حسين حبري: تراجيديا تشادية..

أمير العمري

ضمن قسم العروض الخاصة في مهرجان كان عرض الفيلم الوثائقي “حسين حبري: تراجيديا تشادية” Hissien Habre: Chadian Tragedy للمخرج محمد صالح هارون، وهو من الإنتاج المشترك مع فرنسا، ناطق باللغة العربية، كما صور بأكمله في تشاد، أما وصور المشهد الأخير فصور في السنغال.

المخرج "محمد صالح هارون"

محمد صالح هارون ليس جديدا على مهرجان كان، فقبل ثلاث سنوات شارك في مسابقة الأفلام الطويلة بفيلمه الروائي “غرغريس” Grigris، وقبل ذلك فاز فيلمه “صرخة رجل” A Screaming Man (2010) بجائزة لجنة التحكيم في كان. ويعمل هارون في السينما منذ 1994، وقد أخرج حتى الآن 18 فيلما قصيرا ووثائقيا وروائيا طويلا، ومن أشهر أفلامه “أبونا” (2002) الذي عرض في نصف شهر المخرجين في مهرجان كان.

أما الوثائقي الطويل الجديد “حسين حبري” (94 دقيقة) ففيه يوثق هارون للفظائع التي ارتبكت في عهد الرئيس التشادي الأسبق حسين حبري، الذي استولى على السلطة في انقلاب عسكري، وحكم البلاد في الفترة من 1982 حتى 1990 حين تمت الإطاحة به، وقد شهد تشاد في عهده الكثير من التصفيات الجسدية للمعارضين من الشباب، وقدر عدد الذين قتلوا فيما يوصف بأنه “مذابح جماعية” بأكثر من 40 ألف شخص، كما اعتقل عشرات الآلاف وتعرضوا داخل المعتقلات لأبشع أنواع التعذيب.

يضعنا هارون مباشرة أمام ضحايا حسين حبري، من خلال شخصية رجل يدعى “كليمو أبافوطة” هو الذي يصحبنا أمام الكاميرا مباشرة، ليلتقي بعدد من الضحايا من المعتقلين السابقين الذين قضوا سنوات رهن الاعتقال، يناقشهم ويتحدث إليهم ويسألهم وهم يروون له تفصيلا تجاربهم، ويصفون ما تعرضوا له من تعذيب بوسائل التعذيب الرهيبة ومنها الصدمات الكهربائية وسحق الخصى ودق المسامير في فروة الرأس، والضرب المبرح على الأقدام والسيقان، وسحق الأجساد والرءوس بالأحذية.

من ضحايا حسين حبري في الفيلم

وأبافوطة نفسه الذي يستجوب الضحايا السابقين الذين نجوا من تلك المحنة، كان في فترة ما، أحد المعتقلين، وهو يروي في الفيلم كيف أن الزنزانة التي وضع فيها كانت تمتليء بالجثث لدرجة أنه وغيره، كانوا يستخدمون الجثث كوسائد يستندون برءوسهم عليها، كما جاءته لحظة كان يتمنى موت آخرين من رفاق الحبس، لكي يفسحوا له مكانا داخل الزنزانة. وهو لا يكتفي فقط بالاستماع إلى شهادات الضحايا الذين تحصرهم كاميرا هارون في لقطات قريبة، ولكنه يتدخل في الحديث، ويصنع أيضا مواجهات مقصودة ضمن ما يعرف بعملية المصالحة الوطنية على غرار ما حدث في جنوب أفريقيا.

تتركز كاميرا هارون بوجه خاص على عيون الرجال الذابلة، وشفاههم الجافة المرتجفة، ونظرات عيونهم الزائغة الحائرة التي تحدق خارج الزمان والمكان، والاضطراب البادي في أحاديثهم، ومنهم أيضا من فقد ساقا، ومن فقد عينا وأصبح عاجزا عن الإبصار بشكل طبيعي.

يتضمن الفيلم كما أشرت، مواجهات مباشرة بين الضحايا والجلادين، أو بين بعض من نجوا من المأساة، ومن كانوا بمارسون تعذيبهم بكل قسوة. والهدف المعلن بالطبع هو الوصول إلى اعترافات مباشرة أمام الكاميرا، رغبة في التكفير عن الذنب، وعقد نوع من المصالحة التي تبدو في الحقيقة مستحيلة، فلا الضحية يمكنها أن تنسى بسهولة وتتغاضى عما تعرضت له، ولا الجلاد يريد أن يقر ويعترف بما ارتكبه من جرم.

أحد هؤلاء، على سبيل المثال، يواجه الضحية الذي تسبب في قطع ساقه، وكان لا يتوقف عن ركله وضربه بكل قوة رغم أوامر رؤسائه بالتوقف عن ضربه، يتلعثم ويتردد ويعتذر بل ويركع على الأرض لكي يقبل قدم ضحيته، مبررا ما فعله بالقول إنه كان مجرد جندي صغير ينفذ التعليمات، وأنه لم يكن ليجرؤ على رفض تنفيذ التعليمات.

يقول أحد الضحايا بشكل تلقائي أمام الكاميرا إنه تمكن وحده من إحصاء أكثر من ألفي جثة في المعتقل الذي كان محتجزا فيه، ويقول آخر إنه شاهد كثيرين يموتون بعد تعرضهم للتعذيب الشديد، وأن الغرض من التعذيب لم يكن العقاب بل القتل، ويصف كيف أن ما كان يصل إليهم من طعام كان قليلا جدا وكانوا يقضون أياما دون أكل أو شراب، وكانوا يرغمون أحيانا على شرب البول الذي يتبولونه.

"كليمو أبافوطة" مع بعض ضحايا نظام "حسين حبري"

يتوجه أبا فوطة مع أحد الضحايا السابقين إلى المكان الذي اتفقا على أن يلتقيا فيه بالجلاد أو السجان السابق الذي كان يمارس بكل صلف وعنفوان وغلظة، تعذيب ضحاياه ومنهم هذا الرجل الذي أصبح الآن كهلا،  ولاشك أن جلاده أيضا قد تقدم به العمر كثيرا. لكن الرجل لا يأتي، ويتساءل أبافوطة في استنكار: ألم يوافق على الحضور، ألم يعدنا بذلك فلماذا تراجع؟ ويجيب الرجل: إنه لا يمكنه أن يواجهني. لقد أدرك في اللحظة الأخيرة صعوبة الموقف.. إنه لا يستطيع مواجهتي!

يشرح التعليق الصوتي على الفيلم كيف كان الغرب يغض الطرف عما يرتكب في تشاد من تعذيب ومذابح يعتبرها هارون “عمليات إبادة جماعية”، ويرى أنها لم تثر اهتمام العالم الخارجي لأنها كانت تتعلق بالعنف من جانب السود الأفارقة ضد أبناء جلدتهم، إلا أن السبب الأساسي يعود إلى أن الولايات المتحدة كانت ترى في نظام حسين حبري عائقا أمام طموحات العقيد معمر القذافي في أفريقيا، خاصة بعد أن قامت ليبيا بغزو تشاد واحتلال الجزء الشمالي منه عام 1980، وقد أرادت فرنسا من ناحيتها، استخدام حبري الذي تصدى بقواته للجيش الليبي وهزمه، فكانت تقوم بتسليح قوات الأمن الخاص التي شكلها والتي عرفت باسم “إدارات الأمن والتوثيق”، وكان تتولى إنشاء المعتقلات وتعذيب السجناء وأشاعت في عموم البلاد موجة من الفزع، وتشبهت بما كان يمارسه الجستابو في ألمانيا النازية.

وقد فر حبري إلى السنغال بعد الإطاحة به، وظل حرا طليقا ينفي ارتكابه أي جرائم حتى عام 2005 حينما ضغط الاتحاد الأفريقي على حكومة السنغال تحت ضغوط من منظمات حقوق الإنسان، فحددت السلطات إقامته، ثم اعتقل عام 2013 وقدم أخيرا للمحاكمة وينتظر صدور الحكم عليه قبل نهاية العام الجاري 2016.

يستخدم هارون الكاميرا الحرة الصغيرة التي تهتز وترتجف أمام ارتجافات الشهود، ولا يستخدم في فيلمه لقطات من الأرشيف فهو لم يشأ أن يصنع فيلما عن الماضي من خلال الماضي، بل عن الماضي من خلال الحاضر أي من خلال معانات سجناء الماضي في الحاضر، وبم يشعر جلادو الأمس، في الوقت الحاضر وهم يواجهون ضحاياهم، وكأنه يقيم نوعا من المحاكمة، يستخدم فيها الضحية والمجرم والشاهد الأول (أبا فوطة نفسه) بحيث لا يتدخل المخرج في صياغة المشاهد أو توجيه الأسئلة بل يتركها لمن كان طرفا مباشرا فيها. وفي المشهد الأخير يصدمنا باللقطات التي صورت داخل قاعة المحكمة، لحسين حبري نفسه والحراس يسوقونه ويجذبونه بالقوة من ملابسه الأفريقية التقليدية البيضاء التي يرتديها ويلف وجهه بعمامة، وهو يصيح ويهدد ويتوعد ويركل معترضا على محاكمته.

"حسين حبري" رئيس تشاد السابق

إنه مشهد يحمل آلاف المعاني ورسالة لكل الديكتاتوريين والذين يتصورون أن جرائم التعذيب والإبادة يمكن أن تذهب طي النسيان. ربما سيواجه حبري ما أفلت منه الديكتاتور الشيلي “بينوشيه” الذي توفي قبل أن يتعرض للترحيل من بريطانيا لكي يواجه المحاكمة في بلاده على جرائمه ضد أبناء شعبه. 

أبافوطة نفسه الذي تعرض للتعذيب داخل معتقلات حبري يرأس منذ خمسة عشر عاما لجنة لم تدخر جهدا في الإبقاء على قضية تشاد حية، في إصرار على ضرورة تعقب حبري ومحاسبته على ما ارتكبه من جرائم.

أخيرا ليس من الممكن اعتبار فيلم “حسين حبري: تراجيديا تشادية” فيلما “محليا” أو عملا محدودا بزمن ما، عما تعرض له المعارضون في تشاد تحت حكم حبري، فهو ليس فقط تراجيديا تشادية، بل “تراجيديا أفريقية”، فمازال هناك الكثير من الممارسات القمعية والتجاوزات التي تفوق الخيال، من تعذيب وتنكيل وتجويع وقتل، تُمارس داخل السجون والمعتقلات في كثير من البلدان، في أفريقيا والشرق الأوسط.


إعلان