“درب المهابيل” .. بين العقيدة والمنفعة
Published On 2/8/2016

بشار إبراهيم
يأخذ فيلم «درب المهابيل»، مكانته المتميزة في تاريخ السينما العربية، بسبب عوامل عديدة، منها فيلمية، نابعة من النصّ السينمائي الذي بناه بإحكام المخرج توفيق صالح (1926 – 2013)، في بداياته المتميزة، ومنها غير فيلمية تتعلّق بالسياق التاريخي لإنجاز هذا الفيلم، وافتراقه عن السائد السينمائي حينذاك، ومن ثم التحوّلات التي جاء في إطارها، والتأثيرات التي أعقبته.
وما بين هذه وتلك بقي «درب المهابيل» نصاً سينمائياً قابلاً للاستعادة والقراءة المتجددة، في دلالة باذخة على النصّ السينمائي الحيوي، الذي لا يطويه مرور الزمن.
في «درب المهابيل»، المُنجز عام 1955، تجتمع أقانيم شهيرة في تاريخ السينما والثقافة العربية، قصة نجيب محفوظ، وحوار عبدالحميد جودة السحّار، وإخراج توفيق صالح، لننتهي إلى علامةٍ من كلاسيكيات السينما العربية، وشكلٍ مختلفٍ في تناول الحارة المصرية سينمائياً، في نزوع يبدو على الصعيد المشهدي منتمياً إلى تيار الواقعية، الذي كان يجمح إلى واحدة من ذراه السينمائية حينذاك، بينما الفيلم في الحقيقة، وعلى المستوى الفكري تحديداً، يذهب إلى سؤال افتراضي، ما فوق واقعي، من خلال السؤال الأزلي: بين العقيدة والمنفعة!..
كل ما في الفيلم يبدو أنه مُرتّب على نحو منتظم، البناء والسرد والانتقالات الحدثية والتحولات الشخصية، على رغم ما يشوب هذا التنظيم من انتكاسات تالية، سوف تتبدى في دوران الفيلم حول نفسه، بعد أن فرد ما لديه من شخصيات ومقولات وأحداث، وصار من الواجب عليه قدح شرارة المواجهة.
يقوم الفيلم في جوهره على أربع حركات، تتالى في نظام السرد الصاعد زمنياً، ما بين لحظة البداية، القادمة من تاريخ نفسي واجتماعي مفتوح للشخصيات بماضيها وواقعها، ولحظة النهاية التي تترك الشخصيات في مهبّ مصائرها. ولعل العناية بالتنظيم والهندسية تتبدّى بدءاً من تقسيم المكان ما بين داخلي وخارجي، في إطار فضاء الحارة، ليغدو الداخلي بيوت الحارة، بينما يصبح الخارجي الحارة ذاتها، التي أخذت صيغةً مسرحيةً، تتوازى بفاعليتها الظاهرة، مع سرية وخصوصية ما يدور في الكواليس/ البيوت.
يتمهّل الفيلم في استعراض شخصياته، عبر انتقالات صباحية هادئة، تكاد تعتني تماماً بالعدل فيما بينها، بمن فيها تلك الشخصيات التي ستبدو ثانوية، إلى درجة يمكن القول إن الفيلم يتجاوز، في مرحلة مبكرة من تاريخ السينما العربية، مسألة النجم البطل، ليجعل من شخصياته جميعاً أبطالاً، بل إنه لا يأبه لغياب طه (شكري سرحان) أو خديجة (برلنتي عبدالحميد)، عن الرؤية والسمع، لصالح شخصيات أخرى، ما كان لها إلا أن تكون تأثيثاً للحارة، وتنوّعها، وغناها.

وإذ يهب الفيلم قسطاً واضحاً من وقته للحظات ما قبل بيع ورقة «اليانصيب» (البريمو)، فإنه بذلك يلفت الانتباه إلى أن مراده ليس مطاردة الحكاية. الانتقالات المتعددة لورقة «اليانصيب»، من يد إلى أخرى، ما هي إلا فسحة لاستعراض الأفكار والعقائد واليقينيات المُسلّم بها، والتي ستغدو فيما بعد قيد الامتحان. هذا هاجس الفيلم: امتحان العقيدة آن تُوضع أمام المنفعة.
يقوم المخرج بذلك معتمداً على حيوية حركة الكاميرا، وانسيابيتها، التي تُحسن الانتقال من شخصية إلى أخرى، دون اللجوء كثيراً إلى المونتاج، مستعيناً بمستويين مُنظّمين ومدروسين من الحركة، أولاهما حركة الشخصيات في المكان، وثانيهما حركة الكاميرا المُتابعة والراصدة للحركة الأولى.
وما بين نهار وليل، فقط، يكون الفيلم استكمل عدّته في بسط التمهيدات، مستغرقاً نصف زمنه تقريباً، قبل أن تقع الواقعة، التي تمثّلت بهطول النعمة، التي ما كان لأحد تصديقها!.. لينهض السؤال صادماً، يرجّ السكينة التي اطمأنوا لها، وعاشوا في ظلالها عمراً، يقضم أحلامهم، ولا يشي بتغييرات جذرية ممكنة.
يضع «درب المهابيل» نفسه في مأزق الخطوة الناقصة، إذ في الوقت الذي كان ينبئ بأنه يروم أن يكون خطاباً تقدمياً، من خلال إثارة أكثر الأسئلة وعورة، في مجتمع إسلامي محافظ، فإنه انكفأ إلى قدر من المصالحة، والدوران حول السؤال الأساس، بدل الاشتباك مع اليقيني الجاهز والثابت، لدى الشخصيات والمشاهدين.
يبقى أن اعتماد الفيلم على هذا القدر الكبير من الموسيقى، تحوّل إلى مثلب، يُرهق المشاهد، وُيثقل على أسماعه، فيما كان ثمة موسيقا أخرى جميلة متدفقة ومبهجة، تمثلت في الأداء التمثيلي لشخصيات الفيلم غالباً، كما تمثّلت في حركية الكاميرا وحيويتها، وإتقان العناصر الجمالية في حارة مصرية، كلّ ما فيها يدعو للأسى.