فردريك وايزمان: عبقرية صانع الوثائقي

أمير العمري

يعتبر المخرج الأمريكي فردريك وايزمان (86 عاما) أحد أعظم مخرجي الأفلام الوثائقية في تاريخ السينما المعاصرة، رغم أنه لم يؤسس لحركة سينمائية، بل ظل يعمل منذ أن بدأ الإخراج السينمائي عام 1967، كمخرج مستقل، يهتم برصد التناقضات والمشاكل الاجتماعية في الولايات المتحدة بأسلوبه الذي يبدو وكأنه يجمع بين أسلوبي مدرسة “سينما الحقيقة” في فرنسا، و”السينما المباشرة” في أمريكا، ولكنه يطلق على ما يصنعه من أفلام تعبيرا مبتكرا هو Reality Fictions التي يمكن ترجمتها إلى “خيال الواقع” أو “الخيال الواقعي”.

فريدريك وايزمان: ولع بالبحث عن الحقيقة

يرى بعض نقاد السينما الوثائقية أن وايزمان، الذي أخرج حتى الآن 44 فيلما وثائقيا، يستخدم هذا التعبير لكي يؤكد أولا على أن صنع الوثائقي ليس معناه تسجيل الواقع بشكل حرفي والإخلاص التام له (كما يزعم مخرجو سينما الحقيقة) بل تقديم رؤية أو صورة فنية إبداعية للواقع، وهو ما يتفق مع مفهوم جريرسون في تعريفه الأولي للفيلم الوثائقي بأنه “الفيلم الذي يقدم معالجة خلاقة للواقع”، وثانيا، يريد وايزمان أن ينفي عن الفيلم الوثائقي كما يصنعه، صفة “الموضوعية”، مؤكدا على فكرة التدخل “الذاتي” في السياق من خلال ما يركز على تصويره ثم من خلال الصياغة، أي المونتاج، في تأكيد واضح على “فنية” الوثائقي.

عبر أكثر من أربعين عاما استطاع وايزمان ترسيخ معالم أسلوبه الخاص من خلال أفلامه التي تهتم بما يحدث داخل الحياة الأمريكية: المؤسسات العامة، المدارس، المصانع، الدور السكنية، الجامعات، السجون، المستشفيات، المجمعات الاستهلاكية، الحدائق العامة، همه الأول هو الإنسان، كيف تتعامل هذه المنشآت معه وتؤثر على حياته، وكيف يتفاعل هو معها.

زاوية النقد تبدو مستترة في أفلام وايزمان، فهو لا يتخذ موقفا محددا أي أن أفلامه لا تتبنى منهجا أيديولوجيا مسبقا، بل يجنح إلى ترك الصور والشخصيات تتحدث عن نفسها، ويترك للمتفرج أن يصل إلى استنتاجاته الخاصة بنفسه، ولكن دون أن يتخلى وايزمان، عن وضع الصور في سياق يؤدي، على نحو ما، إلى التأثير في مشاعر المتفرج.

لقطة من فيلم "في مرتفعات جاكشون"

مرتفعات جاكسون

أحدث أفلام وايزمان (رقم 44) هو فيلم “في مرتفعات جاكسون” In Jackson Heights. ويبلغ زمن عرضه أكثر من ثلاث ساعات، شأن كثير من أفلام وايزمان ومنها الفيلم الذي صوره في جامعة بيركلي بولاية كاليفورنيا: “في بيركلي”، الذي يتجاوز زمنه الأربع ساعات، و”ناشيونال جاليري” أو “المتحف الوطني” (3 ساعات)، و”الحديقة” (3 ساعات و16 دقيقة). أما “مرتفعات جاكسون” ففيه يرصد وايزمان تفاصيل الحياة وتناقضاتها داخل هذا الحي السكني الفقير الذي شيد وشهد توسعات كبيرة في الفترة من 1914 إلى 1929، وهو يقع في ضاحية كوينز بمدينة نيويورك، وقد شيدت مبانيه أصلا لصالح السكان من الطبقة العاملة والمتوسطة، لكنه شهد منذ الثلاثينيات، هجوما سكانيا من جانب تجمعات المهاجرين من أصول عرقية مختلفة.

يضم الحي أعدادا كبيرة من السكان، في أكبر تجمع من نوعه، حيث يتحدث السكان حسب ما يأتي في سياق الفيلم، 167 لغة، ويرصد الفيلم علاقة هؤلاء السكان بثقافاتهم الأصلية (عاداتهم وتقاليدهم..) وانتمائهم الجديد للثقافة الأمريكية، أي لنمط الحياة الجديد المختلف في الولايات المتحدة، مصورا في مشاهد تتميز بألوانها البديعة وصورها النابضة بالحياة، الرقص والغناء والاحتفالات والرغبة في المعرفة والابتكارات التي تضيف إلى المنطقة والإصرار على تحقيق التقدم رغم قسوة الظروف، والتعايش الجميل معا رغم اختلاف العادات والديانات، ويحتفي بهذا التنوع العرقي والسكاني الذي يقال في الفيلم أن لا شئ يضاهيه في العالم، بسكانه الذين يغلب عليهم المهاجرون من أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا والمكسيك.

يتميز حي مرتفعات جاكسون بتنوع الأعراق والثقافات

إنه فيلم عما يمكن أن نطلق عليه “قاع مجتمع نيويورك” الذي لا يعرفه أحد، فأربعون في المائة من الشخصيات التي تظهر في الفيلم تنطق بالاسبانية، وهناك يتسلل وايزمان بكاميرته داخل تجمعات العمال، داخل محلات الجزارة و”السوبرماكت” التي تمتلئ بالزبائن الباحثين عن “اللحم الحلال”، أي المذبوح على الطريقة الاسلامية، وسط تجمعات سائقي التاكسي، يغشى المطاعم المتعددة التي تقدم ألوانا مختلفة من الأطعمة، يستمع إلى أصحابها وزبائنها، لا يستخدم التعليق الصوتي من خارج الصورة كما يحرص منذ فيلمه الأول الشهير “حماقات التيتيكت” Titcuts Follies (1967) الذي كان “الفيلم الوحيد” في تاريخ السينما في الولايات المتحدة، الذي حظر عرضه لأسباب لا تتعلق بوجود مناظر إباحية أو انتهاك أسرار الأمن القومي الأمريكي، ومشاهدة هذا الفيلم اليوم، بعد أكثر من 40 عاما على ظهوره، توضح كيف كانت قوة الصورة وما تكشف عنه بجرأة غير مسبوقة، هي السبب في صدور قرار بوقف عرضه.

حماقات وانتهاكات

قام وايزمان (وهو أصل إبن لمهاجر روسي) بتصوير هذا الفيلم الذي يحمل عنوانا غريبا يرتبط باسم عرض غنائي، داخل مستشفى للمختلين عقليا من السجناء (الذين ارتكبوا جرائم) والمستشفى تابع لسجن بريدجووتر في ولاية ماساشوستس، وقد تمكن وايزمان من الحصول على تصريح بالتصوير داخل تلك المستشفى، ولكن قبيل عرض الفيلم في مهرجان نيويورك السينمائي، رفعت حكومة الولاية دعوى قضائية لوقف عرضه بحجة أنه ينتهك خصوصية السجناء الذين يظهرون فيه، وهي حجة لا تستند على أساس، فقد سبق أن حصل المخرج على تصريح رسمي من الإدارة وعلى موافقة معظم السجناء الذين قام بتصويرهم، إلا أن المحكمة أصدرت قرارا بوقف عرض الفيلم، ورغم ما تقدم به وايزمان من طعون إلا أن الفيلم ظل ممنوعا من العرض حتى عام 1991، ولاشك أن السبب يرجع إلى جرأة الفيلم في تصوير الكثير من الجوانب التي تكشف الكثير من الممارسات السلبية لإدارة المستشفى وما يقوم به الحراس من انتهاكات بشعة لحقوق المرضى السجناء أمام الكاميرا.

مناقشة بين المريض والطبيب في فيلم "حماقات تيتيكت"

في لقطات مباشرة نشاهد نوعيات مختلفة من المرضى العقليين، بدرجات مختلفة من الخلل العقلي، فمنهم من يعاني مما يعرف بالفصام وجنون الاضطهاد (شيزوفرينيا- بارانويا)، وقد أحيل من السجن إلى المستشفى ومر بالكثير من الاختبارات، وهو الآن يقف أمام الطبيب الذي يراجع حالته، مصرا على أنه كان أفضل قبل أن يأتي إلى هذا المكان المقلق الملئ بالفوضى والضجيج وسوء المعاملة، كما يبدي تشككه في قيمة ما يعطونه من دواء يرى أنه قد أدى إلى تدهور حالته النفسية. ولكنه قضى حتى الآن عاما ونصف العام، دون أن يسمح له بالعودة إلى السجن حيث يرغب أن يكون لأنه – كما يقول- يستطيع هناك أن يقرأ وأن يمارس عملا نافعا، ورغم أن الطبيب يعترف أمام زملائه بأن هذا الشخص كان في السابق أكثر مرحا وانفتاحا وأن حالته قد ساءت بالفعل، إلا أنه رغم ذلك، يقرر بقاءه في المستشفى، ويوصي بزيادة جرعة الأدوية المهدئة التي تُعطى له!

هناك شخص آخر يدعى “جيم”، يتركونه كما يتركون عشرات السجناء الآخرين عرايا تماما، داخل زنازين عارية تبدو كما لو كانت تنتمي للقرون الوسطى، يستدعوا جيم هذا الذي يهذي بكلمات غير مفهومة لكن لديه درجة من درجات الفهم لما يوجه إليه من أسئلة، أحدهم يجعله يرقد ويحلق له ذقنه بطريقة خشنة، بينما لا يكف الحارس الآخر عن ترديد الأسئلة إليه بطريقة فظة مهينة: لماذا تركت غرفتك قذرة ياجيم؟ ماذا تقول؟ لا أسمعك.. كرر ما تقوله.. ماذا؟ هل ستنظفها غدا؟ لقد سبق أن قلت لي هذا لكنك كذبت. لماذا تبقي زنزانتك قذرة؟ لا أسمعك.. ارفع صوتك أكثر..

السجين "جيم" عاريا في زنزانته

وهكذا تستمر جلسات التعذيب التي تصل إلى حد إرغام سجين على أن يرقد فوق سرير بدائي، يقيدون يديه، ويُدخل الطبيب خرطوما من فتحة أنفه ليصل إلى معدته، ثم يصب فيه الماء بواسطة “قمع” مطاطي وهي طريقة يطلقون عليها “التغذية بالأنابيب”، والغريب أنها تتم بصورة بدائية تماما، في غرفة قذرة، ولا يكلف الطبيب نفسه أن يرتدي القفازات الطبية، بل ويضع السيجارة في فمه معظم الوقت، ثم يصعد فوق مقعد لكي يرفع الأنبوب إلى أعلى ليصب فيه مزيدا من الماء، بينما يطلب منه مساعده أن يدخر بعضا منه للمريض الثاني! 

صورة من العصور الوسطى

وفي مشهد آخر يجلس سجين أمام طبيب نفسي يعترف بأنه مارس الجنس مع فتيات صغار السن، كما يهذي شخص آخر بكلمات كثيرة في السياسة، عن حرب فيتنام، والشيوعية وكذب أمريكا في حملتها الدعائية ضد الفيت كونج، ورغم الاضطراب الواضح في طريقته وأسلوبه، إلا أنه يبدو شديد المعرفة والاطلاع، كما نرى رجلا آخر يهذي بكلمات عن تسرب الغاز في منزله من جهة غير معلومة (حالة بارانويا أخرى) دون أن نعرف بالضبط ما هي جريمته، هل كان هو الذي قام بتسريب الغاز لقتل أبنائه مثلا؟ أما “جيم” فهو يعود إلى زنزانته عاريا، لنجد الزنزانة فارغة من الأثاث تماما، وهو نفس ما تتصف به باقي الزنازين، جيم هذا كان في الأصل مدرسا للرياضيات، وهو حاصل على شهادة عليا، ولكنه تحول الآن إلى شبه انسان، يعود إلى زنزانته، يضع يده على فمه الذي ينزف دما ربما بتأثير الحلاقة الخشنة، يحدق فزعا في الكاميرا، يدق بقدمه أرضية الزنزانة، دقات منتظمة بصورة شديدة العصبية، إنها صورة مفزعة جعلت أحد النقاد يقارن بينها وبين ما كان يحدث في معتقل أبو غريب!

في مشهد آخر يرغم الحراس السجناء على خلع ملابسهم، والبقاء عارين تماما ثم يسوقونهم الى الزنازين العارية، دون أن نعرف السبب الذي ربما يكون لاعتقادهم أن الوضع يصبح هكذا تحت السيطرة أكثر، بينما تفتقر الزنازين لأدنى الشروط الإنسانية، ويعامل السجناء معاملة الحيوانات، ويخضعون لنوع من الضغوط والتعذيب النفسي الشديد الذي يتناقض تماما مع بسط حقوق الإنسان.

يرغم الحراس السجناء على خلع ملابسهم، والبقاء عارين تماما ثم يسوقونهم الى الزنازين العارية

يستخدم وايزمان اللقطات القريبة للوجوه، وينتقل بالكاميرا مع مصوره جون مارشال، داخل الممرات الضيقة، يتابع المناقشات التي تدور بين السجناء والأطباء، وبين السجناء وبعضهم البعض، كما يستخدم الكاميرا الحرة المحمولة وما توفر له من إضاءة طبيعية في الظروف القاسية التي يدور فيها التصوير، ويقطع أجزاء فيلمه بين فترة واخرى، على بعض الأغاني والاستعراضات الراقصة التي يقدمها السجناء (المرضى)، مما يخفف بعض الشئ من الأجواء القاتمة لمشاهد الفيلم الذي ينتهي والحراس يحملون جثمان “جيم” ملفوفا في كفنه، يضعونه داخل نعش، ثم ينقلونه بسيارة حيث يتم دفنه.

عندما سمح بعرض الفيلم بعد أكثر من 13 عاما من المنع، فرضت السلطات على وايزمان أن يذكر أن الأوضاع قد تغيرت منذ 1966 (أي منذ تصوير الفيلم) على تلك المنشأة، وقد وضع وايزمان كتابة في نهاية الفيلم تقول إن السلطات طلبت منه هذا الطلب، يعقبه بلوحة تقول إن “الأوضاع قد تحسنت بعد ذلك”.. في سخرية لا تخفى على أحد بالطبع!


إعلان