“مجنون”.. السيرة المنسية للطبيب النابغة المحتال “جون برينكلي”
محمد موسى
عُرض الفيلم التسجيلي “مجنون” (Nuts) للمخرجة الأمريكية “بيني لين” في عدد من المهرجانات السينمائية المهمة عام 2016، وحصل على جائزة المونتاج في مهرجاني “صندانس” و”آشلاند للسينما المستقلة”، كما كان أحد الأفلام التي حظيت باهتمام شعبي ونقدي على حد سواء في مهرجان روتردام الدولي في هولندا عام 2016.
يستعيد الفيلم عبر التحريك السيرة المنسيّة للدكتور “جون برينكلي”، وهو الشخصية الأمريكية الإشكاليّة التي شغلت الرأي العام الأمريكي منذ بداية عقد العشرينيات من القرن الماضي وحتى وفاته في عام 1942.
مارس “برينكلي” الطب وافتتح محطة للراديو ستكون الأولى في شعبيتها في الولايات المتحدة، واكتشف مواهب موسيقية، وعمل متعهدا للحفلات، وغازل السياسة عندما رشّح نفسه عمدة لمدينته، وأصابته لوثة العظمة فكلّف كاتبا لكتابة سيرته الشخصية التي ستكون المصدر الأول لهذا الفيلم التسجيلي.
تأرجحت حياة الدكتور الأمريكي “جون برينكلي” (1885-1942) بين الفقر المدقع والثراء الفاحش، وبين الشهرة والمجد الواسعين وذلّ المهانة العامة، لكنه مات مفلسا بعد أن كان يحصد الملايين سنويا، وذلك في عز الأزمة الاقتصادية الأمريكية في الثلاثينيات، وكان شاهدا مرتين على انهيار إمبراطوريته المالية.
خدعة “برينكلي”.. طبيب عادي يصبح نجما في سماء الطب
تحوّل “جون برينكلي” من طبيب عادي في مدينة أمريكية صغيرة إلى نجم الطب الأمريكي، ودخل المخيلة الجمعية وأصبح صديقا للمشاهير، فقد خدع الجميع بعلاجه الوهمي للعقم والضعف الجنسي عند الرجال، وأجرى مئات العمليات التي نقل فيها خلايا من حيوان الماعز إلى رجال عاجزين، بيد أن سيرته لن تكون ملطخة بالفضائح فقط، فقد أحدث ثورة في مفاهيم محطات الراديو، ودفع المهمشين من الموسيقيين وأنواع موسيقية كانت مجهولة إلى صدارة المشهد الفني العام.
أفلمت المخرجة الحياة العامة لشخصيتها الرئيسية بأسلوب الأفلام المتحركة مستعينة بالمتوفر من تغطيات الإعلام للمحاكمات العلنية له، وكتاب السيرة الذاتية الذي أبقت المخرجة على المعلومات فيه، رغم أن الكثير من وقائع الكتاب ملفقة.
يُوفر القسم المستند على كتاب السيرة الذاتية الروح الدرامية للفيلم، ويضيء رغم عدم صحته جوانب من شخصية “برينكلي” المعقدة، وبالخصوص صورته الشخصية التي أراد أن يراها العالم، بينما تعيد تفاصيل المحاكمات العلنية الحكاية برمتها إلى الواقع، وتنفض عنها البراءة التي نسجها الزمن حولها، كما تصل مشاهد تلك المحاكمات إلى ذروات درامية غير متوقعة، عندما يدفع المحقق الجنائي والشهود “برينكلي” إلى زوايا ضيقة محرجة، قبل أن يبدأ عالمه بالتقوض التدريجي مؤذنا بالانهيار القادم.

صوت الفنانين المهمشين.. محطة الراديو الأولى في أمريكا
بالموازاة مع نشاطه الطبي بدأ “برينكلي” محطة راديو ستحتل سريعا ببرمجتها المتحررة من قوانين ذلك الزمان المرتبة الأولى في الولايات المتحدة، حيث ستتحول محطة الراديو تلك من منصة للترويج لنشاطات مالكها إلى موقع للموسيقى الجديدة في أمريكا، ومكان للمهمشين من المُوسيقيين الجدد، ومنهم مطربي موسيقى الريف.
ستواجه محطة الراديو مصير مستشفى “برينكلي” الخاص، أي الإغلاق، لكن هذا لن يوقف الطبيب الذي قرر أن ينتقل إلى ولاية تكساس ويسكن مع عائلته قرب الحدود الأمريكية المكسيكية، حيث سيشيّد في المكسيك محطة راديو جديدة تبث من هناك إلى الولايات المتحدة.

التسجيل الأخير.. عائلة أمام عاصفة الانتقادات
يُوظف الفيلم المواد الأرشيفية القليلة المتوفرة من “برينكلي”، ومنها فيلم بالألوان صُوّر له مع زوجته وابنه الوحيد في نهاية عقد الثلاثينيات على الأرجح، كما يستعين الفيلم بتسجيلات صوتية له كان يبثها عبر الإذاعة الخاصة به، ومنها تسجيل صوتي مؤثر وجهه إلى ابنه ذي السنوات العشر، بعد أن قررت المحكمة الأمريكية إغلاق محطته، ليكون التسجيل الأخير للمحطة الإذاعية الأولى.
سيختفي الابن ووالدته من المشهد العام بعد موت الأب، وسيظهران لمرة واحدة فقط في منتصف السبعينيات في لقاء تلفزيوني نادر صُوّر قبل فترة من انتحار الابن الذي قيل إنه أطلق النار على رأسه وهو يستمع إلى تسجيل صوتي لوالده، بينما بقيت الأُمّ -حتى وفاتها في بداية عقد الثمانينيات- تحمل الإيمان نفسه ببراءة زوجها وجديّة العلاج الطبي الذي كان يقوم به للمصابين بالضعف الجنسي.
حلم الأمريكي الذي ضلّ طريقه.. لغز الرجل الوقور
يعثر الفيلم على عناصر معاصرة في القصة التي يقترب عمرها من قرن كامل، ويبرزها ويجعلها أمثولة لحياة وحلم أمريكي ضَلَّ طريقه، كما ينفذ العمل إلى الأعماق القاتمة للجشع وعقد الفقر والطموحات البشرية التي لا حدود لها، حيث لا تريد المخرجة أن تطلق أحكاما متعجلة على شخصيتها أو الزمن الذي عاشت فيه، وتحاول بفيلمها أن تقدم حقائق ولحظات ضعف بشرية.
لا يبدو “برينكلي” كمحتال أبدا، بل يكاد بهيئته الوقورة وكلامه الموزون أن يكون مثالا للأمريكي الناجح، وهو الأمر الذي يجعل هذا الفيلم عنه مُغلفا بالأسئلة الشائكة عن الصواب والخطأ، وصراع الفرد بوجه المؤسسات القائمة، إذ ستهشم هذه المؤسسات أحلام “برينكلي” مرتين، وتتركه في جولتها الأخيرة معه شبحا للرجل الذي كان يوما، ولتبدأ عندها أزماته القلبية التي لم تمهله إلا عامين فقط قبل أن يرحل عن العالم.

ندرة المواد الأرشيفية.. فن وثائقيات التحريك
إذا كان خيار التحريك كأسلوب لسرد قصة “برينكلي” (والذي بدأ بالشيوع في السينما التسجيلية في الأعوام الأخيرة) خيارا فرضته على الأرجح ندرة المواد الأرشيفية المحفوظة عن الشخصية الرئيسية، فإن المخرجة لن تركن إلى مُعالجة مبسطة ضمن فئة التحريك التي اختارتها، فهي مثلا لن تكون حازمة في الحفاظ على شكل واحد للشخصيات التي تقدمها، وستقترب -وهي التي اختارت اللونين الأسود والأبيض فقط لفيلمها- من سينما “نوار” الأمريكية المعروفة.
كما تتفاعل المشهديات التعبيرية السوداء للتحريك مع دراما الحكاية، بيد أن حضور الخبراء التاريخيين الثلاثة الذين سيعينون المشاهد في فهم الظروف التاريخية للقصة؛ سيقطع من قوة المعالجة الشكليّة القوية للمخرجة، وكان يمكن أن يظهروا هم أنفسهم كشخصيات كرتونية، كما فعلت بعض الأفلام التسجيلية التي ارتكزت تماما على خيار الصور المتحركة لتقديم قصصها.