محمد سليم رياض.. أوجاع مخرج ملتزم

عبد الكريم قادري

” لا توجد سينما غير ملتزمة، ولا يحق لنا التغاضي عن فعالية وأهمية الفن السابع، فقد وظفنا السينما تبعا لمصالحنا الشخصية، آن لنا أن نستعملها حسب مصالح الأمة”

محمد سليم رياض

هل يكفي أن يمتلك المخرج الأدوات الفنية والفكرية، ويعكسهُما واقعا إبداعيا في أعماله السينمائية ليُحتفى بمنجزه وينتشر؟، هل يكفي أن يكون المناضل صاحب قضية عادلة، يجسدها كفعل ميداني، ويقدم نفسه قربانا لها ليُعلى من شأنه؟، لا أظن بأن هذا كاف، لأن الأشياء والأفعال مُسيّرة من طرف أيادي صنعها عالم خفي، يؤمن بالمصالح والأيديولوجيات ومبدأ القوة، وعليه يسقط المخرج في فخّ التغييب مهما كان متبصرا في أعماله ومنجزه، ويُنسى المناضل في دواليب التاريخ مهما كانت درجات نضاله. هذه معادلة مصلحة الآخر القوي، التي صنعها وطورها عبر حقب زمنية مختلفة، وكل جيل ترك بصمته فيها، لتحقيق غاية آنية، أو مستقبلية، تُحلّق بُحلمه عاليا، تُبقي كبريائه، وتطيل من عمر حضارته.

المخرج الراحل "محمد سليم رياض"

 حين يكون المخرج سيد نفسه

هذه المُقاربة المؤلمة، قلّبتها على كل الجهات، بمُجرد أن وصلني نبأ وفاة المخرج الجزائري الكبير محمد سليم رياض، الذي ووري الثرى في 28 يونيو 2016، بعد مرض عضال، عن عمر ناهز “83” سنة، قلّبتها لأن المخرج المرحوم امتلك كل الصفات التي ذكرتها، أي أنه مخرج متبصر فنّيا، يحمل رصيدا من الأفلام المهم، التي شرّفت خزانة السينما العربية والعالمية، بالإضافة إلى نضاله إبان الثورة الجزائرية (1954-1962)، كونه كان عضوا في فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا، وهناك زجّ في سجونها، قبل أن يتم تحويله إلى السجون الجزائرية، ليكون محمد سليم رياض صاحب الصفتين، أي المخرج والمناضل على حد سواء، وأكثر من هذا لم يهادن طوال مسيرته الفنية – حتى بعد الاستقلال والى غاية وفاته- أي جهة على حساب ما يؤمن به من مبادئ ثورية وتحريرية.

القضية الفلسطينية كانت حاضرة هي الأخرى في أحد أهم أعماله، والتي جسدها في فيلم ” سنعود” 1972، وعليه دفع الثمن بأن تم تغييب اسمه إعلاميا وبشكل شبه منظم، في الجزائر وخارجها، لأنه كان يؤمن بقضية فلسطين والبعد العربي، ولم يدخل دائرة المقربين من دوائر الدعم والدفع والشهرة والأضواء الساطعة، التي تعكس فرنسا من خلال دعمها المادي تحت غطاء الإنتاج المشترك، عن طريق مهرجاناتها وإعلامها المُسيس، من هنا لم ينل الرضى، فتم إقصاؤه وإبعاده، من طرفها، ومن طرف من يحابيها ويحمي مصالحها، ويعادي القضايا والبعد العربي، هذا الإقصاء وصل إلى درجة أنّ هناك من كان يعتقد بأن المخرج محمد سليم رياض توفي منذ سنوات أو عقود، وليس قبل أيام، في مسألة الدعم والتمويل، ربط محمد سليم رياض هذا الأمر بالمبادئ، حيث قال في أحد حواراته الصحفية “هذا الخيار لم يكن ممكننا بالنسبة لي – يقصد الدعم المادي من طرف فرنسا-، فأنا لا أستطيع فعل هذا، عندما حاربت الاستعمار كنت متمسّكا بمبادئ، كيف أتّجه اليوم إلى فرنسا التي حاربتها في الأمس بالسلاح وبأفلامي، لأشحذ منها اليوم نقودا من أجل إنتاج أعمالي، هذا غير ممكن بالنسبة لي على الأقل ،
في فيلم “تشريح مؤامرة” مثلا هاجمت فرنسا وحاكمتها وواجهتها بحقيقتها الوحشية، لا أستطيع اليوم أن أقع تحت رحمتها لأنّني بذلك أنكر كلّ ماض، وما كنت أدافع عنه ..هذا اختيار ولقد تحمّلت مسؤوليته”.     

صورة المخرج مع صورة أخرى من فيلم "سنعود"

فيلما “الطريق” و”سنعود”.. الألم بأثر رجعي

 بعد الاستقلال مباشرة قدّم المخرج محمد سليم رياض مواهبه ومرجعياته السينمائية التي اكتسبها قبل سجنه وبعده لخدمة السينما المُلتزمة، ليكون أول فيلم  روائي طويل يخرجه تحت عنوان “الطريق” 1968، الذي نقل من خلاله معاناة المعتقلين الجزائريين في السجون والمعتقلات المتواجدة في فرنسا والجزائر أثناء الاحتلال، وقد كتب سيناريو العمل المخرج نفسه، ومثّل فيه كل من علال المحب، مصطفى شقراني، وسيد أحمد أقومي، مع اختيار المناضل رشيد مرابطين لتصوير الفيلم، مع مرافقة موسيقية للفرنسي فرانسيس لومارك وتركيب رابح دبوز، أما الإنتاج فتكفل به الديوان الوطني للتجارة والصناعة السينماتوغرافية، وحسب ملخص الفيلم الذي جاء في بطاقته التقنية، فإن العمل نقل صورة أخرى من الثورة الجزائرية، التي ” شهدت في سنواتها الأربعة الأخيرة ارتفاعا في عدد مراكز التجميع، أو بالأحرى المحتشدات التي أعدتها القوات الفرنسية لمراقبة وتركيع الجزائريين عن طريق عزل المجاهدين عن الشعب، يحاول المقيمون في المعتقل تنظيم أنفسهم، فينظمون دروسا لمحو الأمية والتوعية السياسية، محاولين الهروب، تفشل كل محاولات الإدارة الاستعمارية لإسقاط المعتقلين وثنيهم عما يفعلون، فيتمكن هؤلاء من ربط اتصالات مع المناضلين خارج المعاقل”.

بوسعنا القول بأن هذا الفيلم ينتمي إلى مدرسة “سينما المؤلف”، أين استطاع المخرج محمد سليم رياض أن يُحوّل المعاناة التي عايشها شخصيا في العديد من المعتقلات الفرنسية بعد اعتقاله في فرنسا وتحويله إلى معتقلاتها المتواجدة في الجزائر، التي يحكمها ويسيرها بالحديد والنار المظليون، إلى واقعا ملموسا، بعد أن أعاد تمثيل وتجسيد الوقائع، وأعاد إحيائها عبر مشاهد ولقطات، شكلت بمجملها فيلم “الطريق”، وبالتالي نجح في نقل آهاته وآهات من كانوا معه إلى مساحة أوسع، وزمن أرحب، وبالتالي توسعت دائرة الألم والحلم المحدودين بشخص المخرج ومن معه، إلى العالم الأرحب، حيث المُتلقي هُلامي، وغير محدود بعدد أو زمن، وسيبقى كذلك ما دامت نسخة الفيلم موجودة وحية، وهو خير تجسيد لـ”سينما المؤلف”، كما ساعد الفضاء المكاني الذي مُثل فيه الفيلم في واقعية ما أراد المخرج نقله، بحكم أنها طبيعية وحقيقية، لأن الفيلم أُنجز بعد الاستقلال بحوالي 6 سنوات وبالتالي بقت كما هي تقريبا، وهذا ما ساعد كثيرا في نجاح وانتشار الفيلم، الذي تحول إلى وثيقة تاريخية مهمة، تؤرخ للوجع والفن.

وفي تجربته السينمائية الثانية يذهب المخرج والمناضل محمد سليم رياض إلى أبعد من الجزائر وفرنسا، حين يختار “ثيمة” الوجع الفلسطيني كمحور لعمله، ما يُظهر البعد القومي والعربي لتوجهه، وهذا من خلال فيلم “سنعود” 1972، الذي نقل فيه معاناة الشعب الفلسطيني المستمر مع الكيان الإسرائيلي، الذي زُرع في خارطتنا العربية، ويُعد الفيلم من بين أولى الأعمال السينمائية التي ساندت القضية الفلسطينية، بالإضافة إلى إخراجه للعمل فقد شارك كل من آنيا فرانكو في كتابة السيناريو، وأحمد راشدي في الحوار، أما التصوير فقد كان من نصيب رشيد مرابطين كتعاون ثاني معه، والشخصيات جسدها كل من حسان الحسني، محمد بن قطاف، شوقراني (الجزائر)، حلو شوكت، هاني روماني (سورية)، زهرة فايزة (تونس)، جوزف نانو (لبنان). وعن هذا الفيلم يقول محمد سليم رياض بعد 35 سنة من إخراجه “ما يقع في غزة وفي فلسطين يعيدني 35 سنة إلى الوراء، إلى الوقت الذي سعينا فيه إلى دعم القضية الفلسطينية من خلال إنجاز هذا الفيلم “سنعود” والذي يعدّ من الأفلام الأولى التي خصّصت للقضية الفلسطينية من جانبيها السياسي والعسكري، وقد استغرق التحضير للفيلم عاما كاملا وأنتجناه بالاشتراك مع منظمة التحرير الفلسطينية وكانت فرصة التقينا فيها مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات .
وكنا نسعى من وراء انجاز هذا الفيلم إلى إنصاف القضية الفلسطينية ومساعدة الشعب الفلسطيني، ونجح هذا الفيلم في الوصول إلى الجمهور العربي الواسع حيث تمّ عرضه في العديد من الدول العربية، كما تم تناوله بالتحليل في العديد من الدراسات”.

فيلمي "ريح الجنوب" و"حسان الطاطسي"

فيلما “ريح الجنوب” و”تشريح مؤامرة” استشراف المستقبل

وفي تجربته السينمائية الثالثة في الروائي الطويل، لم يبتعد محمد سليم رياض عن الالتزام في منهجه ومبادئه، فقد اختار أوجاع المرأة الريفية كـ”ثيمة”، من خلال فيلمه الخالد “ريح الجنوب” 1975، الذي اقتبسه من رواية تحمل نفس العنوان، للكاتب الكبير عبد الحميد بن هدوقة، والتي صدرت سنة 1971، وحسب ملخص الفيلم فإن القصة تتمحور حول ” طالبة شابة اسمها نفيسة تعود من العاصمة حيث تدرس لتمضى عطلتها الصيفية فى قريتها الجبلية لكن اباها يريد تزويجها من احد شباب القرية باعتباره اهم وجوهها لكن الاثنين معا يرفضان الزواج بهذا المنطق التقليدى تموت احدى النساء العجوزات قريبات نفيسة وامام صدمة الموت ترفض نفيسة مشروع ابيها وعندما تمرد يحاول ابيها علاجها بتعاويذ الشيخ حموده تهرب نفيسة لتلتقى بالفلاح الامى رابح الذى يمثل لها باب المستقبل الجديد فتقنعه ان يتطوع فى احدى التعاوينات الفلاحية ويذهبان الى العاصمة يطاردهما ابوها بجواده لكن الحافلة تسبق الجواد”.

 وقد أثار الفيلم بعد عرضه العديد من النقاشات المهمة حول ظاهرة الاقتباس، وما مدى وفاء المخرج لقيمة الرواية ومحاورها الرئيسية، وقد جاء هذا بعد أن أعلن الروائي عبد الحميد بن هدوقة عدم رضاه عن الفيلم، بعد التغييرات الأساسية التي طالت بعض الأحداث، من بينها مثلا الخاتمة التي لم يرض عنها بتاتا، لأنه حسب رأيه غيّرت أهداف ورسالة العمل المكتوب، بعد أن قام المخرج بتغييرها، حيث جعل من شخصية “نفيسة” تتمرد على عادات وتقاليد القرية، حيث ركبت الحافلة و هربت متوجهة صوب المدينة، التي ترمز إلى الحضارة والحداثة والانعتاق والتحرر من الموروث، ومن خلف الحافلة يجري ورائها والدها الذي يمتطي حصانا، وهو إسقاط يرمز إلى التقليدية والتسلط، على عكس وما نقلته الرواية، التي جعلت من شخصية “نفيسة” صامدة في القرية، تحاول التغيير وهي فيها وداخلها، بعيدا عن سياسة الهرب إلى الأمام، لعب أدوار البطولة في الفيلم كل من كلثوم، نوال زعتر وعبد الحليم رايس.

بعد ثلاث سنوات من تحقيق فيلم “ريح الجنوب”، عاد محمد سليم رياض مرة أخرى بفيلمه الرابع، تحت عنوان “تشريح مؤامرة” 1978، الذي أدخل من خلاله المُتلقي إلى أجواء المؤامرات التي تحاك سرا على البلدان العربية الضعيفة والنامية، من طرف القوى الامبريالية، من بينهم فرنسا،  لزعزعتها وزرع الفوضى فيها، ولأن المخرج ذكي فلم يقم بتسمية الدولة العربية التي جرت فيها أحداث الفيلم، وكأنه يقول بأن هذا الأمر يمكن أن يحدث في أي واحدة منها، ومن ناحية الفنية فقد جاء وقع الفيلم سريعا ومفاجئا ومغامرا، يعتمد على المونتاج السريع، الذي يحبس الأنفاس لشحنة المغامرة التي فيه، وكأن محمد سليم رياض اقبتس شكل فيلم “زد” للمخرج الفرانكو/ يوناني كوستا غافراس، وقام ببناء فيلمه عليه، حتى أن هناك تقارب ما في “الثيمة” السياسية.

أما فيلم “حسن الطاكسي” 1982، فخرج المخرج من خلاله من رداء الجديّة التي عرف بها في عديد أفلامه، وارتدى هذه المرة قبعة المخرج الكوميدي، رغم أن الموضوع الذي تناوله الفيلم جدي ومثير إلى أقصى حد، حيث نقل من خلاله هموم ويوميات مناضل سابق في صفوف جيش التحرير الوطني، رجل أنهكته السنين، يحاول جاهدا البحث عن وظيفة يسد بها رمقه وجوعه، وفي نفس الوقت يشغل العديد من الوظائف، لكنه لا يستقر على واحدة، بحكم انه لا يسك عن الظلم، وفي الأخير تحصل على رخصة سيارة أجرة، بحكم انه مناضل سابق، ومن خلال عمله الجديد هذا ينقل لنا أجواء المدينة وما تعانيه، هموم المواطنين، وما وصلت له جزائر اليوم، وهذا بطريقة هزلية وكوميدية، وكأن الفيلم جسد آلية “الكوميديا السوداء” في أحسن شكل.

رغم هذه العطاءات السينمائية في مجال الأفلام الروائية الطويلة التي ذكرناها، والقصيرة التي لم نذكرها، ناهيك عن الأفلام الوثائقية مثل “موت الليل الطويل ” 1979 ، غير أن المخرج والمناضل محمد سليم رياض لم يتم استغلال قدراته الفنية والإخراجية كما ينبغي، وأُخرج للبطالة الفنية مبكرا، رغم أنه كان في عزّ عطائه الفني، لأسباب نجهلها ظاهريا، لكن نعلمها في الأعماق، لكن يكفينا من المرحوم ما قد أنجزه، ليخلد ذكراه إلى الأبد.


إعلان