“مخاطرة”.. قصة المتمرد الذي سرّب الوثائق الأمريكية

بعد فيلمها الوثائقي “المواطن 4” (Citizen4) الذي أخرجته عام 2015 وأثار الكثير من الاهتمام على الصعيد العالمي، تعود المخرجة الأمريكية “لاورا بويتراس” (54 سنة) بالفيلم الوثائقي الطويل الجديد “مخاطرة” (Risk)، وقد عُرض للمرة الأولى عالميا، في قسم “نصف شهر المخرجين” بمهرجان كان 2016.

فقد كان “المواطن 4” العمل الثاني من ثلاثية تقول المخرجة إنها تدور حول أمريكا بعد 11 سبتمبر، وكان الفيلم الأول في الثلاثية هو فيلم “القسم” (The Oath) الذي أخرجته عام 2010، ويتناول دور معتقل غوانتانامو السيئ السمعة، ومضاعفات سياسة “الحرب على الإرهاب” التي ارتبطت بإدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن.

“المواطن 4”.. خبير المعلومات الذي فضح الوكالات الأمنية

فيلم “المواطن 4” الذي حصل في العام الماضي (2015) على جائزة الأوسكار كأفضل فيلم وثائقي طويل، يصور قصة انشقاق “إدوارد سنودن” خبير تكنولوجيا المعلومات في وكالة الأمن القومي الأمريكي (NSA).

فقد قرر فضح تغول وكالات المراقبة وجمع المعلومات في الولايات المتحدة، وكشف للرأي العام كثيرا من المعلومات والملفات السرية التي تفضح انتهاك وكالات الاستخبارات الأمريكية للدستور الأمريكي، والاعتداء المنظم على حرية الأفراد عن طريق انتهاك الخصوصية، واختراق وسائل الاتصال الحديثة مثل الهواتف والإنترنت والبريد الالكتروني وحسابات البنوك وشركات الاتصالات ومواقع التواصل الاجتماعي، وكيف ضربت هذه الوكالات الاستخباراتية عرض الحائط أيضا بمبدأ احترام سيادة الدول (الصديقة) وتنصتت على المسؤولين فيها على أعلى مستوى، كما حدث في حالة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.

“مخاطرة”.. مغامر تمرد على المنظومة الأمريكية

أما الفيلم الجديد “مخاطرة” الذي يعتبر خاتمة الثلاثية، فتخاطر فيه المخرجة بالاقتراب من موضوع شائك للغاية، خاصة أن بطلها منشق آخر، أو مغامر فردي تمرد على المنظومة الأمنية الأمريكية، وهو الأسترالي جوليان أسانج، مؤسس ومدير موقع “ويكيليكس” الشهير المسؤول عن نشر ملايين الوثائق السرية التي تفضح كثيرا من أسرار السياسة الأمريكية في العالم، وكثيرا من الأسرار العسكرية أيضا من خلال الوثائق المصنفة تحت قسم “سري للغاية”.

صحف عالمية تعلق على أهمية فيلم “مخاطرة”

ويعتبر “أسانج” في نظر قطاع كبير من الرأي العام الأمريكي خائنا، أو -على الأقل- شخصا غير مرغوب فيه، فاقدا الأهلية ومشكوكا في استقامته، بعد أن تجاوز كل الحدود ونشر ما لم يكن يجب نشره على الملأ.

ومن جهة أخرى يعتبر فيلم “مخاطرة” أيضا مخاطرة، لأنه يغامر بتقديم وعرض وجهة نظر الرجل الذي كشف أسرارا كثيرة لا يحب كثيرون أن تُكشف، ويُعري الفيلم بالتالي كثيرا من الادعاءات الأمريكية حول الحريات المدنية وحرية تداول المعلومات.

كما يفضح الضغوط والتدخلات المباشرة من جانب الشرطة البريطانية التي هددت باقتحام سفارة الإكوادور في لندن حين لجأ إليها “أسانج”، بغرض القبض عليه وترحيله، لولا أن بادرت سفيرة الإكوادور في لندن ونجحت في الحصول على حق اللجوء السياسي له من الحكومة، ليظل -على نحو ما- مقيد الحرية، لا يمكنه مغادرة السفارة وإلا قُبض عليه.

“جوليان أسانج”.. مطلوب تحاصره الشرطة في سفارة الإكوادور

ينقسم الفيلم إلى عشرة فصول يحمل كل منها رقما، لكنه يدور حول ثلاثة محاور: الأول شخصية “جوليان أسانج” نفسه، كيف جاء قرار مؤسس لموقع “ويكيليكس” ببث كل ما وقع تحت يده من وثائق، وما تعرض له من مطاردة ومحاولة السلطات البريطانية القبض عليه، ثم كيف طلبت السويد تسليمه إليها بتهم تتعلق باغتصاب ثلاث نساء، وهي تهم ينفيها بقوة في الفيلم، ويقول إنها اختُلقت بضغوط أمريكية على حكومة السويد، وذلك لتسليمه أولا إلى السويد، ثم ترحيله إلى الولايات المتحدة، حيث يقدم للمحاكمة بتهم عدة، منها التجسس والإضرار بأمن البلاد، وتزويد أعداء الولايات المتحدة بالمعلومات.

وقد أتيحت الفرصة أمام المخرجة -التي سرعان ما ستصبح هي نفسها متهمة من قبل الأجهزة الأمريكية بدعم الإرهاب- لتصوير “أسانج” منذ 2010، فتابعت تطورات قضيته حتى بعد لجوئه إلى سفارة الإكوادور في لندن، وأتيحت لها فرصة تصويره داخل السفارة وتسجيل شهادته، كما صورت عن قرب محاصرة الشرطة البريطانية لمبنى السفارة تنتظر خروجه منها لإلقاء القبض عليه.

“جيكوب أبيلباوم”.. مواجهات المتحدث الرسمي باسم الموقع

أما المحور الثاني من الفيلم، فهو متابعة مساعدي “جوليان أسانج”، وعلى رأسهم “جيكوب أبيلباوم” الصحفي الأمريكي وخبير تكنولوجيا الإنترنت والمتحدث الرسمي باسم موقع “ويكيليكس”، ويظهر في مشاهد عدة من الفيلم، يتحدث ويشرح ويعقب ويعلق.

“جوليان أسانج” في مؤتمر صحفي في جمهورية الإكوادور

وتصوره المخرجة أثناء مشاركته في مؤتمر بالقاهرة بعد ثورة يناير/كانون ثاني، وكان يحضره رؤساء شركات الاتصالات المصرية خاصة شركة “تي إي داتا”، وقد واجههم مباشرة واتهمهم بدعم وتأييد نظام مبارك، وكشف كيف شاركوا في تضليل ملايين المصريين عن طريق إرسال الرسائل الدعائية لنظام مبارك، ووضعوا أنظمة للتجسس على حسابات العملاء بتنسيق مع وزارة الداخلية.

كما يدين موافقتهم على قطع الاتصالات والإنترنت في بداية الثورة المصرية في يناير 2011، ويقول إنهم جاءوا الآن يجلسون هنا متظاهرين بتأييد الثورة وإدانة النظام السابق، ولكن بعد سقوط هذا النظام، أي بعد أن أصبحوا في مأمن.

“سارة هاريسون”.. تهمة التآمر لتقويض الأمن القومي

من الشخصيات الرئيسية التي تظهر في الفيلم البريطانية “سارة هاريسون”، وهي مساعدة “أسانج” التي أصبحت حاليا مطلوبة داخل بلدها بتهمة التآمر لتقويض الأمن القومي، وقد ظهرت بعد عرض الفيلم في مهرجان كان، وتحدثت عن وضعها الحالي، وأدانت بقاء “أسانج” حبيسا داخل سفارة الإكوادور.

البريطانية ساره هاريسون، مساعدة أسانج والمطلوبة داخل بلدها بتهمة التآمر لتقويض الأمن القومي

في أحد مشاهد الفيلم نرى كيف تتصل “سارة” -في حضور “أسانج”- بوزارة الخارجية الأمريكية تطلب التحدث مع شخصية من أعلى المستويات في الوزارة، وتذكر “هيلاري كلينتون” بالاسم، وتكرر أن لديهم في “ويكيليكس” وثائق على درجة كبيرة من الخطورة، ويمكن أن تسبب الحرج سياسيا وعسكريا للإدارة الأمريكية، وتطلب فقط أن تنفي وزيرة الخارجية أو تؤيد صحة هذه الوثائق، وتكرر أنهم في “ويكيليكس” سيضطرون لنشر هذه الوثائق في حالة عدم وجود من يتحدث معهم بشأنها.

ثم يتناول “أسانج” الهاتف منها ويتحدث إلى الطرف الآخر بمنتهى الهدوء والثقة، لكن المكالمة تنتهي دون التوصل إلى شيء، وبعد ساعات تنفجر شبكات التليفزيون العالمية بأخبار “ويكيليكس” وما أذاعته من وثائق دامغة.

وثائق الحرب.. هدية من ضابط في وزارة الدفاع الأمريكية

يتناول المحور الثالث بعض الوثائق المصورة التي كشفها الموقع، منها ما يتعلق بالحرب على العراق، حيث تكشف إحداها قيام قناصة أمريكيين بقتل أكثر من اثني عشر شخصا من المدنيين العراقيين، وإصابة عدد آخر، وهو ما وصف فيما بعد بأنه نوع من “القتل بالتداعي”، ومنها ما يتعلق بالحرب في أفغانستان، ونحو ربع مليون وثيقة من وثائق وزارة الخارجية الأمريكية.

وكان الضابط الأمريكي “تشيلسي ماننغ” وراء تسليم هذه الوثائق إلى “ويكيليكس”، وقد حكم عليه عام 2013 بالسجن مدة 35 سنة، ويناقش الفيلم موقفه الأخلاقي مع بعض الشهود، ومنهم الناشط “دانييل إلزبرغ” الذي كان مسؤولا عام 1971 عن تسريب وثائق البنتاغون السرية التي كشفت كثيرا من التجاوزات الأمريكية في فيتنام. يظهر “إلزبرغ” هنا يدافع ويدعم بقوة ما قام به “ماننغ” من تسليم الوثائق السرية إلى “ويكليكس”.

أما “أسانج” فهو يؤكد في الفيلم أن دوره في كشف الحقائق أمام الرأي العام، لا يعتبره نوعا من البطولة كما لا يعتبر نفسه “شهيدا”، بل يؤكد أن المسألة برمتها، تتعلق بشعور المرء بمسؤوليته الأخلاقية.

أحادية الرؤية.. تداخل العمل السينمائي بالتوجه السياسي

في الفيلم بعض المشاهد الطريفة مثل تصوير “أسانج” وهو يتنكر فيصبغ شعره، ويضع عدسات لاصقة، ويرتدي ملابس من الجلد، ويضع قلنسوة على رأسه، مما يجعله يشبه راكبي الدراجات البخارية من الشباب، ثم يهبط لكي يختفي في المدينة.

المخرجة الأمريكية لورا بويتراس

وفي مشهد آخر قرب نهاية الفيلم، نرى المغنية “ليدي غاغا” تزوره داخل سفارة الإكوادور في 2012 (وقيل إنها قضت خمس ساعات معه)، وتصوره بكاميرا فيديو صغيرة، وتوجه إليه كثيرا من الأسئلة، دون أن تترك له فرصة للإجابة عليها.

ربما يعيب الفيلم تبنيه وجهة نظر الشخصية الرئيسية، أي رؤية “أسانج” ومنظوره للقضية، أي أن فيلم “مخاطرة” يخاطر أيضا بأن يكون أحادي النظرة، فالمخرجة “لاورا بويتراس” لا تخفي تأييدها لموقف “أسانج”، بل تعتبر نفسها شريكة في القضية، قضية الدفاع عن حق الآخرين في معرفة العالم بالحقيقة، وهو ما يجعل الفيلم يقع في المنطقة الوسيطة بين الفيلم باعتباره عملا سينمائيا، والنشاط السياسي لمخرجته. ولكن أليس هذا هو نفس ما يفعله المخرج الكبير “مايكل مور”.


إعلان