الأحلام في أفلام الرعب
محمد رُضا
في نهاية «كابينة دكتور كاليغاري» [The Cabinet of Dr. Caligari، روبرت واين، 1920]، يتراءى لنا أن الوهم هو الذي كنا نشاهده طوال الوقت. الطبيب (ڤرنر كراوس) هو واحد من المجانين في المصحّـة ومع نهاية الفيلم يفيق مما يتبدّى ككابوس لم يقضّ مضجعه بقدر ما قضّ مضاجعنا نحن الذين اعتقدنا أن ما نراه هو ما يحدث له وليس ما يفكر به.

الحلم والوهم في أفلام الرعب يتجانسان من حيث قدرة كل منهما على النفاذ إلى المشاهد كحقيقة، قبل أن يكشف الفيلم عن أنها لم تكن سوى كابوساً أو حلماً وبالتالي وهماً، بما أن الفيلم الذي يتعامل مع هذه التفعيلة (Device) هو في الأساس وهم مصوّر لنا لكي نقبله حقيقة فإن البعد الناتج هو مزدوج: أنت في حضرة وهم كبير يأخذك إلى وهم آخر لا يقل عنه حجماً في الأساس. لو اختار المخرج أن يفيق بطله من كابوسه لنجد أنه جزء من كابوس شخص آخر لأصبح الفيلم مثل المرايا المتعددة لا نهاية لها.
هذه فكرة ملهمة في واقعها لا يعرضها للخطر سوى سوء التعبير عنها إذا ما أمسك بها مخرج غير قادر على تبرير الوهم -داخل الوهم- داخل الوهم أو معالجته جيداً.
من ذلك التاريخ وحتى «كابوس شارع إلم» [A Nightmare On Elm Street، وس كراڤن، 1984] مرّت سينما الرعب بأعمال كثيرة تدخل فيها الوهم أو نصت على مشاهد لأحلام كابوسية يفيق منها الحالم أو يخرج من أحدها ليدخل في آخر حتى لتختلط عليه، وعلينا في بعض الأفلام، الفواصل بين الحقيقة وبين أي من هذه الأحلام.
«كابوس عند إلم ستريت» والأفلام التي تبعته (ثمانية بالإضافة إلى حلقات تلفزيونية) انتقلت في الواقع من مجرد تقديم حلم نتساءل حول حقيقته ويعكس كابوساً مخيفاً في العقل الباطني لإحدى الشخصيات، إلى بنية مختلفة إلى حد بعيد تعالج مسألة أن يكون النوم ممنوعاً على اشخاص الأفلام لأن الكابوس (قاتل عنيف أسمه فردي، Freddy) سيخرج من الحلم ليقتل صاحبه أو أصدقائه أو يدفع به لارتكاب جرائم قتل.

لم يعد مثيراً ، في تلك الأفلام، أن تصحو الشخصية من كابوسها وتطلق صرخة مدوية ليركض القريبين منها ويخبروها بأنها كانت تحلم (It was only a dream) وعادة ما تقول الشخصية للمحيطين بها “لكنه بدا كما لو كان حقيقة” (But it felt true). «كابوس شارع إيلم» نقل الأحداث إلى بعد آخر بتجسيده ذلك الكابوس. لم يعد ضروريا أن يصحى الشاب أو الفتاة وهو يدرك إنه كان يحلم لأننا واثقون من ذلك. ها نحن نعيش في مخيّـلته التي تخرج من دماغه لتصبح الفيلم بأسره.
بناء الحكايات
بناء الحكايات حول النوم أو خطورته له تاريخ شاسع.
بالنسبة لأفلام الرعب هناك خط نفسي شامل يربط بين تلك التي تتعامل والأحلام، هذا الخط كناية عن أن تلك الأفلام تستثمر في البعد النفسي للواقع. نحن نحلم (أحلاماً سعيدة أو مخيفة أو مجرد هلوسات) لأن بالنا يتعامل مع وضع نفسي ينبثق من الواقع. هذا الوضع قد يكون مشكلة مؤرقة أو صحوة ضمير أو عاكس لخوف باطني بعيد، ما قامت به هذه الأفلام كان تكويناً بصرياً لما يحلم به أبطال أفلامها ومختلف شخصياتها عند الضرورة.
«غرفة د. كاليغاري» مضى باكراً فيما هو أعمق من الظاهر (كذلك فعلت سلسلة «كابوس شارع إلم» إنما على نحو مختلف)، في ذروة السينما الصامتة وجد المخرج روبرت واين المعالجة المثيرة لمعالجة انعدام الفاصل بين الحقيقة والوهم في بال مجنون.
في كتابه «الفن الأكثر حيوية» (The Liveliest Art) أصاب الناقد الراحل آرثر نايت (1916-1991) عندما ذكر أن تلك الأفلام الألمانية الصامتة كانت “أكثر من مجرد أفلام رعب”، كانت أفلام هلع ناتج عن مخيلة غير منضبطة، مخيلة ما ورائية مذهلة في تحررها من الواقع، «كابينة…» لم يكن سوى واحد منها إذ سبقته أفلام عدّة منها فيلم بول واغينر «طالب في براغ» [Student in Prague سنة 1913] ولحقته أفلام أخرى مثل «نوسفيراتو» [Nosferatu | ف. و. مورناو، 1922].

«نوسفيراتو»، تحديداً، هو فيلم أحلام، ليس فقط أن مصاص الدماء نوسفيراتو المستنسخ من شخصية دراكولا (بعدما رفضت أرملة مؤلف رواية دراكولا برام ستوكر منحه إذناً باستخدام الإسم) كان ينام طوال النهار ثم يستيقظ ليلاً (ما الذي أدرانا إنه استيقظ أساساً فلربما هو عقل النائم الباطني)، بل أن الضحية التي قصد مص دماءها كان عليها أن تنام أولاً. نوسفيراتو سيأتيها وهي نائمة ما قد يعني، باستدارة كليّـة، أنها قد تكون- بدورها- شاهدت حلماً بطله مصاص الدماء نتيجة رغبة جنسية غير محقة.
في صميم كل أفلام دراكولا ذاتها يأتي النوم واليقظة منه أمراً لازماً، هذا باستثناء أفلام مصاصي الدماء (Vampires) الحديثة. حقيقة أن الكاونت دراكولا ينام نهاراً ويصحو ليلاً هي، في بديهيّـتها، صفة للظلام والشر الكامنين في الليل، لا ننسى أن الحكايات الأولى وُضعت قبل عصر الأضواء الكهربائية اللامعة وأن قصور دراكولا تُـضاء بالشموع غالباً، إذ يستيقظ ليلاً من سباته فإن المعنى المجسد يشمل أيضاً ما يجمع بين الشر والظلام والخوف والعنف وهو الكابوس، في تفسير مقارب، استيقاظ دراكولا نهماً لمص دم ضحاياه هو ممارسة ذلك الكابوس الذي سيقض مضاجع الأبرياء إذا ما ناموا، كما كان الحال في «نوسفيراتو».
سوريالية
وهناك أفلام تلعب على الخيط الفاصل بين النوم واليقظة، الواقع والحلم، “كان هذا كابوساً”، نسمع كلمات التطمين في العديد من الأفلام التخويفية، “لكنه بدا كما لو كان واقعاً”، يأتي رد المرأة التي استيقظت من حلم كابوسي، لكن الأمور ستبرهن على أن الحالمة كانت على حق وأن الواقع حدث لها وهي نائمة، كما الحال في فيلم «طفل روزماري» Rosemary Baby [رومان بولانسكي، 1968] فالمرأة الحالمة تعيش مضاجعة جنسية في حلمها لتكتشف أن الشيطان اغتصبها لكي تلد له إبناً.

هذا الوضع ليس نفسياً، ونقدي لفيلم خلب عقول كثيرين هو أن الكتابة (من إيرا ليڤين وبولانسكي) وظّـفت كابوساً للتمهيد لما سيقع, في حين كان من الأفضل (والأعمق) استخدامه بعمق للبحث في دلالات نفسية تتيح بعض الغموض في واقع ما حلمت به عوض رمينا مباشرة إلى الاحتمال الوحيد وهو أن الشيطان مارس معها الجنس.
هذا البعد النفسي نراه في «جزيرة مغلقة» Shutter Island [مارتن سكورسيزي، 2010] لكن هذا الفيلم ليس من سينما الرعب للبحث فيه مطوّلاً، ولو أنه من أفضل الأفلام التشويقية التي تعكس نفاذاً من الجدار الرقيق بين الحلم والواقع عبر مشهد نرى فيه ليوناردو ديكابريو وهو يعايش ما قد يكون واقعة حقيقية (ولو أن المخرج عالجها بقدر من السوريالية) لحادثة حريق التهم زوجته.
في فيلم ديفيد لينش Lost Highway «طريق مفقود» (1997) يتحدث بل بولمان عن حلم شاهد فيه صديقته (باتريشا أركيت) تناديه دون أن يجدها، عندما استيقظ (أو خيل له أنه استيقظ) وجدها بجانبه في السرير لكن وجهها لم يعد وجهها الحقيقي بل وجه رجل، هذا الحلم هو أيضاً كابوسي لكن المعنى الرئيس فيه نفسي بعمق وهي انعكاس تساؤل بطل الفيلم حول هويته الجنسية، ربما كان عقله الباطن ينشد أن يمارس الحب المثلي، في قراءة قريبة، ربما بدأ يعاني من انحسار اهتمامه بصديقته، في أبسط الأحوال.

ديفيد لينش عمد إلى الأحلام في أكثر من فيلم وقبل عشرين سنة من «طريق مفقود» حقق فيلمه الأول «رأس الممحاة» (Eraserhead) الذي يمكن وصفه بأسره ككابوس. فيلم رعب جيد وخاص جداً باحتوائه على سوريالية داكنة. في نحو منتصف الفيلم يُـخيل لبطل الفيلم (جاك نانس) أن رأسه سقط من مكانه وعوضاً عنه بزغ رأس أفعى (أو ربما رأس سلحفاة). أما رأسه فسقط في الشارع ليلتقطه صبي. الحال هنا لا يمكن تفسيره، عقلانياً أو منطقياً. وهو حال الفيلم بأسره وينتمي إليه بلا ريب لأن العمل كله يبدو كما لو كان كابوساً حول حياة غير محققة خاضها رجل بحثاً عن الحب والعاطفة بلا جدوى. لكن التأثير مرهب في الوقت ذاته. تأثير المشهد وتأثير الفيلم بكامله.
هذا الحلم في «رأس الممحاة» أكثر تعقيداً وخصوصية من معظم ما جاءت به أفلام الرعب الحديثة، بما فيها الفيلم الذي نال أكثر مما يستحق من التقدير «طارد الأرواح» [وليام فردكين، 1973]. الحلم الذي في هذا الفيلم (الشيطاني أيضاً كشأن «طفل روزماري» عن كتابة لوليام بيتر بلاتي (أو «بلاطي» في أصوله العربية).
المشهد هو للراهب الأب كاراس (جاسون ميلر) وهو ينادي على والدته من دون أن تجيبه، مكان الحلم شارع مكتظ بالمارة في مدينة نيويورك، صوته غير مسموع (حتى بالنسبة لنا) وأمه تدير ظهرها له فلا ترى تلويحه لها.
لم أقرأ الرواية منشورة، لذا لا أعرف إذا ما كان المشهد/ الحلم وارد في الكتاب وفي أي سياق، لكن في الفيلم هو عرض واضح مرتبط بما ورد عن الأب كاراس من أنه ترك والدته في المستشفي من دون زيارتها قبل أن تموت، ما يعني أنه تفسير لنوبة ضمير تؤنبه، تسير بسيط آخر لا يصل إلى درجة ما ورد في أفلام السينما الألمانية التعبيرية ولا في أفلا لينش أو سكورسيزي.
إليهما يمكن ضم برايان دي بالما الذي صنع أفلامه على حافة نصل حاد بين الواقع والحلم، كما الحال في أفلام لألفرد هيتشكوك، ما يعتقد أبطال أفلام دي بالما أنه شاهدوه في الواقع يندمج في معالجة تظهره كما لو كان حلماً (على العكس من الحالات السابقة التي يصحو منها الحالم متسائلاً عما لو كان الحلم حقيقة).

في Sisters «شقيقتان» (1973) تٌـعامل بطلة الفيلم غريس (جنيفر سولت) كما لو كانت تتوهم (كما حال المعاملة التي نراها، على سبيل المثال فقط، في فيلم هيتشكوك Spellbound «مسحور»، 1945). لقد شاهدت جريمة قتل في الشقة المقابلة لكن عندما عاين البوليس الشقة لم يجد أثراً للجريمة. بما أننا نعلم أنها على حق، فإن ذلك يتيح لدي بالما أن يركز اهتمامه على تكذيب الواقع ووصفه بالحلم أو الوهم.
في فيلمه اللاحق (1976) «كاري» (عن قصّـة لستيفن كينغ) قدّم دي بالما حلماً فعلياً، هذه المرّة في فيلم رعب محدد: سو (آمي إرڤنغ) تزور في الحلم منزل كاري وأمها الذي تم حرقه وهي تحمل باقة ورد تريد وضعها أمام باب المنزل. المشهد ليلي وهي تتقدم في الحديقة للغاية. فجأة تمتد يد ملطخة بالدم وخارجة من تحت الأرض لتقبض على ذراع سو.
في الفيلم دعت سو صديقتها كاري لحفلة تخرج للطلاب والطالبات رغم علمها بأنها غير محبوبة ويعتبرها الطلاب والطالبات بشعة ومهووسة، نتيجة ذلك العداء تفقد كاري التحكم في أعصابها وتشعل النار في المكان لتحرق الجميع بإستثناء سو، سو بالتالي تشهد في المنام انعكاساً لشعورها بالذنب لأنها لو لم تصر على أن تأتي كاري إلى الحفل لما حدثت الكارثة.

معالجة هيتشكوكية
هذه العينات من المشاهد التي تطرح أحلاماً يمكن النظر إليها محصورة في كيان أفلامها على نحو مختلف مما تعالجه أفلام ذات مفاهيم واسعة الطرح. فـ «كابينة دكتور كاليغاري» لا يتحدث عن حلم يرد في منتصف الفيلم، بل هو عن حياة وحلم مختلطان على النحو الذي ذكرناه، كذلك »نوسيفيراتو» ومجموعة أفلام «كابوس شارع إلم».
وما يعنيه ذلك هو أن المخرج الذي يتعامل مع مفهوم الحلم لديه إختيارات فنية تختلف عن المخرج الذي يورد الحلم في مشهد أو إثنين. الغالب، من ناحية، أن الأفلام التي تورد مشاهد الأحلام تريد أن تتوسع فيما يضج طمأنينة الشخصات التي ترى تلك الأحلام، في حين أن الأفلام القائمة على مفهوم الأحلام لديها السعة المطلوبة لبناء الفيلم وتشكيله على النحو المناسب لذلك المفهوم. لهذا استفادت السينما التعبيرية الألمانية من إنقضاضها على الواقع وتأسيس بعض أفلامها على تشكيل تعبيري وهندسي وفني خاص بما تطرحه.
والواقع أن أفلام الرعب، من بين كل الأنواع، هي الأكثر قدرة على خوض هذا المجال. في عمق ما يرد في كلاسيكياتها القديمة والحديثة أن الغرابة المعروضة لا يمكن أن تقع في الحقيقة. بذلك هي أفلام تمشي بموازاة الواقع حوت أحلاماً أو لم تحتو.
أفلام المخرجين جون كاربنتر («هالووين»، «الضباب» وجورج روميرو (سلسلة «ليل الموتى- الأحياء») وداريو أرجنتو («القطة ذات الأرواح التسعة» و«سوسبيريا» من بين أخرى عديدة) وتوبي هوبر («مذبحة منشار تكساس») وسواهم لا تقترح مباشرة أن الأحداث تقع في حلم أو أن الحلم معني هنا. لكن غرابة ما توفره يستعير من الخوف الناتج عن الخطر الكابوسي للحياة عندما تتبدّى المخاطر كما لو أنها لا يمكن أن تقع في الواقع بل فقط في الكوابيس.
سأختم بفيلمين من أفلام ألفرد هيتشكوك، ذلك الفنان الملقب بـ «سيد الرعب» علماً بأن قليل من أفلامه تنتمي إلى الرعب فعلاً بينما يقبع معظمها في أنواع التشويق والجاسوسية والجريمة.

أحد هذين الفيلمين هو من نوع الرعب فعلاً: «سايكو» (1960) المشهود له بأنه أحد الأفضل بين أفلام الجريمة المعالجة رعبياً، يحتوي- قبل مشهد القتل الشهير في الحمّـام بنحو ثلث ساعة، مشهداً لبطلته جانيت لي تغفو وراء مقودها لوقت طويل قبل أن يوقظها شرطي (دور صغير لممثل بإسم مورت ميلز ظهر لاحقاً في فيلم «ستارة ممزقة» Torn Curtain لهيتشكوك أيضاً، سنة 1966) متسائلاً عن سبب وقوفها عند ناصية الطريق. هيتشكوك لا ينتقل قط إلى مشهد حلم يراود بطلته، لكن ما يقع لها لاحقاً هو كابوس حقيقي.
الشاب الذي قتلها (أنطوني بيركنز) مصاب بشيزوفرانيا، إنه موظف الاستقبال الشاب الذي يبدو لطيفاً ووديعاً عندما تحط جانيت لي في فندق بعيد عن زحمة الطريق (وبالتالي الحياة)، لكن ما أن تدخل غرفتها حتى يتلصص الموظف عليها من ثقب وراء حجرته ثم ينتقل، بلا شعور، إلى شخصيته الأخرى، شخصية الأم التي كان قتلها (خارج الفيلم) لأنها السبب في معضلته النفسية، حين يتقمص شخصيتها يصبح القاتل (ليس بعيداً عن مفهوم «دكتور جيكل ومستر هايد») وعندما يعود إلى حالته يلوم والدته (نفسه) على ما فعلت ويخفي الجريمة في بحيرة من الطين.
ألغاز ڤرتيغو
المعالجة الكلية تفيد أن العمل بأسره ينتمي إلى سينما الكوابيس: النوم الصغير (في السيارة) وبعده النوم الأبدي الكبير، كابوس الموظف الشيزوفراني الذي بدوره خلط بين الواقع والخيال. وحتى طريقة سير التحري ملتون (مارتن بالسام) صوب حتفه صعوداً إلى الدرج. كل شيء منفّذ في فيلم هيشكوك العبقري كما لو كانت شخصياته لا تعيش أي واقع.
هذا هو الوضع ذاته بالنسبة للفيلم الآخر لألفرد هيتشكوك وبل أكثر تعقيداً:
الفيلم هو «فرتيغو» (1958) الذي انتخب أفضل فيلم في التاريخ في استفتاء مجلة «سايت أند ساوند» قبل أعوام قليلة، هو بالتأكيد من أكثر أفلام التاريخ انفتاحاً على الأسئلة.

في البداية، نرى التحري جون فرغوسن (جيمس ستيوارت) يلاحق مجرماً على أسطح مباني في مدينة لوس أنجيليس، يقفز جون من سطح لآخر ومعه شرطي آخر، السطح الذي قفز إليه منحن وجون ينزلق ويتعلق بقضيب حديدي عند طرف السطح متدليا من فوق، عندما يحاول الشرطي نجدته، يسقط الجندي على جون، ينظر تحته في خوف فهو في الأساس لديه خوف من المرتفعات ووضعه البدني الآخر في خطر ما يضاعف خوفه بلا ريب.
بعد ذلك تحري متقاعد يطلب منه صديق قديم ملاحقة زوجته، لكن هناك أسئلة لابد من طرحها يمر عليها الفيلم لكي يقوم المشاهد بطرحها فعلاً، يريدك أن تفكر فيها:
إذا كان موقف التحري جون المتشبث بحافة السطح وغير القادر على إنقاذ نفسه على ذلك النحو الخطر… كيف عاد إلى الأرض سالماً؟ يظهره الفيلم وقد تغلب على إصابة، لكن كيف نجا من الموت في الأصل؟
من أنقذه؟ كيف أنقذه؟ بالتالي: هل هو ميّـت؟ هل نحن في حلم ميّـت (أو على الأقل ذاكرته)؟
طالما ليست هناك إجابة قاطعة، الا يصح أن يكون ما نراه حلماً طويل الأمد؟
إن لم يكن فأن مسيرة الفيلم تقود إلى وضع آخر: يقع جون في حب المرأة التي طلب منه زوجها ملاحقتها (كيم نوڤاك) وفي مشهد ذي دلالات، يخفق في منعها من إلقاء نفسها. سبب ذلك أن المكان الذي أنتحرت منه مرتفع ما يسبب له الدوار والخوف (برج كنيسة).
لكن بعد حين يجدها من جديد: المرأة ذاتها بإسم آخر. هل هي من يعتقد؟ هل تشبهها؟ تقول له أنها ليست هي، يصدّق، ثم تقول له أنها هي فيفزع، هل هو في واقع أو في كابوس؟ ومتى بدأ هذا الحلم الكابوسي؟ من مطلع الفيلم (أو حتى قبل مطلعه خارج الفيلم)؟ أو من النصف الثاني منه؟
طبعاً يمكن النظر إلى هذين الفيلمين بعيداً عن زاوية الأحلام: القصّـتان يمكن لهما أن يكونا حدثين في الزمن الحقيقي للفيلمين. لكن إذا كانا حدثان حقيقيان يبقى أنهما عولجا ككابوسين فعليين وبمهارة من يحاول الفكاك من كابوسه ولا يستطيع.