قصة فوكوشيما النووية

أمير العمري

ظهرت عشرات الأفلام الوثائقية التي حاولت التوثيق للحدث المأساوي الكبير الذي هز العالم في 2011، أي كارثة محطة فوكوشيما النووية في اليابان، وما نتج عنها من أضرار هائلة أثرت في حياة مئات الآلاف من البشر، وهددت بانتشار الإشعاعات النووية إلى العاصمة طوكيو والقضاء على سكانها بالكامل, غير أن الفيلم الإيطالي “فوكوشيما: قصة نووية    Fukushima: A Nuclear Story  للمخرج ماتيو جالياردي Matteo Gagliardi يختلف عن كل هذه الأفلام، ليس فقط بسبب أسلوبه الفني الفريد، بل وبعرضه للتجربة الشخصية المباشرة وما تمكن من الحصول عليه “بطل الفيلم” أي الرجل الذي يقف وراء مادته، وهو الصحفي الإيطالي “بيو ديميليا” الذي كان مراسلا لشبكة تليفزيون “سكاي” في ذلك الوقت، بفضل جرأته وإصراره على كشف الحقائق الغائبة عن الرأي العام.

ملصق فيلم "فوكوشيما: قصة نووية"

هذا فيلم عما حدث وعن من كان المسؤول عن حدوثه، عن حجم “مؤامرة” الصمت، التي فرضها المسؤولون اليابانيون لإخفاء الكثير من المعلومات من بداية وقوع الحدث الكبير، وربما حتى يومنا هذا، كما يكشف الفيلم الكثير من أسرار العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة واليابان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وكيف أن اليابان التي كانت أول دولة في العالم تُقصف مرتين بالقنابل الذرية، أصبحت الأكثر عرضة لمخاطر الانفجارات النووية!

يرقى هذا الفيلم، الذي يتابع مسار الأحداث خلال ثلاث سنوات (من 2011 إلى 2014)، إلى مستوى التحف السينمائية فهو يجمع بين البحث عن الحقيقة بأسلوب الريبورتاج، وبين الخيال الفني البديع في تجسيد الموضوع على الشاشة من خلال الصوت والصورة، مقدما رؤية مثيرة، توثق بقدر ما تثقف وتنقل المعلومات، مضيفا لمسات فنية ممتعة من خلال استخدام الرسوم اليابانية البديعة التي تعرف بـ (المانجو)، وتصميمات الجرافيكس المجسمة التي تحاكي بدقة وبراعة تفاصيل التعقيدات العلمية والتكنولوجية داخل المحطة النووية بمفاعلاتها الستة، مع شريط صوت شديد الحيوية والجمال، ومونتاج يحقق إيقاعا سريعا لاهثا ينقل الصور المتعاقبة بحيث يدخل المشاهد طرفا في موضوع الفيلم، ليصبح كأنه يشترك مع “بطل الفيلم” أولا بأول في التعرف على تفاصيل تلك القصة المثيرة.

لقطة من الفيلم

تجربة صحفية

ما نطلق عليه “بطل الفيلم” الذي يظهر بين حين وآخر بصورته ليعلق بصوته ويربط بين تطورات الأحداث، هو الصحفي الإيطالي “بيو ديميليا” الذي يقول لنا (من خلال صوت الممثل الأمريكي وليم دافو، الذي ينقل التعليق باللغة الإنجليزية) إنه يقيم في طوكيو منذ ثلاثين عاما، في شقة تقع في الطابق السادس من إحدى البنايات، وأنه كان دائما يشعر بالرعب عند وقوع الزلازل، حتى أقلها شدة، ويقول إنه لو كان متواجدا في شقته بعد ظهر الحادي عشر من مارس 2011 لكان قد أصيب بالذعر، بعد ذلك ننتقل مباشرة إلى لقطات الزلزال الهائل الذي ضرب اليابان في ذلك اليوم، ومن خلال شاشة مقسمة إلى ثلاثة أقسام، نرى اهتزاز البنايات، والفوضى التي تنتج عن ذلك، وتجمع الناس في الشوارع، بينما نرى في الصورة الوسطى رجل مرور يتحدث إلى الصحفي بيو ديميليا، ويخبره مبتسما أن هناك “تسونامي” قادم في الطريق يبلغ ارتفاعه سبعة أمتار. 

يتوالى مزيد من اللقطات التسجيلية لما حل من دمار هائل بالبنايات والطرق والمنشآت الصناعية بفعل ما يصفه الفيلم بأنه أكبر زلزال عرفته اليابان في تاريخها، بلغت قوته 9 درجات على سلم ريختر، يعقب هذا لقطات من زاوية مرتفعة (مصورة من طائرة) لهجوم “التسونامي” الذي يقترب تدريجيا بأمواجه الهائلة التي بلغ ارتفاعها 14 مترا، ليضرب سواحل منطقة توهوكو التي تمتد على مسافة 640 كيلومترا، ويقول المعلق أنه في بعض المناطق تجاوز ارتفاع المياه 30 مترا، وأغرقت مسافة تمتد الى 7 كيلومترات، ونرى في لقطات نادرة غرق كثير من السفن، وكيف أطاحت الأمواج الهادرة بآلاف المنازل وجرفت آلاف السيارات، مع تصاعد الموسيقى الكلاسيكية التي تمتزج بأصوات الكورال.

تسونامي اليابان

الحركات الثلاث

من بين 300 ساعة من المواد المصورة، صنع المخرج فيلمه هذا وقسمه إلى ثلاثة فصول أطلق على كل منها “حركة”، كما في الأوبرا، يحمل كل فصل منها عنوانا مختلفا، الفصل الأول بعنوان “خارج نطاق الخيال”، وفيه نرى بداية وصول الأنباء التي تشير إلى ما لحق من أضرار بالمجمع النووي في فوكوشيما الذي يعتبر المحطة النووية الـ 19 في اليابان التي تمتلكها شركة “تيبكو”، ويستخدم المخرج صوتا آخر نسائيا للتعليق والشرح على صور وتصميمات الجرافيس التي تشرح مكونات المحطة النووية وكيف أغلقت خمسة من مفاعلاتها تلقائيا مع تعرض المحطة للهزة الأرضية باستثناء المفاعل رقم 4، ثم يقع التوسونامي الذي نراه مجسدا من خلال التحريك أو “الأنيم” أي الرسوم اليابانية، بأمواجه العالية التي تتجاوز السد المشيد ليمنع تعرض المحطة النووية للفيضانات العاتية بعد ان تجاوز ارتفاع الأمواج 14 مترا، ما الذي كان يحدث داخل المفاعلات النووية في ذلك الوقت؟ لا أحد يعرف.

ينتقل الفيلم إلى بيو ديميليا الذي يقول إن مديري شركة “تيبكو” كانوا في ذلك الوقت خارج اليابان للترويج للتنكولوجيا النووية اليابانية، ويقول إنه حاول الاتصال بمدير الشركة لكنه وجد أن خطوط التليفون والانترنت معطلة، ويتابع الفيلم في هذا الجزء، الإجراءات المضطربة والمتضاربة التي اتخذها المسؤولون في المحطة النووية والتي أدت إلى تفاقم الوضع والتهديد بوقوع كارثة، ويشرح كيف أن السلطات فرضت إجراءات لإخلاء المنطقة في نطاق 3 كيلومترات ثم الى محيط 12 كيلومترا.

لحظة انفجار محطة فوكوشيما النووية

دخول المنطقة المحظورة

في الرابع عشر من مارس 2011 أي بعد ثلاثة ايام من وقوع الزلزال، يحاول بطل فيلمنا، بيو ديميليا ، كما نرى من خلال الصور الموثقة، الوصول إلى المنطقة المنكوبة ليجد نفسه أولا في “كيسينوما” التي تبعد 60 كم من فوكوشيما، حيث يصور المباني المهدمة بفعل الزلزال، ويقول لنا أمام الكاميرا مباشرة كيف أن السلطات لم تصل بعد إلى المدينة التي دمرت بالكامل، والتي تعد أكبر رابع مدينة يابانية من حيث انتاج سمك التونة، ويبلغ عدد سكانها 60 ألف نسمة، ويتجول الصحفي على شاطئ المدينة حيث السفن التي انقلبت على جوانبها، ومعالم الدمار الشديد الذي لحق بالميناء، وفي أحد المشاهد النادرة التلقائية تحذره سيدة يابانية تقف في نافذة منزلها من التسونامي القادم الذي يمكنها أن تراه من النافذة المطلة على البحر مباشرة، لكنها تقول له إنها لا يمكنها أن تغادر وتترك زوجها المريض وحده، يشير الصحفي الى صفوف طويلة ممن بقوا من سكان المدينة، أما سوبرماركت، لشراء ما تبقى من المواد الغذائية، موضحا أنهم ينتظرون في الصف منذ 6 ساعات دون وقوع أي مشاكل بينهم. 

في لقطات تسجيلية من الأرشيف، يظهر امبراطور اليابان على شاشة التليفزيون لتهدئة مخاوف الشعب الياباني، في سابقة هي الأولى من نوعها منذ أن خاطب والده الامبراطور هيروهيتو الشعب عبر الراديو معلنا استسلام اليابان عام 1945، والمفارقة أن الأمريكيين الذين قصفوا اليابان بالقنابل الذرية هم – كما يقول التعليق- الذين صنعوا المفاعلات النووية التي انفجرت الآن، وهم الذين ظلوا يقللون من خطورة الحادث، بل وهم الذين كانوا وراء الإصرار على نقل التكنولوجيا النووية الى اليابان واليابان تحديدا، تحت تصور أنهم هكذا، يحولون عقدتها السابقة إلى “عقيدة”، أما الفرنيسيون فيبالغون في خطورة الحادث مروجين لمفاعلاتهم النووية التي يقولون إنها أكثر أمانا!

الصحفي الإيطالي "بيو ديميليا"

في التاسع عشر من مارس 2011، يتمكن بطلنا من الاقتراب من المحطة النووية في فوكوشيما بطريقته الخاصة بعد أن يرتدي الملابس والأقنعة الواقية، ونرى كيف يعلن رئيس وزراء اليابان وقتذاك “ناوتو كان” استقالته، كما اضطر رئيس شركة “تيبكو” على الاستقالة ثم أصيب بانهيار عصبي ونقل إلى المستشفى. وتندلع المظاهرات الغاضبة في شوارع طوكيو. وفي لقطات نادرة يصل بطلنا مع فريق من الصحفيين سمحت له السلطات بالدخول، إلى المحطة النووية، لينتهي الفصل الأول ويبدأ الفصل الثاني بعنوان “العدو الخفي”. 

يجري بيو ديميليا مقابلة مع رئيس الوزراء الياباني السابق، ويعرض لقطات له وهو يتوجه الى فوكوشيما بالطائرة المروحية، ويروي كيف كان المسؤولون في شركة تيبكو يعتزمون اخلاءها من التقنيين وتركها لمصيرها وهو ما أصابه بالجنون على حد تعبيره، لأن هذا كان كفيلا بالإضرار باليابان كلها، ثم أقام غرفة للطوارئ يمثل فيها الجيش والشرطة وشرطة مكافحة الحرائق وممثلو الحكومة والخبراء المتخصصون وغيرهم. 

ويتحدث أمام الكاميرا المدير الجديد للمحطة النووية، الذي خلف سابقه في ديسمبر 2011 ويقدم اعتذارا للعالم عما حدث لكنه لا يقر بمسؤولية أحد عن وقوع الكارثة، ويصور الفيلم كيف قام اليابانيون بتنظيم أنفسهم وكونوا جمعيات لتنظيم الكشف على الأغذية، والتأكد من خلوها من الإشعاع، والحصول على الخضراوات من مناطق خارج منطقة الكارثة، وتوزيعها، وتحويل بعض المنازل الخاصة إلى منافذ للتوزيع، إلا أنه يصور أيضا كيف أثرت الأزمة على أخلاقيات اليابانيين فنرى صورا للنهب والسلب وتدمير ماكينات الصرف الآلي والاستيلاء على محتوياتها من النقود، وارتفاع معدلات الاصابة بالاكتئاب والانتحار (شركات التأمين تدفع حتى بعد الانتحار!).

آثار الكارثة بادية خلف هذه الأسر النازحة

في يوليو 2013 ورغم أن السلطات أغلقت تماما الطرق المؤدية إلى فوكوشيما إلا أن بيو ديميليا يصر على العثور على طريقة لاختراق الحصار والوصول اليها مرة أخرى بعد مرور أكثر من عامين، ليطلعنا على الوضع من الداخل، وينجح مع مجموعة من زملائه الصحفيين، في دخول فوكوشيما التي أصبحت الآن- كما نرى- مدينة أشباح، يوثق المخرج وفاة المدير السابق للمحطة النووية الذي يرجع إليه الفضل في استخدام المياه للسيطرة على الارتفاع الكبير في درجة الحرارة داخل المفاعلات وبالتالي انقاذ البلاد من كارثة على نطاق أوسع كثيرا. 

ونرى في هذا الجزء كيف تحولت المساكن المؤقتة التي أقيمت لإيواء مئات الأشخاص إلى أماكن دائمة تؤوِي مئات الآلاف، ونرى كيف تسربت الغازات السامة ثم المواد المشعة مع ملايين الجالونات من المياه التي تسربت الى البحر، وكيف تأثرت الحيوانات والأسماك في المنطقة المكنوبة، ثم ما وقع داخل من انفجارات مدمرة داخل المفاعلات، وكيف لجأت السلطات الى استخدام مياه الصرف الصحي ثم البحر لتهيئة الحرارة الشديدة الناتجة عن المفاعلات.

معجزة النجاة

الفصل الثالث والأخير بعنوان “المعجزة”ويبدأ بتصوير عبر الرسوم (التحريك) التجربة النووية التي أجرتها الولايات المتحدة عام 1954 في المحيط الهادئ وأساء العلماء الأمريكيون تقدير قوة الانفجار ليأتي أقوى بثلاثة أضعاف ويؤدي إلى انتشار الاشعاع النووي واصابة بعض الصيادين اليابانيين، كما أصيبت أسماك التونة في المنطقة، ومنذ تلك الحادثة، أصبح اليابانيون مناهضين لكل ما يتعلق بالطاقة النووية، لكن الأمريكيين قادوا حملة تحت شعار الطاقة النووية من أجل السلام، وفرضوا على اليابانيين قبول الوجود النووي على أراضيهم. ويصف ظروف عمل آلاف العمال في المنشآت النووية اليابانية، ويصورهم في ملابس العمل، ويصف المخاطر التي يتعرضون لها مقابل الإغراءات المالية (300 دولار يوميا مقابل التعرض للاشعاع كما يقول التعليق!)

عمال في المنشآت النووية اليابانية

ثم يظهر في الفيلم المصور الياباني كينشي هيجوشي الذي ذاع صيته في السبعينات عندما قام بنقل ما يحدث داخل احدى المحطات النووية، ليؤكد انه كان دائما ضد تعريض حياة الناس للخطر مقابل انتاج الطاقة النووية، ويقول إنه لم يعد ممكنا بعد ما وقع الاستمرار في هذه السياسة، لكن اليابانيين أصبحوا يبيعون الخبرة النووية الى الخارج، أي أن المسألة كلها تتعلق بالمال- حسب قوله!

من أكثر ما يميز الفيلم براعة الانتقال من المناظر الوثائقية، إلى اللقطات الأرشيفية، إلى البشر الذين مروا بالأزمة والاستماع إلى تعليقاتهم السريعة، إلى تقطيع المقابلات على الصور الحية الوثائقية، ثم الانتقال كلما اقتضى الأمر، إلى الرسوم والجرافيكس المجسم مع شروح لكل آليات العمل داخل المحطات النووية بطريقة بسيطة يمكن أن يستوعبها المشاهدون.

الصحفي الإيطالي "بيو ديميليا"

ويتميز الفيلم بمونتاج شديد الجاذبية يجعل بؤرة الفيلم تتركز في شخصية الصحفي الايطالي بيو ديميليا الذي يقودنا معه في هذه الرحلة عبر الفيلم، يتوقف أحيانا ليمنح اللقطات نفسا طبيعيا، في الحقول التي جفت، أمام الحيوانات التي تهيم على وجوهها في المناطق المهجورة، والأشخاص الذين أصبحوا بلا مأوى، والمقابر التي تضم رفاة من فقدوا حياتهم إلى جانب أجدادهم. وبالتالي لا يخلو فيلم “فوكوشيما: قصة نووية” من لغة الشعر، رغم قسوة الموضوع، وهي المعالم البارزة في الفيلم الوثائقي الحديث.


إعلان