“الموت عن قصد”.. الوجه المظلم لأجهزتنا الإلكترونية الأنيقة

 

 

على الرغم من وفرة الأفلام التسجيلية المُتشائمة من حال ومستقبل العالم، والتي عُرضت في الدورة الأخيرة من مهرجان شيفيلد البريطاني للسينما التسجيلية (2016)، حظي فيلم “الموت عن قصد” (Death By Design) للمخرجة الأمريكية “سو وليامز” على النصيب الأكبر من الاهتمام والجزع الإعلامي على حد سواء، إذ تم إجراء عدة مقابلات صحفية وإذاعية مع المخرجة، ليس فقط للحديث عن الفيلم وظروف إنتاجه، وكذلك لمتابعة مفاعيله والآثار التي يمكن أن يتركها على الصناعة التكنولوجية التي يبحث الفيلم التسجيلي في الوجه المظلم لها، وما تحدثه من خراب في بيئة هذا العالم، والذي قد يستلزم مئات السنوات لإصلاحه.

يُحقق الفيلم في سجل مجموعة من كبريات شركات العالم التكنولوجية، وبالتحديد دورها في التلوث التكنولوجي الذي يعيشه العالم، وفي سجلها في التعامل مع عمالها، وعلى وجه الخصوص مع العمال الصينيين الذين يقع على عاتقهم اليوم صناعة الجزء الأهم من النتاج العالمي.

كما يسائل الفيلم عبر لقاءات يجريها مع أمريكيين عاديين في الشارع عن علاقتنا المعاصرة، ومسؤوليتنا تجاه ما يجري، فعاداتنا بتبديل الأجهزة الإلكترونية كل بضعة أعوام تجعلنا متواطئين على نحو ما مع هذه الشركات، في الوقت الذي تستغل الأخيرة شعبية أجهزتها ونفوذها المالي لمواصلة سياساتها الخطرة الخاصة بالبيئة، وتعاملها المُشين مع ملايين العمال الذين يعملون في هذه الإمبراطوريات الصناعية القاسية.

الصين.. مزبلة العالم التكنولوجية

رفضت جميع الشركات صاحبة العلاقة الحديث للمخرجة، بيد أن هذا لم يكسر من شوكة الأخيرة، إذ أنها استعانت بالبحوث القليلة المُتوافرة عن هذا الموضوع، وبعض الشخصيات اللامعة لعرض قضية محكمة تُدين جشع هذه الشركات.

يتنقل الفيلم بين الولايات المتحدة والصين وإيرلندا، فيحقق في الأول عن بدايات صعود شركات التكنولوجيا في منطقة “سليكون فالي” في كاليفورنيا قبل ثلاثة عقود تقريباً، ويحاول في الثاني أن يكشف كيف تحولت الصين إلى “مزبلة” العالم التكنولوجية وعلاقة الشركات الأمريكية الكبرى بالتلوث الخطير الذي يشكل اليوم -وحسب صينيين متخصصين- قنبلة موقوتة ستنفجر في المستقبل القريب.

ورغم الرقابة الصارمة للغاية التي تفرضها معامل شركات التكنولوجيا على ما يجري داخل هذه المعامل، نجحت المخرجة في إقناع عمال وعاملات هناك بإدخال كاميرات صغيرة لتصوير يوميات العمل، والتي تقترب من العبودية المقنّعة، أحد المعامل الصينية التي تم التصوير فيه شهد في السنوات الأخيرة عددا من عمليات الانتحار لعمال لم يتحملوا ضغط ساعات العمل الطويلة، والتي تصل إلى 12 ساعة من العمل المتواصل يوميا.

تقابل المخرجة عاملة شابة فشلت محاولتها في الانتحار وقتها وتركتها معاقة اليوم، يصل الفيلم في المشاهد التي صورها في بيت تلك الشابة بحضور والدها إلى ذروة عاطفية كبيرة، خاصة في شهادة أب اعتذر وهو يغالب دموعه عن العودة بذاكرته إلى اليوم الذي وجد طفلته -كما سماها- في المشفى بعد عملية الانتحار تلك.

إحدى الشركات التكنولوجية الصغيرة الواعية بمسؤوليتها تجاه البيئة،حيث تصنع حواسيب شخصية من قطع إلكترونية منفصلة

إغواء التكنولوجيا وكوارث بيئية

تُدير المخرجة عدة خطوط تحقيقية تلتقي في الآثار البيئية الخطيرة التي تخلفها تلك الشركات حول العالم، كما يصل الفيلم بين فقراته بلقاءات سريعة يجريها مع أمريكيين على الشارع للبحث في علاقتنا الآنية مع التكنولوجيا، والإغواء الذي تحدثه منتجات هذه الأخيرة.

وفي خط موازٍ، يبحث الفيلم عن نماذج لشركات تكنولوجية صغيرة واعية بمسؤوليتها تجاه البيئة، ومنها شركة إيرلندية صغيرة تصنع حواسيب شخصية من قطع إلكترونية منفصلة، حيث من الممكن تبديل هذه القطع بأخرى جديدة دون الحاجة لتبديل الجهاز بأكمله، وأخرى شركة أمريكية تدقق كثيرا في ظروف المعامل التي تصنع منتجاتها في الصين، ولا تمنح عقودها إلى شركات يعرف عنها المُعاملة السيئة لعمالها.

يستفيد الفيلم كثيرا من حماس وإصرار بعض الناشطين البيئيين الذين تحدثوا للفيلم، إذ أن هؤلاء والذين قضوا سنوات طويلة للتحذير من لامبالاة شركات التكنولوجيا وأحيانا إجرامها؛ يعرفون إلى حدود كبيرة أبعاد الكارثة البيئية التي تنتظرنا جميعا.

يبرز عبر زمن الفيلم ناشطان، أحدهما محام من الولايات المتحدة يحاول منذ سنوات أن يحصل على حقوق سكان حي قريب من “سيليكون فالي” أصيب بعض سكانه بأمراض سرطانية بسبب النفايات والإشعاعات التي كان مصدرها شركات التكنولوجيا في ثمانينيات القرن الماضي، والناشط الآخر من الصين حيث حصد عدة جوائز عالمية لدوره في التنبيه لما تتعرض له بيئة بلده من استغلال الشركات الغربية الكبرى.

يقدم الفيلم مشهداً للناشط الصيني وهو يقوم بجولة على قرى تلوثت مياهها بالنفايات التكنولوجية، كما يُظهر أيضا نساء قرويات يجلسن على ركبهن متوسلات من ذلك الناشط نقل صوتهن إلى العالم بعد أن قضى التلوث على الحياة الطبيعية في قراهن.

 

قبل أن تحدّث أجهزتك الإلكترونية.. فكّر أولا

يندرج الفيلم ضمن أفلام الحملات الاجتماعية التي لا تدخر أيّ وسيلة حتى تصل إلى غايتها، فتراه يجمع بين التحقيق الاستقصائي والطرح العاطفي الذي يريد أن يتحكم بأحاسيس مشاهديه الفطرية. كما يبحث الفيلم عن نماذج لشركات تحاول أن تقدم نماذج مُغايرة لجهة علاقتها بالبيئة والعمال الذين يعملون لديها.

تقرّ المخرجة في افتتاح فيلمها بأنها هي أيضا شديدة التعلق بهاتفها وأجهزتها الإلكترونية التي سهلت حياتنا في العقد الأخير، لكنها تعود وتكاشف مشاهد فيلمها، وبعد انتهاء جولتها التحقيقية، بأنها ستفكر كثيراً قبل أن تقوم بتحديث أجهزتها الإلكترونية في المستقبل، وهو ما سيكون عليه على الأرجح حال مُشاهد هذا الفيلم.


إعلان