برشلونة .. أكثر من مجرد نادٍ
Published On 15/8/2016

قيس قاسم
على الدوام كانت كرة القدم مثار اهتمام صناع الوثائقي، لجمالياتها وشعبيتها الضامنة لمداخيل مالية جيدة، لكن التصدِّي لنادٍ تجاوز معناه الرياضي ووصل حد اعتباره ممثلاً لقومية بأكملها سيكون أصعب، وسيشترط على المُتقدم لخوض التجربة إجراء مراجعة لتاريخ النادي ومعرفة الأسباب التي أعطته معناه الاستثنائي.
مشاهدة فيلم Barça Dreams تشير إلى فهم مخرجه “جوردي لومبارت” لذلك الجانب وما يتطلبه من جهد كبير في جمع الخامة الفيلمية التاريخية وربطها بمسار النادي وبأهم المراحل التي مرّ بها، مع الحرص في نفس الوقت، على تقديم صورة “كروية” متكاملة تُشبع فضول محبي النادي كما تشبع القراءة التحليلية حاجة المتلقي الآخر، الباحث عن وثائقي مختلف عن غيره.
زمن “أحلام برشلونة” حوالي ساعتين. الأولى خصّصها لتاريخ النادي وصلته المباشرة بالقضية “الكتالونية” وطموح الشعب الكاتالوني في الانفصال عن المملكة الإسبانية والثانية مَرَ خلالها على أهم لاعبيه ومدربيه والنتائج الكروية التي حققها وجعلت منه واحداً من أهم الأندية الكروية في العالم.
بهما قَسَم مخرجه وكاتب السيناريو الفيلم نصفين؛ أحدهما كروي صرف والثاني تاريخي. جانبان سيحددان مسار وثائقي اختار أسلوب السرد الزمني التسلسلي وأعطى للفصل التاريخي مساحة كبيرة يندر توفرها في بقية الأفلام الوثائقية المتناولة للأندية الكروية أو لاعبيها، ولإغناء مضمونها جاء بمؤرخين وباحثين في حين ترك لبعض أشهر لاعبيه فرصة الحديث عن المدرسة البرشلونية والجوانب الفنية التي ميَّزتها.

يدخل الفيلم إلى النادي من مدينته؛ برشلونة الجميلة، الحيوية والغنية بتاريخها ويتوقف عند أشهر معماريها “أنطونيو غاودي” مهندس ومصمم الكنائس الأحلى فيها ويتصفح سجل مبدعيها، فيما يبرز نادي برشلونة بمفرده كعلامة مميزة بفضله يلهج العالم باسمها خارج حدودها الجغرافية.
من مفارقات تاريخ النادي الكاتالوني أن مؤسسه ليس من أبنائها، بل جاء من خارجها.. من سويسرا.
جاء جوان غامبر إليها عام 1899 وقد بلغ وقتها سنه الثانية والعشرين. جاء متحمساً لفكرة تأسيس نادي كروي للمدينة وكان له ما أراد. وعنه يقدم المؤرخ “كارلس سانتاكانا” نبذة شيقة مصحوبة بالصور والوثائق ما أعطاها مصداقية، وعلى نفس النهج سيسير الوثائقي طيلة الوقت بحثاً عن مزيد من الموضوعية. بالصورة والوثيقة التاريخية سيؤرخ النادي سينمائياً.
إدارة النادي تكونت من اثني عشر رجلاً نصفهم أجانب والبقية كاتالونيين، سيختارون والتر فيلد رئيساً له فيما سيبقى غامبر عقله وقلبه النابض. المتحمس والمؤمن بالروح الرياضية وما تتطلبه من تضحيات وشجاعة في مواجهة التحديات.
يرسم الوثائقي بورتريه رائعاً للرجل، الذي بفضله يعرف العالم اليوم برشلونة، ويتوقف عند محطات مهمة من حياته شديدة الارتباط بطبيعة النادي وخصوصيته كونه نادياً لإقليم يتعارض في توجهّه مع المركز ولا يحظى بدعمه.
ستتجلى تراجيديته الشخصية حين سيُبعد عنوة عن ناديه ويُطرد من المكان الذي أحبه وستكون مع بقية العوامل سبباً في إقدامه على الانتحار. لم يبحث المؤسس عن المجد ولا عن المال. كان رياضياً مثالياً أقرب في طبيعته وسلوكه إلى رياضي أثينا الحالمين.
ربط الكتالونيون برشلونة بهويتهم القومية، وأرادوه أن يكون المعبر عن حضورها، ورفضها الخنوع لإسبانيا.

عن معنى الخصوصية الذي يمنحها النادي لهم يتوقف الوثائقي عند ظاهرة الامتناع عن ترديد النشيد الوطني ورفض لاعبيه إنشاده قبل افتتاح المباريات كما هو شائع، ما تسبب في أزمات وصعّد من كراهية المؤسسات الرسمية لهم. أجمل ما في هذا الفصل؛ التسجيلات التي تُظهر بالتفاصيل الدقيقة رفض لاعبيه ترديد النشيد القومي وتبعاته الثقيلة.
أُدخل بعضهم السجن وحرموا من اللعب كما أغلقت الشرطة أبواب النادي شهوراً. حتى في التسعينات وبعد مدة طويلة من نهاية مرحلة الدكتاتورية ظل هذا السلوك قائماً.
وفي الملاعب ورغم وضع منظمي المباريات مضخمات الصوت داخلها لم تطغِ على دواخلهم الرافضة لمعاني النشيد.
كان إخلاص السويسري إلى ناديهم أكثر من إخلاص ملكهم إلى مدينتهم ولهذا عاملوه كبطل قومي وإليه يرجعون الفضل في وجود ناديهم.
لقد وضع مطلب الاستقلال من إسبانيا ورفض قيادة الجنرال “فرانكو” برشلونة في مصاف القوى الديمقراطية والليبرالية، موضوعياً ولنفس السبب ستبقى المقارنة السياسية بينه وبين نادي ريال مدريد “الملكي” المدعوم من قبل السلطات نكاية بـ”بارسا” العنيد قائمة.
يقوم الوثائقي بعملية مسح تغطي مساحة زمنية طويلة تمتدّ من العشرينات حتى يومنا هذا وتتوقف عند المنعطفات الحادة التي أثرّت على مستوى النادي مثل؛ الأزمة المالية العالمية والحرب والعالمية الثانية ثم صعود الدكتاتورية وسيطرة الجنرال “فرانكو” على مقاليد الحكم لعقود وجرّه البلاد إلى حرب أهلية هي من بين الأبشع في تاريخ البلاد، وصولاً إلى مراحل التخلُّص من حكم العسكر وما تبعها من تغييرات ديمقراطية، وكيف كان النادي وفي كل المراحل يتأثر ويؤثر بها بطريقة غير مباشرة بوصفه ليس نادياً كرويا عاديا بل ممثلاً لقومية وأمة لم تنل ما تصبو إليه، وعليه ظل الناس يتعاملون مع كل انتصارته وإخفاقاته على أنها نتاج سياسي وليس رياضي صرف، توضح بدورها لماذا رفعوا لاعبيه إلى مصافِ الأبطال القوميين، وهنا تظهر مفارقة صارخة لأن الكثير منهم كانوا من الأجانب، انضموا إليه في وقت مبكر من تاريخه، حيث لم تكن عمليات بيع وشراء اللاعبين واسعة الانتشار كما في أيامنا هذه.
يحلل الوثائقي العلاقة العميقة والصلة القوية بين النادي الأوروبي وبين قارة أمريكا الجنوبية، وكيف انتقل الكثير من اللاعبين الموهوبين إليه منها.
يراجع أهم الأسماء وستكون من بينها بالضرورة “مارادونا وميسي” ويُحيل خبراء أدلوا بشهادتهم في الفيلم إلى سبب إخفاق “مارادونا” في كسب حب البرشلونيين إلى عزلته عنهم وعدم اندماجه معهم.
عاش خلف أسوار عالية ورغم موهبته العظيمة واجهته مشاكل نفسية لم يمرّ بها غيره من الذين ترعرعوا أو شعروا بأنهم يلعبون مع نادي هو أكبر من ذلك التوصيف بكثير.
أندريس إنيستا، تشافي هيرنانديز وميسي سيدلون بشهادتهم ويحكون عن تجاربهم وذكرياتهم مع النادي منذ أن جاؤوا إليه أطفالاً. كلامهم المصحوب بالتسجيلات الشخصية الممتعة المصورة بكاميرا فيديو صغيرة سترفع مستوى الفيلم وتعطيه طابعاً آنيا ومع التاريخي سيشكلان وحدة بناء درامي متماسك جعلت من نصه واحداً من أجمل النصوص السينمائية الرياضية.

من خلالهم سنحس ونشعر بمعنى اللعب في نادي كبير جمهوره مشترط النصر وعلى طول الخط، فالخسارة على أرض الملعب تعني بالنسبة إليهم خسارة شخصية ومرارة قومية. ولَدَ الشعور القومي والإحساس العالي بالمظلومية ضغطاً هائلاً على اللاعبين ومدربيهم.
يأخذ “لومبارت” عدداً من المدربين الذين مرّوا على النادي ويتوقف عند “كرويف” الهولندي بوصفه المدرب، الذي كسر فكرة “الضحية” وغير تفكير الجمهور ونظرته إلى الكرة ودفعهم للتعامل معها على أنها فن ورياضة.
مع مدربين ولاعبين من مختلف المراحل والمستويات سنمضي في رحلة ممتعة نقرأ خلالها تاريخ حافل بالانتصارت ومليء بالتحولات، إلى درجة صار فيها النادي مدرسة خاصة وكلية خرج ليس الكرويين فحسب، بل رياضيين من بقية الألعاب كالسلة وكرة اليد وغيرها وللجنسين؛ من البنين والبنات، مشاهدة فيلم “أحلام برشلونة” تؤكد استثنائيته، التي قد يعرفها كُثر من الناس لكن من المؤكد لم تتوفر لأغلبيتهم فرصة رؤيتهم لها مجسدّة بوقائع مسجلة ومكتوبة بلغة سينمائية عالية المستوى.
“أحلام برسا” رحلة سينمائية في تاريخ نادي صار اسمه على لسان كل محبّي كرة القدم تقريباً. خصوصية غريمه ريال مدريد وصراعه الكروي والسياسي “الضمني” معه تُبيّن حجم الانقسام الذي أحدثه الناديان بين محبي الكرة في أنحاء المعمورة.
فأغلبيتهم تكاد تتوزع بين مؤيد للملكي أو الكاتالوني، والأخير نجح وبدون دعم سلطوي في جعل اسم برشلونة الراغبة في الانفصال على لسان البشر.
فأصغر قرية أو ناحية في الأرض يعرف سكانها برشلونة سواء كانوا من مشجعيها أم من مناصري غريمه مدريد.
الوثائقي الإسباني يثبت حقيقة؛ أن نادياً كروياً استطاع وضع المدينة التي يحمل اسمها على خارطة العالم ولهذا فهو بحق أكبر من مجرد نادي.. وبكثير!