التحفة الوثائقية “البحث عن الحرية”
أمير العمري
الفيلم الذي نحن بصدده هنا ليس من الأفلام الوثائقية العادية، بل وليس مجرد فيلم مما يعرف بـ “الأفلام الرياضية”، أي تلك التي تصور النشاطات الرياضية في العالم أو تدور حول لعبة من الألعاب الرياضية المعروفة، بل هو تحديدا عن ما يعرف بـ “الرياضات الخطرة” أو “المتطرفة”. ولأن هذا النوع من الرياضات غير معروف في الثقافة العربية أو أن معظم هذه الرياضات لا تمارس على أرض الواقع العربي، فهناك بالضرورة مشكلة تنشأ عن هذا الغياب تتعلق باللغة، بكيفية وصف تلك الألعاب الخطرة وصفا دقيقا وتقديم تسميات عربية مناسبة لها، لكنني سأحاول أن أجتهد بقدر ما أستطيع لعل الفكرة تصل.
يحمل هذا الفيلم الوثائقي البديع عنوانا يشي بموضوعه وقصته هو “البحث عن الحرية” (2015)The Search for Freedom، ويمتد لنحو ساعة ونصف، ومن إخراج جون لونغ Jon Longوهو مخرج كندي متخصص في هذا النوع من الأفلام، لكنه يبلغ هنا مستوى لم يسبق أن بلغه أحد في مجال تصوير الرياضات الخطرة التي تعتمد على القيام بحركات قد يراها المتفرج “خارقة”، أو على الأقل ليس من الممكن فهم دوافع من يقومون بها بينما يعرضون حياتهم لمخاطر الإصابة القاتلة. لكن هذا “الخطر” هو على أي حال جوهر موضوع الفيلم.
في تصوير خلاب، ومونتاج دقيق بدقة الساعة السويسرية، حيث لا توجد لقطة واحدة زائدة أو أخرى ناقصة في البناء السينمائي البديع، وفي علاقة متناغمة تناغما هي أقرب إلى معجزة فنية بين الصوت والصورة، يصنع جون لونغ ما يشبه رقصة تعبيرية بصرية تمتد بإيقاعاتها، وتنويعاتها، وتوغلها في أعماق الطبيعة، ليروي لنا قصة تقوم أساسا على تلك العلاقة الأزلية الممتدة بين الإنسان والطبيعة، ولع الإنسان بالطبيعة، باكتشاف أسرارها، بقهرها أو حتى بالاكتفاء منها بالمداعبة والمعابثة، وخلال ذلك يحاول أن يفهم نفسه، أن يكتشف سر علاقته بالخوف من المجهول، من الموت، ذلك اللغز الغامض الذي تنتهي إليه حياة كل إنسان.
والفيلم يحاول- خلال ذلك- التوقف أمام رغبة الإنسان في التغلب على ذلك الخوف الفطري من الموت بأن يضع نفسه في مواجهته مباشرة في كل ثانية يمارس خلالها تلك الرياضات الخطرة العنيفة. ورغم وجود الموت كامنا أو ظاهرا فيه، إلا أن الفيلم أساسا، عن الحياة، أي عن مغامرة الحياة وحب الحياة والطبيعة، والبحث عن المستحيل، والرغبة في الوصول إلى فهم ولو محدود، لحكمة الخالق العظيم.
من التزلج على الجليد إلى تسلق الجبال، ومن ركوب الدراجات وقيادتها وسط الأحراش والصعود بها فوق الهضاب والجبال والطيران بها في الجو، إلى الانزلاق فوق سطح الماء باستخدام الزلاجات أو الأشرعة، إلى القفز من الطائرات أو من أعالي الجبال مع ارتداء لباس معقد يحقق للإنسان الاستمتاع بتجربة الطيران مثل الطيور، وهي رغبة كانت دائما تغوي الإنسان منذ أقدم العصور، إلى الانزلاق على الأسطح المائلة التي تصل إلى درجة مرعبة سواء باستخدام الزلاجات الأرضية (الألواح) أو الدراجات البخارية في الصعود والهبوط. ومهما حاول الكاتب أن يقدم وصفا لما يصوره الفيلم، فإن هذا الوصف لا يمكن أن يغني عن مشاهدة الفيلم نفسه، فهو عمل شديد الثراء بصريا وصوتيا، ولاشك أن تجربة المشاهدة أعمق من كل ما يمكن قوله.
تصوير مباشر
يعتمد الفيلم على التصوير المباشر لمن يمارسون هذه الألعاب الخطرة من المحترفين والهواة، الخبراء والمبتدئين، مع تصوير مسابقاتهم التي تقام في بعض المدن الأمريكية، والاستماع لشهادات نحو ثلاثين شخصية، تظهر وتعلق وتتحدث عن ذلك الهاجس الغريب المسيطر على الإنسان والذي يدفعه للقيام بهذه “المخاطرة” التي ربما لا يمكن للكثيرين فهمها واستيعابها رغم ما فيها من سحر وجاذبية بل وإغواء.
يحاول الفيلم أن يسبر أغوار ما يحدث في الحاضر فيعود إلى الماضي، ثم يستشرف أيضا آفاق المستقبل أمام هذا النوع من الألعاب: ما الذي يمكن للإنسان أن يصل إليه أكثر من ذلك؟ هل هناك المزيد الذي يمكن أن توفره له التكنولوجيا والاختراعات الجديدة التي تقدم له بعض المستلزمات التي تجعل ما كان يبدو في نطاق الخيال أقرب إلى الحقيقة والتحقق، وما هي العواقب التي يمكن أن تنتج عن المغالاة في الطموح البشري، في تحقيق المستحيل مع بقاء الجسد الإنساني في نهاية الأمر، محدودا بقدراته مهما علت ومهما بلغ مستوى التدريب.
يتحدث كثير ممن يظهرون في الفيلم من الرياضيين، عن ذلك الخوف الكامن وعن رغبة الانسان في قهر شعوره بالخوف عن طريق ممارسة تلك الرياضات المتطرفة، وعن ذلك الشعور بالتحرر ولو للحظة واحدة، تكون كافية للعمر كله، ورغم ما يمكن أن تسببه اللقطات المتنوعة المذهلة التي تتعاقب في هذا الفيلم من رعب، إلا أن المتفرج لا يمكنه أن يبتعد ولو للحظة واحدة، عن التطلع مسحورا إلى الشاشة، ليرى في لقطات قريبة كيف يشعر الشخص الذي يمارس هذه الرياضات وهو، مثلا، على أهبة القفز من طائرة مروحية، أو وهو يقف فوق قمة جبل مغطى بالثلوج قبل أن يلقي بنفسه متسلحا بزلاجة مسطحة بسيطة للغاية.
الماضي والحاضر
يروي الفيلم تاريخ الخمسين عاما الأخيرة من تطور هذا النوع من الرياضات، كيف بدأت كنزوة أو كنشاط استثنائي ثم أصبح اليوم- كما يقول أحد الخبراء في الفيلم- “تكاد تكون نمط حياة”. إننا نشاهد مثلا ذلك الرجل الذي يخصص وقته منذ أربعين سنة، لتسلق الجبال رغم أنه لم يعد شابا، يجد متعة في اكتشاف مناطق الخطر. ثم نشاهد غيره من المتسلقين، منهم من لا يستعين بوسائل خارجية بل يختار أيضا تسلق الجبال الملساء بحذاء خاص ربما يساعده على تفادي الانزلاق المميت، معتمدا على قوته البدنية وتدريبه الشاق وقدرته على حفظ توازنه.
وهناك من يتحدى أمواج البحر الهائجة بارتفاع 20 مترا، يلتوي بجسده فوق زلاجة بسيطة أو يستعين بزلاجة شراعية يطويها ويطير بها فوق الأمواج، وهناك ذلك الشاب الذي يقود دراجته البخارية وينزلق ليرتفع إلى أعلا فوق سطح شبه قائم بزاوية حادة، ليصعد فوق إحدى البنايات ثم يلقي بنفسه في الهواء بدراجته ليهبط على السطح الخشبي الأملس إلى أن يصل الى الأرض دون أن يفقد توازنه. نشاهد أيضا كيف يسير شاب آخر من قائدي الدراجات في الجبال، بسرعة كبيرة في ممرات محفورة في الجبال، يقفز بدراجته من ربوة إلى أخرى دون أن يسقط في الفجوة الهائلة الموجودة بينهما، وكيف يقفز بعد ذلك في الهواء وهو يعبر فجوة كبيرة أخرى ثم يتعلق بالدراجة ويهبط بها على سطح الجبل بعد أن يعتدل ثم يجلس فوقها مجددأ!
فضلا عن ذلك نرى ونستمع إلى قصة الطبيب المتقدم في السن، الذي يجد وقتا منذ سنوات بعيدا عن ممارسة المهنة، لممارسة هوايته الغريبة في القفز من الطائرات. ويحتوي الفيلم على كثير من اللقطات التي صورها الرياضيون أنفسهم بعد أن ربطوا الكاميرات بأجسادهم وهم يهبطون فوق جبال الجليد أو يقفزون من الطائرات أو من أعالي الجبال. وهناك أيضا الكثير من لقطات الماضي، لكثير من أبطالنا وهم أطفال صغار أحيانا، مصورة على شرائط فيديو مع والديهم في بداية ممارسة هذا النوع من الرياضات والتدرب عليها مع آبائهم.
يقول أحد هؤلاء بعد أن أصبح رياضيا محترفا الآن، إنه يحلم بالقفز من فوق قمة الهرم الأكبر بتلك الدراجة التي يطير بها ويشعر بالسعادة وهو يجرب الشعور بتحرر الجسد من قيوده الأرضية. وكما أشرت، فتأثير هذه اللقطات قد يكون مرعبا لكنه شديد الجاذبية. وفي الفيلم مشهد نرى فيه شابا يحاول أن يصل إلى قمة جبل دون الإمساك بالحبال وبعد أن يقطع معظم المسافة ويصبح قريبا جدا من القمة، نراه وهو يفقد فجأة توازنه ويسقط إلى أسفل ليلقى حتفه في هوة سحيقة. ليست هناك خدعة من أي نوع، واللقطات التي نراها كثير منها مصور من الطائرات الشراعية أو المروحية، تتابع عن قرب من زوايا مختلفة، الرياضيين مع استخدام عدسة “الزوم” أحيانا للاقتراب أو الابتعاد عن الهدف لكي تضع الإنسان بحجمه الضئيل في أحضان الطبيعة الهائلة: جبال شاهقة تغطيها الثلوج، قمم صخرية مرتفعة يقفز من فوقها ثلاثة من الشباب ليطيروا في الفضاء لعدة دقائق قبل أن تنفتح المظلات التي تسلحوا بها ليهبطوا بنعومة إلى الأرض، وغير ذلك الكثير.
معالم البراعة
من ضمن معالم البراعة في هذا الفيلم أن مخرجه يستخدم المقابلات مع الأشخاص الذين يتحدثون عن تجاربهم المختلفة، ويقوم بتقطيعها على الصور واللقطات، قبل ظهور وجوه المتحدثين لعدة ثوان، وهكذا بحيث لا يشعر المتفرج بالملل وبحيث تصبح الصور الحية المباشرة المليئة بالحركة هي أساس الفيلم، كما يساهم هذا الأسلوب في الربط الوثيق بين الإنسان والطبيعة، فالمكان هو السر والأساس في هذا الفيلم.

ويتفادى المخرج التكرار والإعادة ويربط ببراعة من خلال المونتاج الحيوي، بين الماضي والحاضر (مع استخدم لقطات الأرشيف)، ويغلف فيلمه بالموسيقى ويمنحه لحظات تنفس بديعة باستخدامه العبقري للأغاني الأمريكية الريفية تارة، أو موسيقى الروك العنيفة تارة أخرى، كما يصور في لقطات مذهلة، المهرجان السنوي الذي يقام لهذا النوع من الاستعراضات الرياضية الخطرة في لاس فيجاس. ويلعب المونتاج دورا رئيسيا في الانتقال بين البشر في الطبيعة والمقابلات والوثائق القديمة والصور المأخوذة من الأرشيف الشخصي للأبطال أنفسهم، وبين لقطات الأرشيف سواء المصورة بالأبيض والأسود أو بالألوان من الخمسينيات والستينيات لبداية هذا النوع من الرياضات، بحيث يجعل الفيلم يبدو شديد الحيوية، كما يتمتع بالحركة التي لا تهدأ قط، ليصل بنا إلى الذروة التي ما بعدها ذروة.
فيلم “البحث عن الحرية” تجربة أصيلة غير مسبوقة، تكتسب قوتها وجمالها من جرأة مخرجها ومعرفته الكبيرة بالمادة التي يتعامل معها، وأساسا، معرفته بما يريد أن ينقله إلينا. وقد استحق بالتالي عشرات الجوائز التي حصل عليها.