ما الذي يمكن أن يقدّمه مخرج آتٍ من أوروبا الشرقية في بداية التسعينيات إلى غربها؟ هل يقدم أفلاما سياسية تنتقد أنظمة الحكم الشيوعية المنهارة؟
ربما ينجرف مخرجون كثر خلف الأحداث السياسية المفصلية في بلادهم، لكن المخرج البولندي “كشيشتوف كيشلوفسكي” -خرّيج “مدرسة لودز للسينما” في العام 1969- امتلك تصوّرا مختلفا للسينما، فمع فيلمه “فيلم قصير عن القتل” (A Short Film About Love) الذي أخرجه عام 1988؛ ابتعد بشكل كلّي عن السياسة، وركّز على البشر كأفراد.
وفي العام 1990، وبعد أن أنهى سلسلته التلفزيونية “الوصايا العشر” (Dekalog) المستوحاة من تعاليم العهد القديم، انتقل “كيشلوفسكي” إلى فرنسا ليقدّم أول أعماله خارج الوطن “حياة فيرونيكا المزدوجة” (La Vie Double de V éronicque)، وهو من إنتاج فرنسي وبولندي ونرويجي مشترك.
وقد شارك الفيلم في المسابقة الرسمية لمهرجان “كان” في العام 1991، وحصل على ثلاث جوائز هي: جائزة “فيبريسي”، وجائزة لجنة التحكيم المسكونية إضافة لجائزة أفضل ممثلة لـ”إيرين جاكوب” التي قدّمت أول أدوارها الكبيرة بعد مشاركات صغيرة في أفلام متعدّدة.
أدّت “إيرين” دور الشخصيتين الرئيسيتين في الفيلم “فيرونيكا” البولندية و”فيرونيك” الفرنسية. حيث يقوم الفيلم على قسمين: تدور أحداث الأول في بولندا، يليه الثاني في فرنسا.
هذا الفيلم عن المشاعر والوعي والإحساس الداخلي، وعن الصلات الخفيّة التي تربط الناس بعضهم ببعض.
حزن الوفاة الغامض.. ترابط روحي بين شبيهتين متطابقتين
يبدأ الفيلم مع “فيرونيكا” وهي شابة ممتلئة بالحياة تذهب لزيارة خالتها في كراكوف، وهناك تدخل صدفةً إلى كورال غنائي، وفي أولى حفلاتها على المسرح تقع أرضا وتموت. في أحد المشاهد الأولى تخبر “فيرونيكا” والدها إحساسها بأنّها ليست وحيدة في هذا العالم. نرى ألمها من جرح قديم أصاب أحد أصابعها.
ثمّ في كراكوف تتعرّض لعدّة مواقف غريبة تحرّك فيها إحساسا غامضا بالخوف، منها رؤيتها للمحامي القزم، ونظرات غاضبة غير مبررة تتلقاها من إحدى المحكّمات في لجنة الكورال، ورجل غريب يفتح معطفه في الشارع ويظهر لها أسفل جسمه، ثم يواصل سيره مبتعدا.
“فيرونيكا” شابة ممتلئة بالحياة تدخل صدفة إلى كورال غنائي، وفي أولى حفلاتها على المسرح تقع أرضا وتموت
الحدث الإضافي الذي يقع قبل فترة قصيرة من وفاتها، هو لقاؤها بمحض الصدفة بقرينتها الفرنسية “فيرونيك”، حين تشاهد الشابة نسخة طبق الأصل عنها تلتقط الصور في حافلة للسياح، تنظر إليها مطوّلا، لكن “فيرونيك” لا تلحظها.
عند وفاة “فيرونيكا” تصاب “فيرونيك” الفرنسية بحزن مفاجئ لا تعرف مصدره، ويدفعها إحساسها الغامض للتوقف عن أخذ الدروس الموسيقية، والاكتفاء بتعليمها في إحدى المدارس الابتدائية.
خلال عرض للدمى يقام في المدرسة، نشعر برابط غامض بين “فيرونيك” ومحرّك الدمى “ألكسندر”. ولاحقا تتلقّى “فيرونيك” مكالمة مجهولة المصدر، فتخبر والدها بعدها بأنّها مغرمة بشخص لا تعرفه، وبشعورها بأنّها ليست وحيدة في العالم.
غموض التسلسل الزمني.. فيلم يحس به ولا يفهم
تتتابع مجموعة من أحداث الفيلم التي تبدو غير مفهومة في البداية، ثم تبدأ تتضح شيئا فشيئا، فنرى أن كل هذه الوقائع كانت بتخطيط من “ألكسندر”، وحينها يأخذ الفيلم مجرى آخر.
ربّما لا يشرح المقطع الدعائي (البرومو) الكثير عن الفيلم، فهناك الغموض ثمّ المزيد من الغموض. لكن ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى تفضيل “كيشلوفسكي” نقل الإحساس لنا على اتّباع خط سردي وتسلسل زمني واضحين.
لقاء وحيد بين فيرونيك وفيرونيكا، تقف الأخيرة تتأمل شبيتها الصحفية في الحافلة
وعلى الرغم من ذلك، تبقى شخصيات كثيرة غير واضحة المعالم، وكذلك علاقة الشخصيتين الرئيسيتين ببعض الشخصيات الثانوية. ويبدو بوضوح أن “كيشلوفسكي” قام بتصوير كثير من المشاهد لشخصيات ثانوية، لكنّه عاد وحذفها خلال عملية المونتاج، كي لا يؤثّر ذلك على المشاهدة. فهذا الفيلم لم يصنع بالدرجة الأولى لكي يفهم، بل لكي يُحسّ.
وقد ساعد وجه البطلة “إيرين جاكوب” كثيرا بنقل الإحساس الموجود في الفيلم إلى المتلقي، فحين تفرح تظهر الابتسامة تلقائيا على وجوهنا، وحين تبكي ينتقل الوجوم مباشرة إلينا، فوجهها بتعابيره العفوية يذكرنا بوجوه ممثلات الموجة الفرنسية الجديدة، ومقدرته على التعبير يعيدنا إلى وجوه الممثلات في أفلام “إنغمار بيرغمان” الذي لطالما اعتبر الوجه أهم موضوع في الفن السينمائي.
زاوية التصوير.. عدسة تنطلق من داخل الشخصية
هكذا نجح “كيشلوفسكي” في تسخير الصورة لخدمة فكرته، ولنقلنا إلى داخل نفس “فيرونيكا”/ “فيرونيك”، وإلى الأحاسيس الأشد حميمية في شخصيتيهما. وقد استخدمت الكاميرا بطريقتين مختلفتين، أما الطريقة الأولى الأساسية فهي تلتقط لنا مجريات الفيلم، وتصوّر الأحداث من وجهة نظر شخص أو قوة ما غامضة. تتنفس هذه الكاميرا طوال الوقت وتبدو كأنها تراقب الشخصية، خاصة مع زوايا التصوير الجانبية، ممّا يعزّز الشعور بوجود قوّة خفيّة تربط البشر ببعضهم وتؤثّر في حياتهم.
زوايا مختلفة للصورة تعبر عما تريد فيرونيك قوله دونما كلام
وأما الطريقة الثانية فهي التصوير من وجهة نظر “فيرونيكا”/ “فيرونيك”. نرى الأشياء كما تراها الشخصيتان، وهو ما يقرّبنا أكثر من الشخصية ويجعلنا نتماهى معها. ففي مشهد دفن “فيرونيكا”، يرمي المشيّعون التراب على التابوت، على الكاميرا، حتى تصير الشاشة سوداء تماما، بينما نظل نسمع صوت التراب الذي يهال عليه. ويوحي “كيشلوفسكي” في هذا المشهد بأن “فيرونيكا” ما تزال هنا، أو بشكل أدق فإن روحها ما تزال هنا، وهي تشعر بكلّ ما يحصل.
لم يتوقف سعي “كيشلوفسكي” لنقل الإحساس بأن “فيرونيكا” ليست وحيدة في العالم على طريقة استخدام الكاميرا فقط، بل إلى ما تصوّره، فهو يكثر من تصوير انعكاسات “فيرونيكا”/ “فيرونيك” في الزجاج وفي المرايا. كما استخدم فلترا ذهبيا معظم الوقت رغبة منه في التأكيد على أنّ هذا العالم الذي يصوّره هو العالم كما تراه الشخصية، أي عالمها الخاص بها وحدها.
أنغام الغموض.. مؤلف موسيقي في موقع التصوير
فيلم “حياة فيرونيكا المزدوجة” هو فيلم عن الموسيقى أيضا، إذ تموت “فيرونيكا” خلال غنائها في الكورال، كما تقرّر “فيرونيك” التوقف عن أخذ دروس الموسيقى. وتظهر الموسيقى طوال الوقت وتزيد من جوّ الغموض في الفيلم.
وهنا تظهر أهمية وجود المؤلف الموسيقي “زبيغنيو بريسنر” إلى جانب “كيشلوفسكي” طوال فترة التصوير، على غير عادة المؤلفين الموسيقيين الذين يبدأ عملهم بعد انتهاء التصوير، وقد اختار لمشهد الأوبرا مقتطفات من أشعار الإيطالي “دانتي” باللغة الإيطالية القديمة.
بطلة في شخصيتين تشعر إحداهما بالأخرى بطريقة غامضة
وقد عمل “بريسنر” مع “كيشلوفسكي” منذ فيلمه “لا نهاية” (No End) الذي أخرجه عام 1985، واستمر معه حتّى أنجز آخر أفلامه “أحمر”، وهو ثالث جزء من ثلاثية الألوان (Trois Couleurs: Rouge). وهو الأمر نفسه بالنسبة لـ”كشيشتوف بيشيفيتش”، شريك “كيشلوفسكي” في كتابة السيناريوهات.
قوة غامضة تؤثر في حياة الشخصيات.. مخرج لا أدري
يمكن اعتبار “حياة فيرونيكا المزدوجة” أكثر أفلام “كيشلوفسكي” غموضا، لكنّه في الوقت نفسه أكثر أفلامه شاعرية وأشدّها إبهارا من الناحية البصرية.
في واحدة من المقابلات التي أجريت معه قبل وفاته، في آذار/مارس من العام 1996، يرفض “كشيشتوف كيشلوفسكي” تصنيفه مؤمنا، كما يرفض تعريف نفسه ملحدا، بل يعتبر نفسه لا أدريا.
وهو ما يمكن اعتباره أمرا صحيحا، إذ لا وجود للإله في أفلامه، لكن توجد دائما قوة أو طاقة تؤثّر في حياة شخصياته، في “حياة فيرونيكا المزدوجة” كما في “ثلاثية الألوان”، مرورا بجميع أفلامه.. قوة أو طاقة ربّما يمكننا تحديدها بأنّها الحب.