“باليو” .. حرب في حلبة سباق الخيول
قيس قاسم
مرتين في صيف كل عام تنظم مدينة “سيينا” الإيطالية سباقاً شهيراً للخيول يطلق عليه اسم “Palio”، خلاله تصبح المدينة من بين أهم الوجهات السياحية العالمية، أما بالنسبة لسكانها فيتعاملون معه كـ”آلة زمن” تعيدهم إلى زمن جميل، خاض فيه فرسانهم وعلى مدى سبعة قرون معارك نفوذ طاحنة على مناطق مجاورة لهم، سطروا خلالها آيات الشجاعة والبطولة، لهذا تراهم اليوم حريصين على إعادة “تمثيلها” بكل تفاصيلها وبكل ما فيها من عنف وإثارة وبكل ما تحمل من أبعاد نفسية وثقافية، أغوت المخرجة “كوسيما سبيندر” لخوض تجربة نقلها إلى السينما والتعامل معها كـ”ظاهرة” اجتماعية أكثر منها موضوعاً وثائقياً جديراً بالرصد.

للسِباق، المقام دورياً في شهري يوليو وأغسطس، خصوصية وقوانين مختلفة عن بقية قوانين سباقات الخيول في العالم من بينها؛ السماح “للخيالة” بضرب بعضهم بعضاً بعصي صنعت لهذا الغرض كما أعطت الحق للحصان “الوحيد” بالمضي بقية السباق عندما يسقط “الجاكي” من على ظهره وفي حالة وصوله إلى خط النهاية يحصل “فارسه” على الجائزة.
هذه الاستثناءات وغيرها جعلت منه ساحة قتال حقيقية وليس مضماراً لسباق خيول عادي، في كل جولة من جولاته تسقط خيول وتحت حوافرها تُسحق أجساد فرسانها وعلى جدرانها تتهشم عضامهم وتُكسر رقابهم. على المستوى الشعبي، يكتسي السباق طابعاً احتفالياً يتجاوز حدود أي مهرجان ليصل إلى مستوى التقديس، التنافس بين مشجعي كل مدينة اختيرت للمشاركة فيه ضمن أقليم (توسكانا) يصل إلى مستويات عالية من الشِدة، صخبهم وهياجهم يحول مدرجاته إلى “حرب” لا تهدأ بانتهاء السباق، الذي لا تزيد مدته عن 90 ثانية، يتقرر خلالها مصير الخيالة، الفائز منهم يصعد إلى القمة والبقية ينزلون إلى القاع ويتعرضون إلى الاهانة والضرب المبرح، حالتهم “المتذبذبة” بقوة استدعت الوثائقي لرصدها والوصول، من خلال تجارب وشهادات بعضهم، إلى خفايا السباق “الأعنف” وكيف يدار ومن المستفيد الحقيقي منه ومن كل الهياج والبهرجة المصاحبة له.

الأسلوب الإخراجي الذي اتخذته “سبيندر” لنفسها في “Palio” ينتمي إلى “الواقعية الايطالية الجديدة” المتميزة بديناميكية صورتها ودقة تعبيرها، لتصوير الخيول الجامحة وهي تعدو مزبدة استخدم مدير التصوير “ستوارت بينتلي” أكثر من كاميرا، ولنقل دقائقها (الضرب والتصادم والتدافع) اقترب منها كثيراً وأخذ لها أحلى اللقطات لدرجة أوحت لنا نقاوتها ووضوحها كما لو أن كاميراته قد ثُبتت على ظهورها. حصيلة تصويره الرائعة صَعَبت عمل المونتير” فالريو بونيللي” ووضعته أمام امتحان انتقاء الأجمل منها. في النهاية جاء صنيعه رائعاً ومتناغماً مع عمل الموسيقار “أليكس هفيز” الذي أعطى للوثائقي ديناميكية خاصة وحلاوة. ميزة صانعة “باليو” الأهم؛ جماعية عملها وتوزيعها الأدوار بالتساوي على أبطالها.
“التاريخ” كان واحداً من بين أبطالها المهمين، رجعت إليه لفهم عناصر فيلمها وساعدت الأشرطة القديمة وبقية الوثائق على توفير خامات سهلت عليها كتابة فصل مهم من تاريخ السباق وأعطت بدورها حيوية لشهادات أهم أبطاله، حين شرعوا بالتحدث إليها وعرضوا تصوراتهم عنه.
“جيجي بروتشيللي”، “جوفياني أتزيني”، “أندريا دي غورتيز” و”سيلفانو فجني” أربعة خيالة مساهماتهم أغنت الوثائقي وقدمت أراؤهم أكثر من منظور للسباق، لعب “فجني” دور الراوي والشاهد على محطات مهمة من حياة أهم بطلين فيها وقدم نفسه على أنه من بين أكثر المنتقدين للأسلوب الذي يدار فيه وإلى الفساد الذي عم خلاله، لا ينحاز لشحص بعينه بقدر ما يحاول تقويم اتجاه كل واحد منهم، لعرض وجهات نظره وفهمها سينمائياً لازمت مخرجة الفيلم حديثه بالصورة والتسجيل القديم فصار كلامه وعلى أهميته خلفية لا واجهة، الواجهة في عمل ينتمي للمدرسة الإيطالية كان لا بد أن تكون الصورة، فهي وسيلة التوصيل الأهم عند المنتمين إليها!.

يمثل “بروتشيللو” مدرسة خاصة تعتمد على استراتيجية تبيح كل محظور في سبيل تحقيق النصر، براغماتيته حققت له 13 انتصاراً غدا بفضلها واحداً من أساطير السباق ومعبود مدينة “سيينا”. على النقيض منه يقف “غورتيز” صاحب الرقم القياسي: 14 مرة. فارس ملتزم بمباديء رياضية نزيهة لا تجيز الغش ولا تتخذ استراتيجيات بعيدة عن روح الفروسية.
على تجاربهما اشتغل الوثائقي وتوصل إلى حقائق مذهلة شديدة الارتباط بواقع إيطاليا اليوم، عنوانها الأبرز كان؛ تمجيد الذكورية والقوة والاعتماد على الحيلة لتحقيق المنافع الشخصية. كرس “بروتشيللو” تقاليد بغيضة من أبرزها شراء ذمم الـ”فرسان” المتنافسين معه في نفس السباق ما يسمح له بتحريكهم خلاله كما يريد، من المفارقات المصاحبة للسباق أنه لا يمنح المدينة الفائزة جائزة مالية بل يكتفي بتسليمها راية يقوم بكتابة اسم المدينة عليها وتلوينها رسامون كبار. لكن الحقيقة أن كل ما فيه يُباع ويُشترى، أموال المراهنين الكبيرة تشجع على الغش والمجد الذي يحصل عليه “الخيال” الفائز يغري بالتلاعب هذا غير الرشاوى التي يحصل عليها “الجاكي” وبأشكال مختلفة يتوصل إلى بعضها الوثائقي عبر ملازمته الدقيقة لأبطاله داخل المضمار وخارجه.
استغل “بروتشيللو” خصوصيات السباق لصالحه وابتكر وسائل جديدة للتحايل من بينها رشوة “المنطلق الأول”، يعطي سباق “باليو” للمتسابق، الذي يحصل بالقرعة على صفة “الفاتح” امتياز مروره في بداية انطلاق السباق منفرداً ومنفصلاً عن بقية المتنافسين، موقعه يكون عادة في النهاية وحين يسحب حبل الافتتاح ينطلق هو أولاً في ممر جانبي، وجوده في المقدمة يعطيه إمكانية إعاقة من خلفه أو بالعكس يسمح له بالعبور إذا ما أراد، حصوله على مبلغ كبير (يصل أحياناً إلى ربع مليون يورو) مقابل سماحه بإعطاء الأولوية لمتسابق ما فتح باب الغش واسعاً ورفع مستوى الرشوة عالياً، عمليات المساومة تتم علناً تقريباً، يرصدها الوثائقي بوصفها ظاهرة معيبة صارت تقليداً من تقاليد سباق يراد له أن يعزز روح الفروسية والشجاعة!

ولأنه سباق “خيول” ستكون هي البطل الأبرز في عمل “كوسيما سبيندر” المذهل، كل حصان مرشح للمشاركة يمثل ثروة، كيف يتم اختياره؟ تلك مسألة شديدة السرية والتعقيد حين حاول الوثائقي التوصل إليها اصطدم بحواجز ممانعة كثيرة من بينها؛ المتسابقون أنفسهم، كانوا يُحيلون كل “العمليات السرية” إلى إدارة مدنهم ومدربيهم ومالكي خيولهم، لم يكشفوا أبداً عن الأيادي الخفية التي تحرك الخيول والخيالة والجمهور ولا عن أسمائها، في المقابل لمّح “الرواي” إلى الفساد السياسي وإلى كبار مسؤولي المدينة، الذين منحوا أنفسهم حق إلغاء مشاركة أي حصان من أحد السِباقين وأحياناً كلاهما دون تقديم الأسباب. ليس هناك ضمانة أو قانون ينظم عملية شطب وإدخال الخيول الجديدة إلى المضمار حتى الفائزة منها في الشهر السابع يمكن إبعادها في شهر أغسطس والأغرب أن الفائزة والقوية منها غالباً ما يتم إبعادها وهذا ما يُعد شذوذا عن قوانين المسابقات الدولية.
لا يكتفي المتنافسون وأصحاب الخيول من التدخل السافر في سحب وإشراك الخيول بل وفي حياة الخيالة نفسها، شهادة المتسابق المخضرم “غورتيز” حول محاولات قتله أكثر من مرة وحرق إسطبله تشير إلى المستوى الدموي الذي وصله الصراع وإلى شدة التنافس على الأموال بين المتصارعين، ومن هذا الجانب اكتسبت مشاركة الشاب “جوفياني أتزيني” بعداً أخلاقياً لكونه من عائلة فقيرة ويحب ركوب الخيل كهواية لا كمصدر للمال والغنى. قيَمه ستقف بالضد من توجهات “بروتشيللو” وسيكون دخوله وفوزه في مسابقة شهر يوليو من عام 2010 نقطة تحول في مسار حياته ومسار الوثائقي الذي كاد أن يغرق في لُجة الأجواء العنيفة التي فرضها السباق عليه.
سيتابع الوثائقي البطل الشاب في بيته وفي ساحات التدريب وسينتظر نتائج مشاركته في جولة (أغسطس) ليرى كيف ستؤول الأمور؟. خلال مقابلاته لمساهمين هامشيين فيه مثل؛ حافظ أرشيفه وبعض موظفيه وزياراته لوالد الفارس الطموح سترسم أمامه ملامح جديدة للخيال المثالي، غير تلك النمطية الشائعة بين سكان المدن المتافسة والتي تلغيها عملياً أفعالهم الانتقامية ضدهم حين يخرجون من السباق خاسرين. والد الفارس عامل بناء يرى في “الفروسية” مهنة مثل غيرها من المهن يرتزق أصحابها منها ويعاملون فيها مثل العبيد.

صورة قريبة من تلك التي قدمها المخرج “ريدلي سكوت” في فيلم “المصارع” عن مصارعي روما، أبطال يتم إعدادهم لتحقيق نشوة المتفرجين عليهم وهم يشاهدونهم يتقاتلون فيما بينهم حتى الموت داخل الساحة المغلقة، في ساحة “بيزا دي كامبو” الإيطالية يحدث نفس الشيء اليوم تقريباً، فرسان على صهوات خيولهم يتصارعون فيما بينهم والجمهور يتمتع وينتشي برؤيتهم يتقاتلون على مضمايرها للوصول إلى خط النهاية، ولإضافة المزيد من القسوة عليها يرشون أرضيتها وممراتها الضيقة المحاطة بالأسوار بالماء ويكسونها بالحجر.
إنه نوع من الاستعباد ومن الاستغلال البشع لآدمية “الخيال” وخروج عن الوظيفة الرياضية، التي يقام من أجلها السباق، وتكريس لميول عنفية. غير فوز الفارس الشاب “المحايد” ببطولة أغسطس المثيرة، التي واكبها الوثائقي وسجل تفاصيلها بأجمل اللقطات، ظل كل شيء على ما هو عليه؛ “بروتشيللو” ما زال يبيع ويشتري بالخيول والخيالة رغم إصابته بكسور وإدارته “غير المرئية، تدير الصفقات والمدينة لا تجد إلا فيه ما ينعش روحها ويعيد المجد الغابر لها، أما على المستوى السينمائي فكان هناك نص رائع كُتب بلغة سينمائية رشيقة عنوانه؛”باليو”.