عندما تكون الـ (سي.آي.إيه) هي العدو
Published On 10/8/2016

محمد رُضــا
بوصول جزء جديد من مغامرات عميل وكالة المخابرات الأميركية السابق جاسون بورن، إلى شاشات السينما حول العالم، تكون السينما أكملت دورة من خمسة أفلام تدور حول ذلك العميل أربعة منها من بطولته وأحدها (الرابع) من بطولة سواه.
إنه شخص فقد ذاكرته، يكتشف إنه محور محاولة جهة ما تنفيذ حكم الإعدام به. لا يعرف لماذا لذلك يترك غرائزه الطبيعية تقوده في الملمات ويعطي القيادة لحدسه الحاد فإذا به يكتشف مهارات قتالية لا يعرف كيف واتته، وقدرات على المراوغة والنفاذ من الفخاخ المنصوبة ليست في متناول أحد سواه.
أولئك الذين يترصّـدوه يصابون بخيبة أمل، والقتلة الذين يتم إرسالهم للتخلُّص منه يسقطون قتلى خلال المحاولة. جاسون بورن ليس الشخص الذي يشبهنا، لكنه في الوقت ذاته ليس الشخص الذي يشبه الإدارات المتعاقبة على جهاز وكالة الاستخبارات الأميركية (CIA) إذ أن شيئاً في كونه يقف بالمرصاد تجاه خططها يجعلنا نصطف معه. على عكس جيمس بوند على سبيل المثال، هو ليس العميل الذي سيدافع عن مصالح بلده من خلال ما يوكل إليه من مهام، بل هو العميل الذي لا يعرف ما هي هذه المهام، وفي هربه إلى الأمام يكشف قسوة وهيمنة الآلة الاستخباراتية الأميركية وكيف تأكل رجالها.
سلسلة بورن
هذا ورد في روايات الكاتب الأميركي روبرت لادلام منذ أن نشر الرواية الأولى تحت عنوان «هوية بورن» سنة 1980 التي تحوّلت إلى فيلم سنة 1980 أخرجه دوغ ليمان سنة 2002. على إثر نجاحها الفائق قام سنة 1986 بوضع كتابه الثاني من بطولة جاسون بورن وهو «تفوق بورن» (The Bourne Supremacy) وذلك سنة 1986. الجزء الثالث أنجزه سنة 1990 تحت عنوان «إنذار بورن النهائي» The Bourne Ultimatum.
لادلم توفي سنة 2001 لكن ذلك لم يمنع دارا النشر اللتان قامتا بنشر رواياته (سانت مارتن برس وغراند سنترال بابليشنغ) من هذه السلسلة وسواها (وضع ما لا يقل عن 27 مؤلفاً روائياً) من إسناد مهمّـة كتابة أجزاء جديدة إلى كتاب آخرين (من بينهم باتريك لاركن وإريك فان لاسبادر) بالاتفاق مع ورثة المؤلّـف من نشر إحدى عشر رواية تتبع السلسلة آخرها صدر مطلع هذا العام بعنوان «أحجية بورن».
كل هذا يعني أن لادلم مسؤول في الواقع عن ثلاثة فقط من الأفلام الخمسة التي تم إنتاجها من سلسلة «بورن» وهي «هوية بورن» سنة 2002، و«تفوق بورن» (2004) و«إنذار بورن الأخير» (2007). أما الجزء الرابع «إرث بورن» (2012) فهو من تلك الأعمال التي كُـتبت بعد وفاته. وهو يعمل على الشاكلة ذاتها (السي.آي.ايه ضد رجالها) لكن ظهور جاسون بورن محدود فيه إذ تم تحويل الدفة إلى عميل آخر يواجه الوكالة محاولاً البقاء على قيد الحياة اسمه ارون كروس (قام به جيريمي رَنـر). في حين عاد الجزء الجديد «جاسون بورن» إلى الشخصية الأولى.

أخرج الفيلم الأول، «هوية بورن» دوغ ليمان، كما تقدّم ثم عكف المخرج الأيرلندي بول غرينغراس على تحقيق الأجزاء .. الثاني «تفوق بورن» والثالث «إنذار بورن الأخير» والخامس «جاسون بورن». الجزء الرابع كان من إخراج توني غيلروي، وهو الجزء الذي انزوت فيه شخصية جاسون في الخلفية لتسلّـط الضوء على شخصية جديدة بغية إشهارها وخلق أجزاء موازية (كما الحال، مثلاً، مع شخصية «آيرون مان” التي لها أفلامها لكنها شريكة في سلسلة أخرى هي سلسلة «كابتن أميركا»). لكن بحسب الإيرادات لا يبدو أن هذه الرغبة ما زالت موجودة.
بطولة الأجزاء الأول والثاني والثالث والخامس الحالي هي لمات دامون الذي يوفر أداءاً مختلفاً عن أداء الممثلين الآخرين الذين يؤدون أدوار البطولة في أفلام الحركة والتشويق. الاختلاف المعني ليس البذل البدني الذي يقوم به طوال الوقت، فهذا ما يقوم به توم كروز في سلسلة «مهمة مستحيلة» وكل الممثلين الذين تناوبوا على تأدية أدوار بوند، بل في ذلك القدر من المعاناة الصامتة التي طوّعها الممثل لتصبح الملمح الأساسي للشخصية.
منذ البداية واجه دامون جمهوره بشخصية رجل منغلق يبدو كما لو كان نتيجة ماثلة لخسائر متوالية في حياته. الوجوم. الإصرار. الريبة ثم ذلك القدر العالي من البذل هي ملامح أساسية. لكن في المستوى التحتي لها جميعاً هناك تلك المعاناة الصامتة. هو لا يشكو ولا يحوّل مأساته المتمثلة بفقدان ذاكرته إلى دراما مطروحة. على عكس ذلك، هو المتحمل من دون شكوى على غرار مبدأ الفيلسوف اليوناني زينو (توفي سنة 262 قبل الميلاد) الذي دعا إلى أن قمّـة الفضائل هي في مبدأ “الفرد الطيّـب والطيبة البسيطة” وهو المبدأ الذي سيتيح للفرد مواجهة ما يقع له من ضغائن ومكائد الأشرار. وهذه الطيبة تتضمن تحمّـل المعاناة في سبيل وتُمارس عبر “الأخذ بمنطق الفرد الشامل”.
تاريخ من الأفلام
ما يقوم به جاسون بورن، عبر ممثله مات دامون، هو إظهار ذلك القدر من مبدأ التحمّـل اللامتناهي. هو فرد طيّـب في ظروف دولية شريرة. في الأساس، هذا هو لب روايات المؤلف روبرت لادلام جميعها إذ كان يضع أبطاله الأفراد في مواجهة قوى منظّـمة وشريرة تملك زمام الأمور باستثناء تلك المنافذ الصغيرة والفجوات غير المحسوبة التي يوظفها أبطال لادلام للتغلب على الآلة العملاقة الممثلة، في سلسلة بورن، بوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وفي غير سلسلة بورن، بمشتقات ومثيلات لها.
في الفيلم الجديد، «جاسون بورن»، تعود الوكالة إلى الواجهة. دائماً ما كانت هي مصدر الأذى في هذه السلسلة، لكنها هي محور عشرات الأفلام الأميركية التي تم إنتاجها في العقود الأربعة الأخيرة على الأخص قلما تلعب فيها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية دوراً إيجابياً.

بدأ المدّ عملياً في السبعينات عندما قام المخرج سيدني بولاك بتحويل رواية وضعها جيمس غرادي إلى فيلم تشويق سياسي من بطولة روبرت ردفورد. كلاهما، بولاك وردفورد، وقفا على يسار الوسط في السياسة الأميركية وقيام الراحل بولاك سنة 1975 بتقديم فيلم يصوّر فيه الاستخبارات، ولو كانت ممثلة بفصيل معين، باستئجار قتلة تداهم مكتب جمع معلومات يعمل لها وتبيد من فيه، كان جرأة محسوبة. ردفورد هو الناجي الوحيد، وسيهرب من ملاحقيه وسيجد الطريقة لضمان حريته وسلامته بعدما كشف مصدر الأذى.
بعد سنوات نجد المخرج أوليفر ستون يدلف إلى الموضوع ذاته، العام 1993 حين قرر تحقيق فيلم JFK حول الرئيس الأميركي الراحل جون ف. كندي وهوية المستفيدين من اغتياله، حيث يشير بأصبعه متهماً الوكالة بالاشتراك في حادثة اغتيال الرئيس ثم محاولة طمس معالم التحقيق الذي قاده النائب العام جيم غاريسون (كما قام به كَـڤن كوستنر).
وبعد عامين قام ستون أيضاً بتحقيق «نيكسون»، فيلم عن الرئيس الأميركي الوحيد، حتى الآن، الذي قدّم استقالته من البيت الأبيض. في الفيلم نرى نيكسون (أنطوني هوبكنز) قبل تقديمه استقالته وهو يستعين بالوكالة لكي تدبر له مخرجاً مناسباً من فضيحة «ووترغيت» يبقيه في الحكم ويعفيه من المسؤولية.
«رونين» لجون فرانكنهايمر (1998) وبطولة روبرت دي نيرو، قد يكون فيلماً خيالياً بالكامل لكن أبطاله من رجال ونساء يكتشفون أن وكالة الاستخبارات الأميركية باعتهم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي فأصبحوا بمثابة محاربين قدامي كما كان عهد الساموراي الياباني الذي إذا ما فقد منصبه (بعد طرد أو بعد موت سيده) تحوّل إلى «رونين» أي إلى محارب عاطل عن العمل.
في نفس السياق، تقدّمت سلسلة «مهمّـة: مستحيلة» المنقولة من مسلسل تلفزيوني ناجح في السبعينات. على الشاشة الصغيرة كان جهاز سري تابع للوكالة يطلب من مجموعة منتخبة من الرجال والنساء القيام بمهام خاصة وصعبة (أو مستحيلة كما ينشد العنوان) موجهة ضد الأفراد والدكتاتوريين والشيوعيين المعادين للولايات المتحدة. لكن عندما تم نقل الحلقات إلى سلسلة سينمائية من بطولة توم كروز، طالعنا المخرج الجيد برايان دي بالما بصورة معاكسة، فالوكالة تأكل أبناءها وترميهم معرضّين للخطر لكي تتخلص منهم.

السينما القادرة
إذ تتكاثر النماذج والأمثلة، وهناك عدد كبير آخر من هذه الأفلام، يتبلور في بال المشاهدين أن وكالة الاستخبارات الأميركية جهة تعمل على تقويض الليبراليين ودفع أجندات خاصّـة مستغلة في ذلك الهدف قدرتها على إبقاء، أو محاولة إبقاء، عملياتها سراً. ليس أن كل سلسلة سينمائية حديثة تعرّضت للوكالة بالنقد الصارم، بل هناك استثناءات بالطبع وأهم هذه الاستثناءات هي سلسلة العميل جاك رايان المأخوذة عن روايات الكاتب توم كلانسي الجاسوسية، حيث الوكالة تقوم بدورها في حماية الحرية والديمقراطية ومواجهة الإرهاب ولو أن بعض اللوم يقع من حين لآخر على بعض قياداتها حيث تسير الأمور على نحو يكشف عن فساد هنا أو تهوّر هناك.
في هذه السلسلة تعاقب الممثلون الذين أدّوا دور العميل رايان فتداول الدور أليك بولدوين وهاريسون فورد وبن أفلك في أفلام مثل «صيد أكتوبر الأحمر» و«ألعاب وطنية» و«مجموع كل المخاوف».
على نطاق واقعي شاهدنا نجماً آخر يقوم بالمهام الصعبة التي تكشف بدورها عن قصور وتلاعب هو ليوناردو ديكابريو وكان ذلك سنة 2012 عندما لعب بطولة «كيان من الأكاذيب» الذي يصوّره عميلاً للمخابرات يكتشف أنه مهدد بالقتل وأن المخابرات الأميركية لعبت على الحبلين وخدعت المخابرات الأردنية خلال ذلك.
نتيجة لكل ما سبق، فإن الحرية التي تتمتع بها السينما الأميركية، تبعاً للقوانين، تجعلها أكثر سينمات العالم قدرة على نقد أجهزة الحكم الأميركية. فإذا ضممنا هذه الأفلام إلى تلك التي تتعرض لجهاز المخابرات المركزي (FBI) وإلى تلك التي صوّرت رئيس الجمهورية قاتلاً (جين هاكمان في «سُـلـطة مطلقة» لكلينت ايستوود) أو عاجزاً عن حماية أميركا (جاك نيكولسون في «هجوم المريخ») فإن الحصيلة هي بحر من الأفلام التي تمتد على جانبي الموضوع جاعلة من المؤسسات الرسمية عرضة للنقد الجاد أو وسيلة للتجارة.