“هذيان إيران”
Published On 7/6/2016

محمد موسى
على خلاف مُعظم الأفلام التسجيلية التي تناولت قصص اللجوء واللاجئين من الأعوام الأخيرة، والتي وجهّت عدستها على رحلات اللجوء ذاتها بأخطارها المعروفة وما يعقبها من أحداث وخيبات، يبدأ الفيلم التسجيلي “هذيان إيران” للمخرجة السويسرية “سوزان ريجينا موريس”، من زمن يسبق تلك الرحلة أو حتى التخطيط لها، وعندما لم يكن بطلا الفيلم، يفكران بترك بلدهما، إذ يصل الفيلم إليهما، وهما يحضران لواحدة من الحفلات الموسيقية السريّة التي ينظمّاها بين الحين والآخر، أحياناً في عمق الصحراء الإيرانية بعيداً عن الرقابات الحكومية والإجتماعية العديدة. ويرافقهما الفيلم بعد ذلك لفترة من الزمن، وهما يحاولان أن يوزعّا الإسطوانات الموسيقية التي طبعاها على نفقتهما الشخصية، وبالخفاء دائماً. بيد أن الفيلم يأخذ بعدها انعطافة، وبعد أن يصل الشابان إلى خلاصة مؤلمة بأن الهروب من إيران هو الطريق الوحيد لتحقيق أحلامهما.
تستهلّ المخرجة الشابة فيلمها بتنبيه إلى المتفرج، بأنه سيتم التمويه على وجوه كثير من شخصيات الفيلم، خوفاً من عواقب يُمكن أن تصيب أصحابها، وخاصة أن معظمهم مازال يعيش في إيران. وهذا ما سيتحقق في الشق الإيراني من الفيلم، إذ ستُخفى معالم معظم الشخصيات، عدا تلك التي تم تصويرها بكاميرات سريّة، وكانت تنتمي أو عبرّت عن وجهات نظر رسمية، أو تلك التي لم تتورط بالتعبير عن وجهات نظر يمكن أن تشكل إدانة لها في عرف المنظومة الرسمية الإيرانية.
في وسط غابة الوجوه المُغطاة إلكترونياً، يتكرّس حضور البطلين الشابين كرمز لجيل إيراني، من الذي يستوطن المدن الكبيرة في الجمهورية الإسلامية، ويعيش حياة مختلفة موازية عن التي يعيش فيها السواد الأعظم من الإيرانيين.
يعثر الفيلم على مسارين يتقاطعان في تيمات الاغتراب والحريات في إيران، فيبدأ بالبطلين الموسيقيين وهما يحاولان أن ينظمّا حفلة جديدة، ويرافق جهودهما لجمع المُعدّات التقنية اللازمة لحفلة في الهواء في الطلق. وعندما يصل هذا الخط إلى خاتمته، يبدأ الخط الآخر، عن جهود الشخصيتين للهرب من إيران والتوجه إلى دولة أوروبية لطلب اللجوء.
كان المسار الأول أكثر أهمية بما كشفه من تفاصيل عن إيران، الذي مازلنا نجهل الكثير عن القوى التي تحرك مفاصله وقيمه، في حين عبّر الخط السردي الآخر، عن سوداوية الحياة في البلد. وعندما يصل الفيلم إلى سويسرا، التي نجح الشابان في الحصول على تأشيرة دخول للعزف في أحد مهرجاناتها الموسيقية، يتبدّل إيقاعه، وتفارقه الحدة والإلحاح الذي ميّز نصفه الأول، واقترب كثيراً من أعمال تسجيلية أوروبية عن موضوعات مشابهه، لجهة انشغالات أبطاله، وعرض همومهم في البلد الجديد الذي وصلوا إليه.
لا تُشتّت الوجوه المخفيّة قساوة ودلالات الجزء الأول من الفيلم، بل أن هذه الوجوه التي تم إخفاءها لحماية أصحابها، ستصبح كناية للحريات المسلوبة في إيران، وستُشكِّل لفرط تكرارها إحدى هويات الحياة في البلد. كما أن الفيلم لم أظهر ثياب الفتيات المتحررة من قيود السلطات، وشعورهن غير المغطاة. ينجح الشابان في النهاية بتنظيم الحفلة في منطقة صحرواية بعيدة، وسينقل الفيلم تفاصيل الحفلة تلك، التي بدت وكأنها الحفلة الأولى والأخيرة للمشتركين فيها، إذ تحررت الأجساد من ثقل الأحمال التي تنوء تحتها، وانطلقت الحناجر بالغناء، ولجأ الجميع إلى الكحول.

لا يحمل البطلان الآتيان من طبقة متوسطة إيرانية غنية رسالة سياسية حادة، خلا رغبتهما في العيش كما يشاءان. لكن الفيلم يأخذ مشكلتهما “المترفة” ويستلخص منها تفاصيل عامة، ويحاسب عبرها السلطات والقيم السائدة. تكتفي المخرجة بمراقبة بطليها، ولا تسأل أسئلة، لكن كاميراتها السريّة والمكشوفة ستنقل الكثير عن أحوال البلد. تتحول بعد المواقف لفرط عدم معقوليتها إلى كوميديا سوداء، كاللقاء الذي تم بين الشخصيتين وموظفين في وزارة الإعلام الإيرانية، من أجل التصاريح لطبع ألبومها الموسيقي، إذ تكشف قائمة ممنوعات الوزاة الطويلة، الأزمة التي يعيشها البطلان وغيرهم. يحاول الموسيقيان أن يطبعا أغلفة الألبوم بالسرّ، فيتجولّان على عدة مطابع، ترفض جميعها خوفا من العقوبات. ينتهي الجزء الأول من الفيلم، بإلقاء القبض على أحد البطلين، عندما كان في حفلة موسيقية جمعت شباباً وفتيات تحت سقف واحد.
في تحويلته التي جاءت متوقعة، يبدأ الفيلم بتسجيل يوميات التحضير لهرب شخصيتيه من إيران، من ولادة الفكرة، وحتى ركوبهما الطائرة المتوجهة إلى سويسرا. يغيب عن هذا الجزء من الفيلم العفوية التي اتسّم بها جزءه الأول. كما أن تتابع الأحداث على النحو الذي قدمّه الفيلم، يطرح الكثير من الأسئلة عن دور المخرجة، في تحديد مصائر شخصيات فيلمها لغايات الإثارة. فلماذا جاء الحل لأزمة الشابين من سويسرا بالتحديد، بلد المخرجة.
وهل تدخلّت هذه الأخيرة في حصولهما على الفيزا الخاصة ببلدها؟ كما بدا أن المشهد الختامي في الفيلم، عندما يُقرر الشابان وبعد انتهاء تأشيرتهما أن يطلبا اللجوء وليوقفا سيارة التاكسي التي كانت تنقلهما إلى المطار، تم ترتيبه بعناية، ليبلغ معه الفيلم ذروته، فمن الصعب بمكان التصديق أن قرار البقاء أو العودة إلى إيران، بعواقبه الجسيمه يتم البتّ فيه داخل تاكسي، وفي الساعة الأخيرة من سفر الشخصيات إلى بلدها.

ليس من المعروف إذا كانت المُخرجة نفسها قد صورّت مشاهد الفيلم في إيران أو أنها تركت المهمة لإيرانيين، ذلك أن هناك إشارات عديدة توحي أنها لم تكن حاضرة شخصياً في مواقف معينه، إذ لم يبدُ أن وجودها في إيران، وهي الشابة الأوروبية في بلد مازال مقفلاً إلى حد كبير بوجه الغريب، قد أثار الانتباه في المشاهد التي صُورّت في الأماكن الرسمية والعامة. كما بدا في مواضع معينة من الفيلم، أن هذا الأخير كان واسطة للشابين للوصول إلى أوروبا، إذ أنهما أحرقا بظهورهما الجريء في الفيلم كل مراكب العودة إلى حياة بدون مشاكل في إيران.
بيد أن هذه التفاصيل والمثالب والتي من شأنها أن تضعف قوة الحقيقة في أيّ فيلم تسجيلي، لم تلغِ أهمية “هذيان إيران”، بالإطلالة المهمة التي يوفرّها على ما يجري في الجمهورية الإسلامية، ولقيمته الأرشيفية بما يكشفه من تفاصيل لتقاطعات الفئة الاجتماعية التي تنتمي لها الشخصيتين الرئيستين فيه، برجل الشارع العادي في البلد، والمُهمة لفهم أزمات وهواجس إيرانيين يافعين.