة الشيلية، والقنوات المائية التي فضل أن يبدأ منها حيث قضى هناك عشرة أيام.

من فيلم "أزرار اللؤلؤ"

لم يكن قد سبق له زيارة تلك المنطقة من قبل في جنوب شيلي، التي تظل أرضا خلاء في معظمها، لا يقطنها كثير من الشيليين، بل تظل مجهولة بالنسبة لمعظمهم، فهم يعيشون في المنطقة الوسطى من البلاد، كان جوزمان إذن يكتشف منطقة لا يعرفها من بلاده تتميز بالتنوع الطبيعي المذهل من الجبال والصخور إلى الغابات إلى الثلوج إلى الشواطئ المياه الواسعة المفتوحة في المحيط، وحيث تبدو السماء كما لو كانت تقع في الفضاء الخارجي أي لا نهاية لها، وبعد زيارة تلك المنطقة بقنواتها المائية المتشعبة أيضا، أدرك جوزمان كيف سيكون فيلمه، وماذا سيحتوي. 

يقول جوزمان: أردت أن يكون فيلمي عن المحيط وهي منطقة غير معروفة، ولايوجد هناك بشر، رغم وجود مدينة تدعى يونتا أريناس عثرت فيها على قصة جيمي بوتون، ثم عدت إلى سانتياجو حيث استأنفت تصوير المقابلات مع عدد من الأشخاص، وهناك عثرت على البروفيسور المتخصص في التاريخ الذي أطلعني على كل شئ يعرفه، وكذلك الشاعر راؤول زوريتا وهو شخصية بديعة، ثم ذهبت إلى باريس، وخلال سنة تمكنت من تطوير الموضوع بعناصره المختلفة، وصنعت الفيلم بحيث يدور حول زرارين أو محورين الأول الذي عثر عليه في جثة بالمحيط، والثاني في قصة جيمي بوتون نفسه، وبواسطة هذين العنصرين أصبح للفيلم شكل، كيان.

كان جوزمان في هذا الفيلم وفيلمه السابق أيضا “حنين للضوء”، يستند إلى الرموز الصغيرة مثل الحجر والهاتف والجبل على سبيل المثال، هذه الرموز الصغيرة استخدمها كأساس للفيلم، وهو يفضلها عن استخدام الرموز الكبيرة، ويعتبر أنها تستمد قوتها عندما تستخدم في سياق سينمائي، إنه يستخدم أيضا التعليق الصوتي المصاحب للفيلم ولكن بأسلوب لا يشرح ولا يوجه بشكل تعليمي، ولا يتعلق بذكر الأرقام والحقائق المجردة بقدر ما يرتبط بالإحساس الشخصي للمخرج بالمكان، بما يوحي به المكان وتفاصيل الصورة، وهو بهذا المعنى تعليق شعري وليس معلوماتي.

لقطات من فيلم الحنين للضوء (2010) للمخرج باتريسيو جوزمان

في فيلمه البديع “حنين للضوء” يتعامل جوزمان مع التاريخ والسياسة من خلال نظرة فلسفية ذهنية، ترى علاقة بين دقائق الكون، وحبيبات الرمال في جوف الصحراء، بين الكواكب وحركتها وما تسقطه من ضوء، وبين العتمة التي تكمن داخل باطن الأرض، والعتمة القائمة التي تحلق فوق منطقة معينة من “تاريخ” تشيلي، لا يصلها ضوء الكواكب، ولا تخترقها نظرة المناظير العملاقة التي نراها في المشاهد الأولى من الفيلم. إنه يعيد تجسيد تلك العلاقة الوثيقة بين ما يحدث في الكون، خارج عالمنا المحدود، وبين ما هو كائن في جوف الأرض “حرفيا”، بين التاريخ: تاريخ الإنسان على هذه الأرض، وبين ما يكمن تحت هذه السماء، بين الماضي البعيد والماضي القريب، وبين الإنسان والتاريخ، من خلال هذا العمل الوثائقي الفريد. 

يقول جوزمان إن فيلمه هذا عن أفكار الشخصيات التي تظهر فيه وتتحدث أمام الكاميرا، وإنه لم يتدخل فيما يقولونه أو يشيرون إليه بل كان يتابع وينطلق من المنطلقات التي يضعونها.. وعندما يقارن عالم الفلك “جاسبار” بين ما يقوم به في مرصده وبين عمل النساء اللاتي يظهرن في الفيلم، فقد كانت هذه فكرته هو بالكامل، وعندما أتت فيوليتا وقالت إن المنظار الراصد المكبر يمكن أن يساعد في اكتشاف ما يوجد في باطن الأرض أيضا، فكانت هذه فكرتها.

هل يمكن أن يكون التطور التكنولوجي الكبير الذي وقع خلال العقدين الأخيرين قد ترك تأثيره المباشر على طريقة صنع الفيلم الوثائقي، وهل ترك ذلك تأثيره على جوزمان نفسه؟ جوزمان يرى أن شكل الفيلم الوثائقي مثل شكل أي فيلم آخر، وأن كل الأفلام يجب أن تُصنع ببساطة، وأن الروايات التي تدور حول المال، أو القصائد أو المقالات أو المسرحيات، يجب أن تتحقق، لكن كل سينمائي أو فنان يتناول ما يشاء من خلال رؤيته الخاصة التي لا ترتبط بالضرورة بالتكنولوجيا أو بالإنترنت.

من فيلم الحنين للضوء (2010)

وهو قد اختار الصحراء كأساس للفضاء الذي يدور فيه فيلمه هذا عن العلاقة بين السماء والأرض، الفضاء المفتوح وعالم النجوم، وما هو كامن تحت التربة من ألغاز لها علاقة بالتاريخ السياسي، أو تاريخ القمع في شيلي، فالصحراء عند جوزمان هي الماضي، وهي مليئة بالعظام والمومياوات ومراصد التطلع للنجوم، بما قد اختفى وبما قد نفق وتعفن من حيوانات، وأشياء أخرى كثيرة.

يرى جوزمان إن فيلمه يحتوي بعدا فلسفيا شخصيا حول العلاقة بين الحياة الإنسانية وحياة النجوم، الذاكرة الإنسانية وذاكرة النجوم، السرمدية الممتدة في الزمن.. صحيح أنه فيلم عما وقع في الماضي وتأكيد على أهمية الماضي القصوى في تشكيل حياة البشر في الحاضر والمستقبل، ولكنه أيضا يحمل علاقة بين الأرض والفضاء، ما يحدث في الكون، باعتبارنا جزءا عضويا من الكون، وأن الإنسان بجسده كما يعتقد جوزمان، ينتمي للكون، وليس فقط للأرض. 

باتريشيو جوزمان أثناء تصوير فيلمه "أزرار اللؤلؤ"

وكما تعمق اهتمام جوزمان بالتاريخ في شيلي، الذي كان أساسا لفيلمه الكبير الأول الذي كان سبب شهرته في العالم أي “معركة شيلي”، يعتبر جوزمان “حنين للضوء” بداية ثلاثية ذهنية ذات علاقة بالتاريخ ولكن مع الطبيعة، مع الإنسان، مع الفضاء، مع علاقة الإنسان بالكون. ولذلك فبعد أن قدم الصحراء والفضاء، ثم الصحراء والماء، ربما تكون خاتمة الثلاثية عن الصحراء (وهي عنصر راسخ في فكر جوزمان السينمائي كمعادل للماضي) والمدينة. علينا فقط أن ننتظر.

ويبقى الشعار الذي يضعه جوزمان على موقعه الخاص على شبكة الإنترنت شعارا له مغزاه الكبير: “بلد لا يملك أفلاما وثائقية هو بلد لا يملك تاريخا من الصور”. 


إعلان