“مراسل خاص” سخرية من خِفَّة الإعلام

محمد موسى 

يُعَّد فيلم “مراسل خاص” والذي قام الكوميدي البريطاني ريكي جيرفيس بإخراجه وتأليفه علاوة على لعب أحد الدورين الأساسيين فيه، التعاون الثاني له مع شركة “نتفليكس” الأمريكية لتجيز المواد الترفيهية عبر الإنترنت، وبعد أن قدما معا مسلسل “ديريك”، والذي كان إنتاجاً مشتركاً للشركة مع قناة “C4” البريطانية.

ملصق فيلم "مراسل خاص"

والفيلم الجديد هو عودة للممثل المتعدد المواهب إلى الأدوار الرئيسية في السينما ومنذ فيلم “اختراع الكذب” في عام 2009، رغم أنه لم يتوقف عن الظهور في أدوار صغيرة هنا وهناك، إذ كان يطل أحياناً، وهو المُقِلّ في حضوره السينمائي والتلفزيوني، في أفلام زملائه الكوميديين، كما فعل في الأجزاء الثلاثة من فيلم “ليلة في المتحف”، والذي جمع مجموعة كبيرة من الكوميديين البريطانيين والأمريكيين.

والحال أن وصف “أفلام” على النتاجات الحصريّة لـ “نتفليكس” مثل “مراسل خاص” يستدعي ويهيج نقاشاً عن ماهيّة هذه الأعمال الفنيّة وإذا ما كانت تستوفي كل الشروط الخاصة بالفيلم السينمائي وأهمها العرض على شاشة سينمائية كبيرة، إذ أنها تُعَّد في المقام الأول لكي تعرض على خدمة الشركة الحصرية، وتصل إلى المشاهد عبر شاشات متنوعة (تلفزيونية، أو أجهزة الكترونية أو هواتف صغيرة)، لا ريب أن معرفة الوجهة النهائية لهذه الأعمال تفرض شروطها الفنيّة والأسلوبية عليها وتحدد خيارات صانعيها. كما أنه من العسير تماماً معرفة مدى نجاح هذه الأعمال لجهة علاقتها مع الجمهور، بخاصة أن شركة مثل “نتفليكس” تمتنع تماماً عن الإفصاح عن أعداد مشاهدي برامجها، ليصعب ذلك من تقييم هذا النوع من التجارب السينمائية الخاصة.

من الفيلم

يُجرب الكوميدي البريطاني في فيلمه الجديد في كوميديا “الرفاق” الشائعة، والتي يتركز بناؤها على علاقة بين صديقين وأحياناً غريبين تدفعهما الظروف للبقاء معا أو القيام سويا برحلات طويلة، يستمد هذ النوع من الأفلام مفارقاتها من التناقضات بين شخصيتيها، وتتغذى كوميديتها من الفروقات في الطباع بين رفيقي الفيلم، وستضيف الاختلافات بين ثقافة البطلين، (أحدهما بريطاني والآخر أمريكي) إلى كوميديا فيلم “مراسل خاص”، وإن كان الاختلاف بين الطباع البريطانية والأمريكية تحديداً، بحث بتفصيلة أكبر في أعمال “جيرفيس” السابقة، والتي لم يتخلّ فيها أبداً عن تمثيل شخصية الإنجليزي حتى في أفلامه التي تدور قصصها في الولايات المتحدة، والذي عزاه في أحد لقاءاته التلفزيونية إلى الكسل، إذ يتطلب تمثيل شخصية بلكنة مُختلفة الكثير من التحضير والتعب، لا يجد الطاقة لتحمله.

كما يُمكن أن يُعَّد الدور الجديد للممثل البريطاني، تحويلة في نوعية الأدوار التي قام بها في الماضي، إذ يلعب هنا دور الرجل الطيب المسالم، مما يضيق من مساحة السخرية التي يمكن أن تقوم بها الشخصية، على خلاف شخصياته الأخرى، المركبة و الساخرة من نفسها ومن الآخرين. تجبر الشخصية الجديدة الممثل البريطاني البحث عن كوميديا جديدة تتناسب مع تركيبتها، ولتنسحب الذات الواضحة للممثل في أدواره السابقة إلى الخلفية، وتحل محلها تعبيرات داخلية قليلة، وكوميديا تبحث عن المواقف المفجرة للضحكات، مبتعدة عن سلاطة لسان الممثل وكوميدياه الخاصة والساخرة من كل شيء تقريباً، حتى من الصناعة الفيلمية أو الترفيهية ذاتها.

بطلي الفيلم

تدور قصة الفيلم حول زميلين في محطة راديو في مدينة نيويورك الأمريكية، الأول يدعى فرانك، مراسل إذاعي معروف، شجاع إلى حدود الصلافة ووسيم ولا يتورع عن إغواء من يقابل من نساء، فيما الثاني (إيان) على النقيض تماماً، إذ يحاول التقني في المحظة ذاتها أن يقود حياة هادئة دون تحديات أو مغامرات كبيرة، مستمتعا بزواجه من امرأة جميلة، والتي سنعرف مبكراً من وقت الفيلم بأنها لا تحبه، سريعاً سيتقاطع طريقا بطلي الفيلم، إذ يقرر الراديو أن يرسلهما معا إلى دولة أمريكية جنوبية تشهد ثورة وأحداث عنف، قبل ذلك سيقضي المراسل الوسيم ليلة مع زوجة زميله دون أن يعرف بأنها متزوجة، ليزيد هذا من تعقيد العلاقة بين الشخصيتين الرئيسيتين التي يقدمها الفيلم.

ستتعثر رحلة البطلين إلى الدولة المضطربة، عندما يفقد “إيان” جوازات السفر والإذونات الصحفية الخاصة لدخول الدولة، عندها يقرران وبعد تردد أن يغطيا الأحداث المشتعلة من غرفة صغيرة تقع مقابل محطة الراديو التي يعملان فيها، ففي عصر الهواتف الشخصية التي تعمل في كل مكان، يمكن الادعاء بالتواجد في أيّ دولة دون أن ينكشف الأمر، يسخر النصف الثاني من الفيلم وإلى حدود الهجاء من خِفَّة الإعلام المعاصر، كما أن البطلين لا يكتفيان بالتقارير الصوتية التي كانا يرسلانها، بل سيخترعان قصة تنظيم إرهابي لم يسمع به أحد، وسيدعيان خطفهما على أيدي هذا التنظيم، لتبدأ من الولايات المتحدة حملة جماعية تقودها زوجة “إيان” لجمع مبلغ الفدية الذي طلبه الخاطفون.

لقطة من الفيلم

لم تكن بداية الفيلم توحي أن هذا الأخير سيتحول إلى عمل ساخر من تغطيات الإعلام العالمي، لكن وعلى خلاف أعمال “جيرفيس” الأخرى، يبقى الفيلم في حدود أمنية من السخرية ولا يتطرف في معالجته، وبالتأكيد لن يبلغ سخرية فيلم “واغ ذي دوغ” من عام 1997 للمخرج باري ليفنسون، الذي قدم قصة عن تلفيق الحكومة الأمريكية لحرب كاملة لشغل انتباه الناس عن فضيحة جنسية تورط فيها الرئيس الأمريكي نفسه. هناك ومضات فقط من موهبة “جيرفيس” تظهر في فيلمه الأخير، كالمشهد الذي يقدمه معه زميله المذيع، وهما يتابعان تقريراً تلفزيونياً لمراسل مشهور، عندما كان يتحدث بعاطفية وثقة كبيرين من الدول الأمريكية الجنوبية، مستنداً على معلومات اخترعاها هما في تقرير سابق بثته محطتهما الإذاعية.

لا ريب أن اشتراطات شركة “نتفليكس” على “جيرفيس” قد كبحت جماح هذا الأخير، ليبدو التعاون الأخير مشغولاً بإرضاء جمهور عريض محافظ. بيد أن تفصيلة زوجة “إيان” والتي تخونه مع زميله، تنتمي بجرئتها إلى المؤلف البريطاني، وغريبة على هذا النوع الخفيف من الكوميديا، في حين شكلَّت قصة زميلة “إيان” في محطة الراديو، والتي تخفي منذ سنوات حبها له، الموازن الأخلاقي والبنائي لقصة الزوجة، والذي يعيد الفيلم إلى “النوع” السينمائي الترفيهي الذي ينتمي إليه. أما جزء الفيلم الذي يصور رحلتهما الفعليّة في الدولة الأمريكية الجنوبية، فهو خليط يجمع عناصر شائعة، بعضها يشير إلى الكوميديا المحببة المعروفة ل “جيرفيس”.

مخرج الفيلم الكوميدي البريطاني ريكي جيرفيس

منذ مسلسله الأيقوني “المكتب” والذي عرضته “بي بي سي” بين عامي 2001 و 2003، و”جيرفيس” يتصدر المشهد الكوميدي البريطاني، كما أنه حقق العبور الصعب إلى الجمهور الأمريكي، ويمكن الاستدلال اليوم على تأثيراته الواضحة في جيل كامل من الكوميديين البريطانيين والأمريكيين. لم يفرط الممثل الكوميدي الذي وصلته الشهرة في عمر متأخر بخصوصيته البريطانية، وشذب الكوميديا التي يقدمها من التهريج الزائد، وربطها عبر أدائه الطبيعي ولهجته التي لم يغيرها، بالحياة الحقيقية بحزنها وخوائها وأحلامها. برع الممثل في أداء الشخصيات غير الواثقة من نفسها، فكان المدير الذي يبحث عن اعتراف وحب زملائه في “المكتب”، والممثل الطموح الذي يضطر إلى التخلي عن مبادئه في “كومبارس”، والرجل المنعزل الذي يحب الحيوانات ويعمل في بيت للمسنين في مسلسل “ديريك”.

 


إعلان