حوامل كنديات على حافة الهاوية..
قيس قاسم
فرادة صوت المخرجة “فريدا كيمب” بانت أولى ملامحها في وثائقيها القصير “ميكي تَعوم” (نالت عليه بجدارة جائزة لجنة تحكيم مهرجان كان الدولي عام 2010) وفي وثائقيها الطويل الأول Winter Buoy تأكدت أكثر، فصار لزاماً النظر إلى شغلها بطريقة تتوافق مع فرادته وقدرته على “تحوير” الواقع “الفج” إلى شاعرية سينمائية وإلى جعله الصورة “فاصلاً” يتيح لنا فرصة أخذ نفس عميق والتأمل في الحوارات التي تسبق كل لقطة.
بمعنى آخر جعلت المخرجة السويدية من الصورة وتعابيرها معبراً وسيطاً لنقل “حيوات” عند أبطالها الكثير ما يستحق “القص” وفيها من “الندرة” ما يغري لنقلها على الشاشة، مثلها مثل شخصية “ميكي” في فيلمها القصير. العجوز التي بلغت المائة من العمر وما زالت تواظب على السباحة يومياً. لم تأخذ كِبر سنها موضوعاً ولا حيويتها، إنما أخذت بعضاً من تجاربها الحياتية وكثفتها في عمل سينمائي رائع شديد الخصوصية لمح إلى عفوية البشر وكيف تجرهم الأقدار إلى مواضع لم يحسبوا يوماً أنهم سيجدون أنفسهم فيها. انصب تركيزها على تجربة المرأة خلال الحرب العالمية الثانية ومواجهتها أسئلة وجودية عجزت عن فهمها فتركت للحياة أمر حسمها والبت بها. في “وينتر بوي” منحت أسلوبها السينمائي فرصة أكبر للظهور، كما بيَّنت فيه مهارتها كصانعة وثائقي تجيد انتقاء “شخصيات” غير مألوفة من الحياة نفسها، حتى الآن أغلبيتها من النساء.

من مدينة تورنتو الكندية اختارت موضوعاً مؤثراً، بطلاته من الحوامل المدمنات على المخدرات والكحول ومعهن مجموعة ممرضات، تجاوزن حدود وظيفتهن إلى مستويات إنسانية واسعة، التقاطها وتوثيقها فتح كوة مكنتنا من النظر إلى حالة النساء نظرة مختلفة، بالرغم من كل قساوتها. كان علينا الاستماع إلى قصصهن وتفاصيل حالتهن النفسية والجسدية خلال فترة الحمل القلقة، أجبرتنا “كيمب” على الاستماع اليها من خلال ترك كاميرتها مثبته أغلب الوقت (82 دقيقة) قرب الأبواب المغلقة التي كانت تجري خلفها حوارات بين الممرضات والنساء الحوامل.
طرق وأماكن سردها تنوعت، داخل المستشفيات وفي خارجها، في بيوتهن وفي المقاهي وداخل مكاتب الشؤون الاجتماعية، في كل مكان كنا نسمع “ديالوغات” طويلة فيها من التفاصيل المملة أحياناً وغير المريحة، أرادت بها “إزعاجنا” وإفساد متعة مشاهدتنا الروتينية وخلق بدلاً منها حالة من المشاركة الواقعية بكل معانيها. الجُمل كانت تتسرب من بين الجدران فيما الكاميرا تنتظر نهايتها لتنتقل بعدها إلى الخارج المتطابق مع الداخل الموحش. شتاء تورنتو القاسي، سقوط الثلج الدائم والظلمة المبكرة وواجهات البنايات العالية بدت وكأنها سجون تخفي خلفها أرواحاً كسيرة وحيوات نساء يقفن على شفير الهاوية. مدمنات مررن بتجارب مؤلمة وما زلن يعانين من آثارها ويخشين من احتمال فشل حملهن وبالتالي نهاية آمالهن بحياة جديدة تبدأ بمقْدم أطفالهن. خوفهن من نهاية مسار واعد والعودة إلى المسارات القديمة حيث الإدمان والعنف الأسري والاغتصاب في زوايا الشوارع المقفرة.

لولا الصورة الشاعرية الحزينة واللقطات التعبيرية المؤثرة في النفس لما كان لفيلم بهذا الكم من الحوارات الطويلة وغير “المرئية” أن يصل إلى قاعات السينما أبداً، المَشاهد الخارجية واللقطات البطيئة المحفزة على التأمل هي التي جعلت من نص “وينتر بوي” جوهرة سينمائية، تركها العبارات معلقة في الهواء وتلاعبها بالواقع وكسر “كليشهاته” المعتادة حقق لمخرجته نتائج باهرة على مستوى البناء السردي. شخصياتها الكسيرة والمحطمة توافقت على عناصر مشتركة مع أن المنطق يميل إلى تفريقها وتعزيز فرديتها، كون قصص الآلام والفشل، حسب نظرة الروائي الروسي العظيم ليو تولستوي في رائعته “آنا كارنينا”، غالباً ما تتنوع فيما قصص النجاح والسعادة دوماً متشابهة!.
أغلبية النساء الحوامل أدمن الخمر والمخدرات بسبب خسارة أطفالهن سابقاً أو إسقاطهن ما في أرحامهن لأسباب قهرية خارج إرادتهن. في العموم تجاربهن الزوجية فاشلة وطفولتهن بائسة تعرضن خلالها للضرب والاغتصاب أما وجودهن في الشارع فدفعن ثمنه غالياً واليوم يخشين أن يرجعن إليه مدمنات كما كنّ من قبل؟. مهمة منع رجوعهن إلى الواقع المزري تصدت له ممرضات تحليّن بالصبر والنظرة الإنسانية، تجسيدها وثائقياً أعطى العمل دفعة وحيوية وكسر المألوف من أفلام الظواهر الاجتماعية كـ”الادمان” والجريمة”، لأنهن تعاملن مع النساء الحوامل أبعد من كونهن “مراجعات” مستشفى.

الممرضتان “دوريس فيلدينغ” و”تاليا سينجر” كرستا تجربة جديرة بالرصد، حتى صبرهن على الكاميرا المرافقة بعناد لعملهن مع المدمنات طيلة أشهر يدعو إلى التفكير بخصالهن النادرة، تبنت الممرضات مشروعا طبيا /اجتماعيا يهدف إلى تأمين السكن للحوامل الكنديات المشردات في الشوارع أو الهاربات من أزواجهن العنيفي السلوك، مهمة لا يتحمل مسؤوليتها إلا مَن آمن بقدرة الانسان، مهما بلغ من ضعف، على النهوض ثانية على قدميه، ومَن كان على قناعة بقدرة المرأة على تجاوز ما هي عليه من بؤس وانحطاط من أجل عيون أطفالها. كلاهما (الحوامل والممرضات) أعانا صانعة الوثائقي الكندي السويدي المشترك على تجسيد شخصياتهم سينمائياً. الحوامل بطبيعتهن وعفويتهن وبكلامهن البسيط والممرضات بسلاسة تعاملهن ونسيانهن وجود الكاميرا لتركيزهن الشديد طيلة زمن التسجيل على حل مشاكل الحوامل، لم يلتفتن لوجودها، وفي الحالات التي قابلن عدساتها وجهاً لوجه تعاملن معها بسماحة مثل سماحتهن مع المريضات وأطفالهن في بعض الأحيان. معايشتهن سينمائياً والنظر إلى طريقة تعاملهن مع الآخرين تجدد القناعة عند المُشاهد بأن العالم ما زال بخير وفيه بشر من طينة طيبة.
لا يترك الوثائقي العيّنات التي اعتنى بتوثيقها إلا لنقل العالم الخارجي المحيط بها، يسجل اللحظات التي تبتعد فيها الممرضات عن “المدمنات” في بيوتهن مع أطفالهن وفي جلساتهن العائلية. ولأنه ميال إلى كشف دواخل كل المشاركين فيه يقوم برصدها ملياً ليكشف لنا أنها لا تتجاوز كونها لحظات عابرة لن تُنسي أصحابها تماماً التفكير بالطرف الثاني الممزق روحاً وجسداً. سينقل لتأكيد ذلك، أحد الاجتماعات الدورية للممرضات مع موظفي الشؤون الاجتماعية وبوح بعضهن بالعذاب الذي يشعرن فيه وصعوبة فصل عملهن وتفاصيله الثقيلة عن حياتهن الشخصية، واستحالة ترك التفكير بأحوال بشر يعيشون معهن في نفس المدينة والخوف الدائم عليهم من العودة ثانية إلى المخدرات وما يتبعها من نتائج تدميرية، كما حدث في الواقع مرات وقام برصدها الوثائقي بذكاء مدهش. في النهاية هؤلاء بشر يشعر القريب منهم ببرودة أجسادهم حين يخترقها برد الشتاء الطويل، ويحزنون على حال أطفالهم وما ينتظرهم من مستقبل معتم مثل جو المدينة.

كل امرأة من الحوامل لها تجربتها الخاصة لهذا حاول الوثائقي المرور على بعضها بسرعة والتركيز على الأبرز فيها مع أنها تشكل في مجموعها مشهداً كندياً لا يمكن لمدينة مثل تورنتو إخفاؤه أو التقليل من بشاعته. في نفس الوقت لا يمكن تجاهل “ملائكة” رحمة لا تعرف التعب ولا تترد في تقديم العون والمساعدة. يُثبت الوثائقي مشهد مكالمة تليفونية كانت تجريها الممرضة “دوريس” في مكتبها مع إحدى المريضات، انطلقت خلالها صفارة إنذار الحريق. لم تعبأ بها وظلت تكمل شرحها للمرأة الواقفة في الطرف الثاني من الخط وكأن شيئاً لم يحدث ومشهد آخر يُظهر الممرضة الشابة وهي تعود إلى نفس الشقة السكنية، التي أمنت فيها مريضة خوفاً على حياتها، مرات ومرات. لم تفتح لها الباب ومع هذا ظلت تطرقه بإلحاح! غادرتها لتعود في اليوم التالي وتقف أمامها ثانية. تسجيله لتلك التفاصيل الدقيقة منحه قوة وبدد رتابة الحوارات الطويلة فيه فجاء الوثائقي في النهاية خليطا رائعا من الصور الشعرية واللقطات التعبيرية وفيه من الأفكار النبيلة التي تقول؛ البشر أنواع لكن السؤال المهم هل أنت على استعداد لمساعدة الضعفاء منهم؟ الممرضات أجبن بنعم ورأينا نحن بأم أعيننا تطبيقاتها عبر وثائقي مهم قد يتوقف عنده النقاد طويلاً.