أحلام بلا نجوم في إيران

محمد موسى 

تكمن أهمية بعض الأفلام التسجيلية في الفرص الإستثنائية التي تتوفر لها للتقرب من العوالم الخاصة لشخصياتها أو موضوعاتها وكونها شاهدة أحياناً على لحظات تاريخية، والعمل لفترات طويلة دون مُعوقات او مُضايقات او ضغط السقف الزمني المحدود، كالأفلام التي تشهد عن قرب ولادة حركات سياسية أو اجتماعية، او تلك التي تمنح إذونات بالتصوير في أمكنة ممنوعة في العادة على الكاميرات كالسجون او المصّحات النفسيّة. هذا على فرض أن معالجة تلك الأفلام البنائية والشكليّة ستأتي بدورها متماسكة ورصينة، وتتضمن قدراً معقولاً من الإبتكار، مُستفيدة في المقام الأول من الظروف والفرص التي أتيحت لها، ونجاحها في إبرازها، ضمن رؤية مجددة تربط هذه الظروف الإستثنائية بمشهد تحليلي واسع.

مشهد من فيلم "أحلام بلا نجوم"

يندرج فيلم” أحلام بلا نجوم” للمخرج الإيراني مهرداد اسكويو، ضمن مجموعة الأفلام التسجيلية التي كانت محظوظة كثيراً بالفرصة التي أتيحت لها بالتصوير في سجن للفتيات القاصرات في العاصمة الإيرانية طهران. ذلك أن العمل السينمائي بالمطلق في إيران لازال يعتبر من القضايا الإشكاليّة كثيراً، ناهيك عن التصوير في سجن للنساء، بما يتضمنه من كشف لنماذج نسائية شاذة ومتمردة، على خلاف الصورة المحافظة التي يسعى نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية ترويجها عن البلد.

وبعيداً عن الوضع الإيراني الخاص، يُثير فيلم “أحلام بلا نجوم” أسئلة عامة تدور في مدارات العمل التسجيلي بشكل عام، عن المسؤوليات الأخلاقية لصانعي هذه الأفلام تجاه الشخصيات التي يقدموها، وإشكاليّة التعاطي مع شخصيات تحت سن البلوغ، وبالخصوص عندما يتعلق الأمر بمرتكبي جرائم.

يشي تبدل الفصول المناخية عبر زمن الفيلم والأحداث العديدة التي تتوالى فيه عن طول الفترة الزمنية التي قضاها المخرج في السجن مع شخصياته، يتابع الفيلم عدد محدد من الفتيات، منها من ستترك السجن أثناء التصوير، فيما يتوجب على البعض الآخر إتمام عقوباتهن.

لا تخرج الكاميرا من أسوار السجن على طوال زمن الفيلم، وسيكون أقصى نقطة تصل اليها، هي الإطلالة عبر فتحة بابه الخارجي على الشارع العام المقابل، لتصور أول لحظات الحرية لبعض السجينات. فيما سيسجل المخرج حوارات قليلة مع مشرفي ومشرفات السجن، في الوقت الذي يخصص وقته الأطول للبطلات السجينات، ليرون قصصهن أحياناً، ولتراقب الكاميرا في أحيان أخرى يومياتهن في السجن، وثقل الزمن على الأرواح الغضة.

إحدى السجينات تطل من شرفة غرفتها بالسجن

لا يبدو المخرج مهتماً كثيراً بالأسباب وراء سجن الفتيات، بقدر بحثه في الظروف العامة لهن، وما شهده عمرهن القصير من أحداث جسام، تشترك الفتيات في نوع البيئة التي ولدن ونشأن بها، والتي تجمع الفقر المتوارث بالمشاكل الإجتماعية العميقة، ويكاد الإدمان على المخدرات أن يكون العامل المشترك بين قصص الفتيات، والذي تعرض معظمهن الى إعتداءات جنسية وجسدية من رجال بالغين من أقربائهن، ليتجهن بعمر مبكر جداً الى الجريمة، ومنها جرائم العنف المسلحة الخطيرة والتي تتضمن قسوة كبيرة.

تتيح الفترة الطويلة التي قضاها المخرج مع شخصياته كشف الكثير من جوانب الأخيرة النفسية،حتى أن سحنات الفتيات تتبدل كانعاكس لوضعن النفسيّ الذي يلتقطه الفيلم، فيبدن أحياناً كفتيات عاديات بريئات، وأحياناً يتفجر العنف والغضب من الوجوه اليافعة، من الفتيات اللواتي ركز عليها الفيلم، واحدة هجرها والداها بعد سجنها، وإتصالها الوحيد مع العالم الخارجي عبر جدة مسّنة، ستبكي هذه الفتاة في مشهد مؤثر عندما كانت تتوسل لجدتها أن تزورها في السجن، لكن هذا البكاء وحسب إحدى حارسات السجن هو وسيلة معروفة للفتيات للتأثير بمن حولهن، وأن بعضهن وحسب الحارسة نفسها فاتهن قطار الإصلاح.

سيتابع الفيلم قصة الفتاة الباكية تلك وحتى خروجها من السجن، وسينقل بمشهد طويل مغلف بالأسى وقفتها بانتظار من يأخذها بعيداً عن مكان حبسها، وكل متاعها كانت تحمله في أكياس بلاستيكية صغيرة.

يضيف وصول طفل إحدى السجينات والذي لم يتعدى العام الواحد الكثير من الحيوية الى الفيلم الذي خيم عليه تشاؤم وكدر قصص الفتيات، تتشارك السجينات رعاية الطفل الذي يسمح له القاضي بالبقاء مع الأُمّ، ليتحول إلى طفل ولعبة الجميع، وتذكير وحيد بالحياة السويّة البعيدة.

يسجل الفيلم في نصفه الأخير وأحياناً بدون حوارات الحياة اليومية للطفل وأُمهاته العديدات، كما ينقل الفيلم في مشاهد طريفة وساخرة وصول شيخ ديني شاب يقوم دورياً باعطاء دروس أخلاقية للفتيات. والتي لا تؤخذها الفتيات بجدية كبيرة، بل أن بعضهن كشف عن غضبه من “الدين” نفسه، وكيف أنه كقيمة أساسية في المجتمع الإيراني قد خذلهن هو أيضاً، كما خذلهن السلطات والأهل.

فاز فيلم “أحلام بلا نجوم” بجائزة حقوق الإنسان عندما عرض في مهرجان برلين السينمائي في بداية هذا العام، وبعدها بجوائز اخرى في عدد من المهرجانات السينمائية التي عرض فيها. يبتعد الفيلم عن أيّ أحكام أخلاقية مُسبقة وينجح على قدر كبير بتجريد فتياته من ماضيهن الإجرامي، ويبحث عن أصل الشخصيات تحت طبقات القسوة التي تغطي حضورهن الخارجي. يكشف المخرج مهرداد اسكويو الذي لا يظهر في الفيلم، وفي أحد حواراته مع سجينة مراهقة، بأن له إبنة بعمرها. هذه العاطفة الأبوية كانت على الأرجح البوابة التي سيدخل عبرها المخرج الى قلوب الفتيات، والتي ستكون لها نفس أهمية الفرصة التي منحتها له إدارة السجن بالتصوير داخله.


إعلان