فيلم اشتباك: السير على الحبال
محمد هاشم عبد السلام
“اشتباك” هو الفيلم الروائي الثاني في رصيد المخرج المصري محمد دياب، 38 عامًا، وذلك بعد فيلمه “678”، الذي أخرجه عام 2010. وقد قام محمد بكتابة سيناريو الفيلم بمساعدة شقيقه السيناريست خالد دياب، وهما من كتاب السيناريو البارزين خلال العقد الأخير في تاريخ السينما المصرية. وقد اختار دياب، كما في فيلمه السابق، أن يناقش حدثًا سياسيًا اجتماعيًا ساخنًا يشغل بال المجتمع المصري بمختلف أطيافه وفئاته وأعماره، وله أيضًا متابعيه على المستوى الخارجي.

وقد اختار دياب في فيلمه الأخير أن يكون التركيز بالأساس على السياسة، لا سيما وأنها باتت اليوم الشغل الشاغل للجميع أكثر من أي شيء آخر بالمجتمع المصري، وقد اختار أيضًا، النجاة قدر الإمكان من أفخاخ المباشرة والترميز والانحياز وطغيان الطرح السياسي على كل ما هو سينمائي، وغيرها من الأمور التي عادة ما تصاحب الكثير من أفلامنا السياسية في وطننا العربي، كذلك مال للتعبير عن كل شيء، وطرح الأفكار الأساسية بقدر كبير من التوازن، الذي لا يُحسب عليه من جانب أي طرف من الأطراف، وذلك من دون محاولة التجاسر على تخطي أي حاجز من الحواجز غير المسموح بها على كافة الأصعدة. وقد أفلح دياب إلى حد كبير في السير فوق العديد من الحبال بمهارة شديدة محسوبة دون أن يختل توازنه أو يتعثر لدرجة السقوط.
حاول دياب في فيلمه، الذي تدور أحداثه في صيف عام 2013، مباشرة في أعقاب عزل الرئيس السابق محمد مرسي، والذي عرض في افتتاح قسم “نظرة ما” بمهرجان “كان” هذا العام، الاقتراب كثيرًا من روح وقلب الشارع المصري على نحو يتماهى وواقعية الحياة اليومية خلال تلك الفترة. بينما حاول أيضًا، خلق الكثير من التوازن عبر بث العديد من المشاهد والخيوط الدرامية القصيرة، التي تفاوتت في قوتها على امتداد لحظات الفيلم، وإن جنحت في بعض الأحيان إلى الميلودرامية بعض الشيء والمباشرة والخطابية، وسقوط بعض الشخصيات والجمل الحوارية في هوة التكرار والمبالغة وما لا داعي له، مما أثقل الكثير من مشاهد الفيلم بما هو زائد، لكنها آفة الكثير من المخرجين الذين يرون ضرورة أن تتحدث جميع الشخصيات، على كثرتها، وبصرف النظر عن أهميتها ودورها وما تقوله، طالما تواجدت على الشاشة حتى وإن كانت هامشية التواجد.

وقد حاول دياب عبر السيناريو والشخصيات التي رسمها أن يُبَسِّط طبيعة وحقيقة الوضع الفعلي في مصر منذ سقوط الرئيس السابق محمد مرسي، وامتداد هذا حتى الوقت الراهن، لكن بالرغم من ذلك فالأمور للعالمين ببواطنها أكبر وأكثر تعقيدًا بكثير من هذا، أكبر من مجرد انقسام بين طرفين أو ثلاثة أو حتى أكثر، أعمق من مجرد تضاد أو تضارب أو حتى انقسام واشتباك جدالي حول وجهات نظر متباينة ومتغايرة، ترى كل منها أنها هي وحدها على حق دون الجميع، فالمجتمع المصري ليس فقط القاهرة ومن يعيشون بها، وليس فقط الإخوان والعسكر والموالين لهما واللاعبين على الطرفين، فثمة العديد من الأطراف المتباينة بالمشهد المصري على امتداده منذ اندلاع الثورة وحتى الآن، وذلك بالرغم من حرص كاتبي السيناريو على حشد جميع أطياف أو فئات المجتمع المصري تقريبًا بمختلف أعماره في تلك العربة على نحو مال للافتعال بعض الشيء.
نفس الأمر، فيما يتعلق بالتبسيط، الذي ينسحب على وجهة النظر التي طرحها المخرج بالفيلم – ليس بالضروري أن يكون مؤمنًا بها أو مؤيدًا لها ومدافعًا عنها – فليست محاول الاستماع للآخر أو التعامل معه بإنسانية والتسامي فوق الخلافات في لحظات الخطر أو محاولة التعايش في مواجهة الخطر الداهم أو الطوفان الذي سيجرف الجميع، هي الحلول الوحيدة المطروحة أو المتاحة، فعند التحدث عن المجتمعات يصعب للغاية التنبؤ بحركاتها أو رصد ردود أفعالها أو توجيهها وفرض الحلول الفوقية عليها. فالمجتمعات طبقات غاية في التركيب والتعقيد، ومشكلات المجتمع المصري على وجه التحديد لا حصر لها، وهي ليست سياسية فقط أو حزبية أو انتمائية، ولا حتى دينية أو اجتماعية أو طائفية، إنها مزيج ضخم من كل هذا وما هو أكثر، ناهية عن الكامن تحت السطح ولم يبرز بعد حتى هذه اللحظة.

والملاحظ أن السيناريو حاول إبراز هذا على نحو جلي في لحظات متعددة بالفيلم، حيث التنوع الطبقي والانتمائي والتراتبي، وانعدام الانسجام داخل أفراد جماعة الإخوان وغيرهم من أفراد المجتمع العاديين، وبالتالي فالفريقين، إن جاز التعبير، على قدم المساواة تقريبًا، فبخلاف اشتباكهما مع الآخر، ثمة اشتباكات فرعية أخرى في الداخل، ونفس الأمر فيما يتعلق ببحث كلا الفريقين عن مصلحته الخاصة أو استعداده للعنف والاشتباك مع الآخر إن لزم الأمر. والأمر ذاته نراه فيما يتعلق بالشرطة، التي منها الإنساني والطيب والمتفهم، وفيها من هو على النقيض من كل هذا. ولذلك كله، لم يكن السيناريو موفقًا بالكامل في التوقف عند السطح، وعدم المضي إلى ما هو أبعد من ذلك فيما يتعلق بتلك النقاشات والتقسيمات السحطية من جانب كل جماعة للأخرى. ولا في التلميح بأن تصاعد العنف والاحتقان وتضاد وجهات النظر سيؤدي في النهاية لكوارث لا قبل للطرفين بها.
البناء الشكلي
إن فيلم “اشتبك”، بالنهاية، هو محض رسالة سياسية، بالأحرى رسالة سياسية تحذيرية مُحايدة، وهي ليست فنية أو بصرية، دون شك، وإن جنحت بعض الشيء إلى التستر في ثياب التجديد البصري والإخراجي والخروج عن الأنماط الإخراجية السائدة، والاستعانة بقدرة المخرج وبراعة المصور، ومهارة المونتير للخروج بأفضل نتيجة فنية ممكنة، لأن هذا كله في النهاية حتى وإن كان قد تحقق في بعض أجزاء الفيلم، فقد طغى عليه بالتأكيد صوت السياسة الزاعق، ووجهات النظر المتداخلة والمتشابكة فأطاح به، وظلت وجهة النظر السياسية والطرح السياسي هي الباقية في الذاكرة بعد انتهاء الفيلم، وليس الرؤية الفنية أو البصرية.

يسير الفيلم على النمط الكلاسيكي المعتاد، فمعظم الأحداث تدور داخل نفس المكان، باستثناء لقطات عابرة للمظاهرات وقمعها والقناصة والجنود وغيرها القليل. وعلى امتداد يوم واحد منذ الصباح وحتى المساء. والحدث هو ذاته من دون حيود ولو طفيف عن موضوعه الرئيسي الممتد على استقامته منذ بداية الفيلم وحتى نهاية، والذي يأخذ في التصاعد الدرامي تدريجيًا سواء داخل العربة المتحركة أو خارجها حتى التقاء الخطين معًا في النهاية، حيث يصل الفيلم إلى ذروته بالمصير الحتمي الذي كان من الطبيعي أن يلقاه جميع من بالعربة، رغم تعاونهم المتأخر مع اقتراب الخاتمة، على يد الفاتكين بهم من الخارج، سواء كانوا من هذا الفريق أو ذاك.
على نحو فني وتقني مدروس، حاول المخرج وفريقه نقل الإحساس بالمكان الضيق داخل عربة الشرطة – في استعارة بالطبع للمجتمع المحصور، بأفكاره المتضاربة، ضمن مساحات خانقة ضيقة لا يستطيع من فرط ضيقها التحرك في أجنابها – وذلك رغم صعوبة التصوير فيها، وتعذر عملية السيطرة والتحكم في المجاميع. وقد بدا الأمر في لحظات كثيرة بالفيلم غير ملموس بالمرة، كأن الكاميرا كانت تصور في مكان حر أو داخل حجرة مفتوحة يسهل التحرك فيها، وبمعزل عن بقية الشخصيات أو مع التركيز على بعضها دون غيرها، وتلك من الهنات الفنية التي هي نتاج لهذا الخيار الفني الذي حبذه المخرج. إلى جانب هذا، ثمة العديد من الهنات الطفيفة الملحوظة بالطبع، والتي كان من الممكن تجاوزها فيما يتعلق بأداء الشخصيات أو وجودها من الأساس، كذلك الكثير من المشاهد غير المقنعة، ومنها مشهد خوف إحدى الشخصيات من الأماكن المغلقة، ثم بروز الحر والعطش المفاجئين، وعدم ابتلال الملابس رغم الحر القائظ، والحاجة للتبول، وكلها لم نر أي أثر لها طوال الفيلم باستثناء تلك المشاهد التي ركزت عليها، وانتهى الأمر.