“الحياة بعد تشرنوبل”.. ناقوس خطر وبصيص أمل بمناطق أنهكها الإشعاع النووي

بمناسبة مرور ثلاثين عاما على كارثة تشرنوبل، أنجزت المخرجة الإيطالية “كيارا بيلاتي” فيلما وثائقيا يُسلّط الضوء على الحيوانات البريّة التي تتعرض للإشعاعات الذرية في المناطق المحيطة بمفاعل تشرنوبل النووي، فقد أدى انفجاره في 26 أبريل/نيسان 1986 إلى انبعاث مواد نووية مُشعّة هائلة سبّبت تلوثا مُروِّعا في خمسة بلدان على الأقل، وهي أوكرانيا وروسيا وبيلاروسيا وألمانيا والسويد.

وبسبب السياسة الأمنية المُتشددة للاتحاد السوفياتي السابق، لم يُتح للمخرجين -سواء داخل الاتحاد أو خارجه- أن ينجزوا أفلاما وثائقية تُصوّر الكارثة على حقيقتها، بل أتاحوا لقلّة نادرة أن تُنجز أفلاما محايدة لا تجرح كبرياء سلطة الاتحاد السوفياتي، بوصفه قوة عظمى موازية لقوة الولايات المتحدة الأمريكية.

غير أن هذا التشدد سرعان ما انفرط عقده بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، واستقلال الجمهوريات التي وقعت فيها الكارثة، مثل أوكرانيا وبيلاروسيا اللتين سمحتا للمخرجين السينمائيين والتلفازيين بمشاهدة الحقائق بأمّ أعينهم، وتوثيقها بأفلام رصينة ترصد تداعياتها الخطيرة على الكرة الأرضية المُكتظّة بالسكان.

أفلام الكارثة.. وثائقيات ترصد الآثار بعد سقوط الاتحاد

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق أُنجزت أعمال وثائقية كثيرة، نذكر منها:

“ريح سوداء.. أرض بيضاء” (Black Wind, White Land) للمخرج “جيري هوبان” (1993). “قلب تشرنوبل” (Chernobyl Heart) للمخرجة الأمريكية “ماريان دي ليو” (2003). “ساعة الصفر.. كارثة في تشرنوبل” (Zero Hour: Disaster at Chernobyl) للمخرج الكندي ريني بارتليت (2004). “معركة تشرنوبل” (La bataille de Tchernobyl) للمخرج الفرنسي “توماس جونسون” (2006). “تشرنوبل 3828” ( 3828) للمخرج الروسي “سيرجي زابولوتني” (2011).

وسواها من الأفلام التي ترصد الكارثة، أو تلاحق آثارها الوخيمة على الإنسان والحيوان والطبيعة.

يركّز فيلم “الحياة بعد تشرنوبل” (Life after Chernobyl) للإيطالية “كيارا بيلاتي” على تأثير المواد النووية المُشعّة التي خلّفها انفجار تشرنوبل على الحيوانات التي ظلّت تعيش في المناطق المحيطة بموقع الكارثة وسُميت بالأرض اليباب، بينما أُطلق على الغبار الذري المشع تسمية القاتل الخفي الذي يُرهب غالبية الناس، باستثناء بعض الطاعنين في السن الذين قرروا العودة بعد سنتين من الكارثة إلى منازلهم المدمَّرة، وواصلوا بقية حياتهم دون خوف من التلوث الإشعاعي الذي سيلتهمهم آجلا أم عاجلا.

تفاقم السلوك العدواني للذئاب.. سلوك الحيوانات

يمكن تقسيم هذا الفيلم الوثائقي إلى عشرة مشاهد أساسية في عملية البناء الفني، وأخرى ثانوية تؤثث بعض الفجوات السردية لمَشاهد أخرى قد تندرج في إطار قصص تكميلية، أو مؤازرة لقصص المَشاهِد العشرة الرئيسية.

قد يرى بعض المشاهدين أن المخرجة “كيارا بيلاتي” متأثرة بفيلم “ذئاب مُشعّة” (Radioactive Wolves) للمخرج “كلاوس فايكتنبيرغر”، وذلك لتشابه بعض اللقطات والمشاهد التي تتمحور حول تفاقم السلوك العدواني للذئاب المعرضة للإشعاع، أو طريقة استدعائها بواسطة العواء، أو بعض اللقطات المشابهة التي تصور جياد شيفالسكي البريّة.

لكن هذه اللقطات أو المَشاهد القليلة لا تُدلل على تأثر “كيارا” بفيلم “كلاوس” آنف الذكر، فقصة فيلمها مختلفة تماما، وهي ترصد ثمانية أنواع من الحيوانات، فتبدأ بالجياد والذئاب وتنتهي بالعصافير وفئران الحقل. كما تجدر الإشارة إلى أهمية المشهد الذي تركز فيه على العجوزين اللذين قررا العودة إلى منزلهما الحميم، حتى وإن كان هذا المنزل في قلب مدينة أشباح لا غير.

جياد شيفالسكي.. انقراض وشيك بعد 50 مليون سنة في المنطقة

يستعين معظم المخرجين بالصور الأرشيفية التي وثّقت انفجار المفاعل 4، وحجم الدمار الذي سببه لمحطة تشرنوبل للطاقة النووية وللمناطق المحيطة بها، وتأثيرها على الإنسان والحيوان والطبيعة، فقد قُدر أن شدة الانفجار تجاوزت انفجار قنبلة هيروشيما 400 ضعف، وقد سبّبت هذه الكارثة موت آلاف الناس، وأهلكت أعدادا لا تُحصى من الحيوانات. ولا تزال المنطقة المنكوبة مهجورة حتى بعد مرور ثلاثين عاما، ويمتد الحظر 20 ميلا في المناطق المحيطة بموقع الكارثة، ولا يستطيع أحد الدخول إليها من دون إذن من السلطات الرسمية.

لكن عالم البيولوجيا “روب نيلسون” والأنثروبولوجية “ماري آن أوهاتا” حصلا على موافقة غير مشروطة في الولوج إلى المنطقة المحظورة، وإجراء التجارب على عدد من الحيوانات التي تعيش في المناطق الملوثة بالغبار الذري، وكانت تجربتهما الأولى على جياد شيفالسكي، وهي نوع من الجياد البرية تعيش في تلك المضارب منذ 50 مليون سنة، وقد أصبحت مهددة الآن بالانقراض.

لا بدّ من الإشارة إلى أن أهمية هذا الفيلم الوثائقي تكمن في استعانة المخرجة بالمختصين الذين يعززون وجهات النظر العلمية، ويقدمون معلومات وافية عن الموضوعات التي يتحدثون عنها، ففي مَشهد الجياد البرية التي أخذت “أوهاتا” عيّنة من روثها بغية تحديد نسبة التلوث، نراها تلتقي بالبروفيسور “تيموثي موسو” الأستاذ بجامعة ساوث كارولاينا والمتخصص باستعمال الطاقة الإشعاعية، وقد أتاح لها أن تستعمل مختبره العلمي في فحص روث الجياد البرية، وتبيّن أن درجة تلوثها عالية على الرغم من أنها تعيش في المناطق الباردة من التلوث، وأن درجة السُمّية تتفاقم يوما بعد يوم، الأمر الذي يضعها على حافة الانقراض.

توحّش الذئاب المُفرط.. كائن ذكي يكسر سلوكه الأزلي

في المشهد الثاني تُتابع “كيارا” السلوك العدائي للذئاب، بعد أن تعرضت للإشعاعات النووية، فهذه الذئاب التي وُصفت بأنها ذكية بدأت تهاجم الإنسان، وهو أمر غير مألوف سابقا، لأنها كانت تتفادى الإنسان أصلا وتحتفي بعزلتها، كما تقول خبيرة الذئاب الدكتورة “مارينا شيكَفيريا” الأستاذة في الأكاديمية الوطنية للعلوم في أوكرانيا، وقد درست الذئاب لمدة عشر سنوات.

لا تخلو بعض اللقطات من عناصر الشدّ والترقّب والإثارة، فحينما يثبِّت “روب” الكاميرا لرصد الذئاب ليلا تقوم الخبيرة “مارينا” بتقليد أصوات العواء، وتنجح في استقدامها إلى مقربة من الكاميرا بما يقطع الشك باليقين بأن أنياب الذئاب وطريقة تكشيرتها، لا توحي إلاّ بالتوحش المفرط الذي لم يلحظه الإنسان قبل وقوع كارثة تشرنوبل.

وفي مشهد آخر لا يخلو من الخوف والحذر والترقب نرى “أوهاتا” ليلا وهي تراقب خنزيرا بريّا يأكل نباتات وثمارا مُلوثة ترفع درجة سمّيته، والأهالي الذين يقطنون خارج المنطقة المُحرّمة لا يمتنعون عن أكل لحوم هذه الخنازير المُعرضة للإشعاعات النووية.

نبذ الجيران.. حنين وعودة إلى المنطقة المُحرّمة

يختلف المَشهد الرابع تماما عن بقية المَشاهد المكوِّنة لهذا الفيلم، وذلك لأنه يُعنى بالإنسان وخاصة الناس الطاعنين في السن، إذ يقود أحدُ العاملين في مركز للإطفاء مخرجةَ الفيلم إلى أسرة تتألف من العجوز “إيفان إيفانوفيتش” وزوجته “ماريا كوندراتيفانا”، فقد قررا العودة بعد سنتين إلى المنطقة المُحرّمة التي عاشا فيها أكثر من خمسين عاما، وربما يكون الحنين هو أول أسباب العودة.

لكن إحساس هذين الشخصين اللذين أُخليا بأمر من الدولة لم يكن مُريحا في المنطقة الجديدة التي استقبلتهما، فالناس يهربون منهما حينما يعرفون أنهما جاءا من المنطقة المنكوبة، ويعاملونهما معاملة المنبوذين، لذلك آثرا العودة رغم الخطر الكبير الذي يتربص بهما، وهما الآن يأكلان مما تنتجه هذه الأرض المُعرضة للإشعاع من ذُرة وجزر وبازلاء وسواها من الخضراوات والفواكه.

 

 

"فأر الحقل" (Vole) الذي يبدو طبيعيا وهو يعيش في قلب هذه المنطقة الملوثة
“فأر الحقل” (Vole) الذي يبدو طبيعيا وهو يعيش في قلب هذه المنطقة الملوثة

يكشف هذا المشهد بأن هناك أناسا آخرين يعيشون في هذه المنطقة المحظورة رسميا، ويصل عددهم إلى 150 مواطنا.

تعود المخرجة إلى مشهد الذئاب الذي رصدته كاميرا “روب” والخبيرة “مارينا”، إذ يُتابعان سلوك هذا الحيوان البرّي الذي خرج عن طوره، وبات يشكل خطرا جديّا على الإنسان المنفرد، أو المجاميع البشرية الصغيرة التي تواجه هذه الذئاب المهسترة.

الغابة الحمراء.. دخول إلى منطقة الخطر الأعظم

أشرنا سلفا إلى أن الفيلم لا يقتصر على تأثير الغبار النووي على الحيوان والإنسان، بل يمتد إلى النبات أيضا. تترك شخصيتا الفيلم الرئيسيتان “روب” و”ماري آن” المنطقة الباردة ويقصدان المنطقة الساخنة أو الأكثر تلوثا، وقد سبق لهما أن تدربا مع طاقم التصوير على ارتداء الأقنعة والملابس الواقية، وأيقنا بأنهما يجب أن يبقيا أقصر مدة ممكنة، لأن احتمال تعرضهما للإشعاع النووي كبير إذا مكثا مدة طويلة.

قد يبدو هذا المشهد مُثيرًا ومُروِّعاً في آنٍ معا، وذلك لأنه يتمحور حول “الغابة الحمراء” التي تعرّض بعضها للاحتراق، وبعضها الآخر للإشعاعات النووية، وتحوّل لونها إلى الأحمر، ومن ميزات مخلفات هذه الغابة أن جذوعها وأغصانها لا تتحلل.

أما التجربة الصغيرة التي أجرتها “ماري آن” برفقة “إيان تومسون” الخبير بالسلامة الإشعاعية، فقد كانت مثيرة ومخيفة حقا، وذلك حينما أحرقت كمية صغيرة من الأوراق واكتشفت أنها شديدة التلوث، وأنها تُشكِّل خطرا أبديا على الإنسان وغالبية الكائنات الحيّة.


إعلان