“سينما نوفو” ..غياب التحديد

 محمد رُضــا

العنوان بسيط ومباشر: “سينما نوڤو” (Cinema Novo) لكن الموضوع معقد والفيلم التسجيلي الذي حمل العنوان والذي حاول إريك روشا الإحاطة به من جوانب عدّة، رغم المحاولة هناك ما فات المخرج البحث فيه.

بالإضافة إلى أن إريك روشا هو إبن المخرج المنتمي إلى “السينما البرازيلية الجديدة”، تلك التي انبثقت في الستينيات، هو أيضاً سينمائي يبدو أنه يريد العمل في إطار السينما التسجيلية، على الأقل هذا ما تشي به قائمته من الأفلام منذ أن حقق أول عمل له، تحت عنوان «حجارة في السماء» (2002)، منذ ذلك العام أنجز ستة أفلام طويلة كلها تسجيلية ونحوها من الأفلام القصيرة التي عادة ما يقوم بتصويرها بنفسه.

المخرج "إريك روشا"

عاملان

الموضوع شاسع على هذا الفيلم واختيار المخرج لما يريد تقديمه منه فرض تغييبه لمسائل مهمّـة في نطاق هذا التيار الذي خلق متنفساً لمخرجين مختلفين أرادوا استخدام الكاميرا لتسجيل مواقف ذاتية جمعت أحياناً بين الشعر والسياسة ودائماً ما اشتغلت على أساليب تعبير غير مدرسية متوارثة وبالتالي غير تقليدية.

النظرة التي يوفرها الفيلم محددة بالسينما التي انتمت إلى مخرجيها المستقلين أمثال والد المخرج غلوبر وأتراب أبيه ومنهم ولتر ليما جونيور، روي غويرا، ليون هيرتزمان، نلسون برييرا دوس سانتوس وسيزاز ساراسيني من بين آخرين.

لكن الفترة المذكورة حملت رياح تغيير شديدة مشابهة في كل مناطق العالم، طوال الستينات وإلى سنوات عدة من السبعينات إنتشرت محاولات الخروج من وعن نطاق السينما السائدة، في مصر تم تأسيس «جماعة السينما الجديدة» وفي سواها التأم شمل المخرجين العراقيين والسوريين واللبنانيين والتونسيين، كما المصريين، لتأليف ما عرف بـ “السينما البديلة”. 

في الولايات المتحدة انطلقت سينما “الأندرغراوند” وفي بريطانيا اشتغل رتشارد لستر، توني رتشردسون، ليندساي أندرسون وآخرون على تأسيس «السينما البريطانية الجديدة» وكانت السينما الفرنسية تركت تأثيراً كبيراً على ما عداها منذ أن أقدم جان-لوك غودار وإريك رومير وفرنسوا تروفو على تشكيل نواة «موجة السينما الفرنسية الجديدة». 

لقطة من الفيلم التسجيلي Cinema Novo

الحال نفسه انتشر سريعاً بين الدول الأميركية اللاتينية من قبيل منتصف الستينات. في البرازيل كما في كوبا وتشيلي والأرجنتين على وجه الخصوص إندلعت تلك الحاجة لربط السينما بأفكار وذوات مخرجيها.

عاملان مشتركان بين هذه السينمات المختلفة: 

الأول: هو الإلتقاء على أن مثل هذا التعبير لا يمكن له أن يصبح حقيقة الا بالإستغناء عن السينما التقليدية الموجهة للجمهور العريض.

الثاني: هو نحو تكميلي للأول: الإختلاف عن التقليدي والمتداول من أفلام هو خروج مواز عن رغبة الجمهور السائد ما جعل كل هذه السينمات، ولو بدرجات متفاوتة، أقل قدرة على النجاح خارج حدود التقدير الثقافي والنقدي، من السينما التي قامت لتناوئها.

في وسط «سينما نوفو» (وهي ليست ذاتها موجة «نوفو سينما» التي إنطلقت في البرتغال في الوقت نفسه وإن لم تترك الأثر ذاته الذي تركته “سينما نوفو”) يعترف أحد المخرجين الجالسين أمام كاميرا إريك روشا بأن “السينما المختلفة التي كنا نقوم بها لم تستطع أبداً إستحواذ النجاح التجاري، الجمهور لم يقبل على أفلامنا”.

انقلاب

لكن البرازيل كانت أرحم، كموقع عمل وتعبير، من دول لاتينية أخرى، في الأرجنتين وتشيلي، اصطدمت السينمات الجديدة بالحكم الدكتاتوري الذي سريعاً ما قلب الطاولة على رؤوس المخرجين اليساريين الذين سعوا لتوظيف السينما لتغيير (وتثقيف) المجتمع، نتيجة ذلك هروب بعضهم إلى فرنسا ولجوء آخرين إلى كوبا واختفاء البعض الثالث. 

على نحو شبيه، استفادت السينما البرازيلية الجديدة من وجود أجواء ثقافية وسياسية متحررة، الرئيس خيو غولارت كان أصبح رئيسا سنة 1961 وحافظ على التيار اليساري الذي كان نما على عهد الرئيس السابق يوسلينو كوبتشك في الخمسينات. لكن غولارت كان آخر رئيس جمهورية يساري يستلم حكم البلاد إذ إطاح به إنقلاب عسكري مطلع شهر نيسان/ إبريل سنة 1964.

على ذلك، ما أصاب الحياة السياسية اليسارية في البلاد أقل مما أصابها عندما وقعت إنقلابات أخرى في تشيلي والأرجنتين حيث دفع عشرات ألوف المثقفين أرواحهم بسبب أفكارهم وتوجهاتهم السياسية حال وصول الحكم العسكري إلى السدّة.

هذا الجانب، أو أي جزء منه، يغيب عن الذكر في فيلم إريك روشا، لكن العذر الذي قد يواجه فيه المخرج هذا الغياب (والنقد إذا ما أُثير) هو أنه لم يرد الغوص في هذا الجانب بل إكتفى بعناوينه وذلك في رحى اهتمامه الأول وهو تقديم صانعي تلك الجديدة في مقابلات متلاحقة وعبر مقاطع من أفلامهم وبصورة متواصلة أيضاً.

لقطة من الفيلم التسجيلي Cinema Novo

ما لا عذر له هو مرور عشرات المقاطع من أفلام الموجة البرازيلية، موضوع الفيلم، من دون ذكر عناوين أفلامها، من مطلع الفيلم تتلاحق المقاطع المختارة ثم تبدأ بالتقاطع مع المقابلات، في البداية هناك تبرير جاهز: تلك المقاطع في الدقائق الخمس الأولى تقريباً تصوّر أناساً يركضون، الهدف غير مرئي وليس، ضمن هذه المقاطع، مهمّـاً، ما تثمر عنه تلك اللقطات والمشاهد المختارة للمقدّمة هو إثبات «ثيمة» ما لكننا لن نعرف ما هي، هي ليست عن الركض في الشوارع أو في البراري، وهي ليست للإيحاء بأن أفلام الموجة البرازيلية المذكورة امتلأت بمشاهد تصوّر أشخاصاً يركضون لأسباب شتّـى، لذلك سيبقى إختيارها لافتتاح الفيلم هو تلك الثيمة المفتوحة بلا تحديد.

مشاركة

لكن لاحقاً يصبح الأمر صعب القبول، لقد التفّـت المقاطع الأولى حول «ثيمة» (ما) لكن ليس هناك من ثيمة معيّـنة تفرض تغييب تحديد كل فيلم،  طبعاً يستطيع الناقد تحديد عدد من تلك المشاهد كونه شاهدها، لكن هذا لا يعني أنه سوف يقدر تحديد كل مشهد ومصدره. عليه في النهاية أن يقرأ العناوين والأسماء الواردة بعد الفيلم لأجل أن يحدد ما شاهده، ولن يكون ذلك صعباً لأن قائمة الأفلام ترد منفصلة ما يجعل من الصعب ربطها بالمقاطع لأنها مجرد ذكر غير مصوّر.

إذا كان هذا ما يحدث مع جمهور المهرجانات (عُـرض الفيلم في مهرجان “كان” ويشهد هذه الأيام عروضه في مهرجان ميونخ الألماني) فما البال مع الجمهور؟ الواضح أن  الغالبية لن تشعر بأن الموضوع على هذا النحو يريد فعلاً التواصل معها بقدر ما يريد تسجيل تحية للسينمائيين الذين اشتركوا كمجموعة واحدة في الكثير من الأحيان في تحقيق تلك الأفلام.

Cinema Novo

والمشاركة بين المخرجين في العمل مذكورة في الفيلم فكان روشا يعمل على إخراج فيلم ما بينما ينضم  سيزار سيرينسيني إليه كمونتير أو هرتزمان كمصوّر، والحال ذاته عندما يقوم هرتزمان بالإخراج ومعه مخرجون آخرون يعملون تحت مظلّـته.

ما سبق مؤسف لأن الفيلم يحك بشرة الحاجة لعمل مثله، ثري في مواده وجيد في توزيع مقابلاته وأرشيفياته وسريع الإنتقال بينها تبعاً لمونتاج جيد قام به ريناتو ڤالوني الذي كان قام بتوليف فيلم إريك روشا السابق «كرة يوم الأحد». وهو يلقي الضوء على حقبة مهمّـة من حقب السينما البرازيلية (ربما الأهم) وعلى من قام بها واشتغل عليها وجعل منها تياراً مهمّـاً بين تيارات السينما البديلة في ذلك الزمن وحول العالم.

إريك روشا يعلم أن الفيلم هو بمثابة تحية لكل الجيل السابق من المخرجين الذين عمدوا لصنع ذلك التيار الشبابي (حينها)، ولابد أنه يعلم بأن حسنات اسلوبه السريع والمثير للمتابعة حققت نتائجها كما خطط وأراد، لكن ليس من المؤكد أنه اكترث لأن يمنح الجوانب الرئيسة الأخرى حقها من العرض. لجانب غياب التطرّق الفعلي لوضع السينما البرازيلية في السياسة العامّة للبلاد، هناك غياب عن بحث أساليب العمل فردياً ثم عن إجراء مقارنة بين ما حققه هذا التيار، وكيفية تحقيقه، وبين التيارات اللاتينية الأخرى في الفترة ذاتها.


إعلان