ألبوم الرياء
Published On 21/8/2016

محمد موسى
يَهجو المخرج التركي الشاب “محمد خان مورتغولو” في باكورته الطويلة المتميزة “ألبوم”، والذي عُرض في الدورة الأخيرة لمهرجان كان السينمائي، قِيَم شخصياته وتقاعس وجمود الطبقة الاجتماعية التركية التي تنتمي إليها هذه الشخصيات، ويذهب بعيداً في نقده الذي يقدمه ضمن كوميديا شديدة السواد، ويكشف بقسوة كبيرة أحياناً عن هشاشة ورياء بطليه، الزوجين اللذين يدعيان بأنهما أنجبا الطفل الذي تبنيّاه سراً، مراعاة لتقاليد سائدة تعتبر عدم الإنجاب والتبني وصمة وضعفاً. سيشيّد الزوجان عالماً من الأكاذيب، يبدأ من إصرارهما على التقاط ألبوم كامل من الصور الفوتوغرافية تمثل فيها الزوجة دور المرأة الحامل، ويظهر فيها الزوجان كعائلة سعيدة تستعد لاستقبال مولودها الأول.
ينتمي البطلان إلى أسفل الطبقة المتوسطة التركية، التي تحاول أن تتشبث في موقعها الهشّ بين طبقة أعلى تسعى إلى التشبه بها وأخرى أقل منزلة تجاهد حتى لا تُحسب عليها. يعمل الزوج مدرساً للتاريخ في مدرسة ثانوية والزوجة موظفة في الضرائب. لا نعرف في الفيلم الفترة الزمنية التي قضاها الزوجان معا قبل أن يفكرا بالتبني، لكن إيقاع حياتهما اليومية الضجر وندرة الحميمية بينهما، يوحيان أن قرار التبني يراد به سد ثغرات حياتهما الفارغة. يربط المخرج بطليه بتاريخ وطباع المجتمع الذي يعيشان فيه، ويبقي على ملامح إنسانية عامة يسهل التعرف عليها في شخصيتهما، تعكس سأم وضيق أفق، والموت الطويل البطيء للعلاقات العاطفية.

يبدأ الفيلم بسلسلة مشاهد من خارج السياقات الدرامية الساخرة له، لمزرعة تلقيح العجول، يقدم فيها الدورة الطبيعية للحياة هناك، من التلقيح الطبيعي إلى الولادة. تصب هذه المشاهد في تظهير وحدة وعجز والعالم الاصطناعي المتكلف للبطلين، اللذين عندما يصل الفيلم إليهما، سيكونان على شاطيء بحر مع أصدقاء لهما، يلتقطان بدون توقف صوراً فوتغرافية. سيكون صديقا الزوجين مثل حال الشاطيء الفارغ، ديكوراً فقط للكذبة التي بدأها البطلان، واللذان كانا يستعدان لمغادرة مدينتها والتوجه إلى مدينة بعيدة، حتى يحيطا خطتهما بالحصول على طفل بالكتمان.
يقضي الفيلم شطراً كبيراً من وقته وهو يتابع الحياة اليومية للبطلين وقبل أن يعثراً على الطفل الذي يرضي شروطهما الأنانية الخاصة. يتخلل ذلك زيارة لهما إلى أحد ملاجيء الأطفال ستتضمن الكثير من الكوميديا والقسوة على حد سواء، كالمشهد الطويل الذي ركز على الطفلة المستلقية بسلام في سريرها الصغير، فيما كانت التعليقات الصادمة للزوجين تشكل الخلفية الصوتية لذلك المشهد. ستكون مشاهد الزوجين يحدقان بالطفلة مفصلياً لجهة كشفه عن دوافعهما ومواقفهما العامة من الحياة. فهما يتفقان أن الطفلة تشبه “السوريين” أو “الأكراد”، وسيكون هذا سبباً كافيا لرفضهما لها.
يتراوح موقف الفيلم من شخصيتيه، فهو وإن بدا قاسياً كثيراً على سلوك البطلين واجترارها للأخطاء، إلا أنه لم يجردهما من إنسانيتهما، فقدمهما في مشاهد كانت مفاجئة في عاطفيتها، وعدم شذوذها رغم سوداويتها وتركيبتها الساكنة التأملية عن الخط الاستفزازي الساخر للفيلم، كالمشهد الذي يظهر الزوج متمدداً في ظلام الغرفة في سريره، فيما الزوجة تجلس قريبة منه مهمومة هي الأخرى. وتلك التي تظهر الذهول الذي ضرب الزوجين بعد أن تتعرض شقتهما للسرقة، والحدث الصادم الذي يقع على أثر تلك السرقة. هذه المشاهد قدمت إلى جانب أخرى تنطوي على مستويات عالية من السخرية، كالتي تظهر إصرار الزوجين على أخذ صور مع أطباء وممرضات مستشفى لإكمال ألبوم الصور الذي بدأه.

ترتكز كوميديا الفيلم القاتمة على السخرية من الخواء اليومي في حياة طبقة اجتماعية قُدمت في الفيلم بلا مشاغل فكرية كبيرة أو بوصلات أخلاقية. يبرز المخرج الشاب الذي كتب سيناريو فيلمه بنفسه، العوالم الضيقة التي اختارتها شخصياته لحياتها، ويضع الحوارات التقليدية التي تجريها الشخصيات مع بعضها في مقابل الشكل القاتم الذي اختاره المخرج للفيلم. تتفجر الكوميديا من ملاحقة التفاصيل اليومية للبطلين، مثل المشهد الذي كان فيه الزوجان يجلسان متلهفين لرؤية الطفل الذي يخططان لتبنيه، بينما كان مدير مدير ملجأ الأطفال يطلب النصيحة من الزوج المدرس عن المدرسة المناسبة لابنته أو الذي كان يتبادل فيه البطل حواراً نمطياً عن الرياضة مع صديق له كان يزورهم مع زوجته لتهنئتهم بالمولود الجديد.
اختار المخرج اللقطات المتوسطة لفيلمه، وندرت تلك القريبة الكاشفة لوجوه ممثليه، هذا الأسلوب سيكرس اتجاهاً للفيلم يقوم على المراقبة العامة الذي يرتكز على مشهديات متوسطة إلى واسعة. كما فضل الفيلم الاستعانة بالأضواء الطبيعية في معظم أوقاته، وهذا سيضفي بدوره روحاً واقعية تسجيلية على الفيلم. يُوازن المخرج في أول أفلامه بين عدة اتجاهات، إذ إنه لا يتخلى عن خطه الساخر المستفز طوال الفيلم، لكن دون أن تفقد القصة والشخصيات ملامحها الإنسانية وألمها. بيد أن بعض المشاهد المتطرفة في غرائبيتها والتي تندرج ضمن التجريب الذي أحب المخرج ممارسته في الفيلم، لم تكن جميعها مُنسجمة مع روح الفيلم الخاصة.