نظرة إلى البشرية من الفضاء

قيس قاسم
 
النظرة السائدة عن عالمنا سوداوية ويمكن ملاحظة ذلك في أغلبية الوثائقيات التي تناولت المخاطر الجدية التي تهدد وجودنا البشري، لكن ثمة رؤية أخرى مختلفة تدعونا إلى قراءة أكثر عمقاً وشمولية للواقع والمراهنة على الإنسان وعبقريته، التي كانت سبباً في تطورنا التدريجي المذهل، كما كانت للأسف وراء الكثير من المشاكل التي تواجهنا اليوم، ولهذا وفي خضم انشغالنا في الجدل حول مصير كوكبنا وما أصابه من خراب ننسى أهميتها وقدرتها على إيجاد حلول ناجحة لمشاكلنا من خلال الابتعاد قليلاً عن معمعة الجدل والصراع الدائر حولها ومعاينتها بروية من بعد، كما يقترح المخرج الأمريكي “دوكان كوب” في وثائقيه Humanity From Space    ويذهب أكثر من ذلك فيدعونا عبره إلى رؤية أنفسنا ومشاكلنا وكل وجودنا البشري من الفضاء من علٍ.
 
“البشرية من الفضاء” ينتمي إلى مجموعة الوثائقيات الشامل��، الجامعة لأكثر من نوع، فهو علمي واجتماعي، فلسفي وتاريخي وطبعاً فني بامتياز لخروجه من الأطر التقليدية وذهابه إلى عوالم خارجية، بمساعدة التقنيات الحديثة وبفضل خبرة ومهارة المشرف على المؤثرات الخاصة “مايكل لينتش” تمكن من عرض مشهد واسع لكوكبنا وسهّل على المشاهد فهم قراءته المعمقة لتاريخ تطور الإنسان ودوره في نمو وازدهار المجتمعات البشرية على مدى آلاف السنين وكيف صارت الأرض بفضل نشاطه العقلي على ما هي عليه الآن.
عرضه لمراحل التطور البشري منذ ظهور أولى الحضارات على الأرض بمنظار خارجي يوحي لمشاهده وكأن كائنات أخرى خارج الأرض تريد معرفة كل ما جرى فيها، كما يولِّد حالة من الاسترخاء الذهني ويحقق متعة فرجة نادرة من أجل توصيلها على أكمل وجه استعان صانعه بالموسيقار “مارك كورفن” لوضع الموسيقى التصويرية المصاحبة للرسومات والتخطيطات الإلكترونية التي جسدت بدورها أهم الاختراعات والاكتشافات، التي ساعدت البشرية للانتقال من مستوى إلى آخر، أعلى مرتبة.
أول علامات النبوغ البشري تعلم الإنسان في بلاد ما بين النهرين وقبل أكثر من عشرة آلاف سنة الزراعة.
 
بانتقاله من مرحلة الصيد إلى الزراعة ومن بعد تدجينه وتربيته للحيوانات أسّس المرحلة الأهم من تاريخ البشرية وبسببها مالت الأقوام المهاجرة والمعتمدة على صيد الطرائد إلى الاستقرار، وأصبحت قادرة على توفير الغذاء لنفسها من زراعة البذور طيلة الوقت وبالتالي قلّت نسب الوفيات بينهم وازداد عددهم. 
رافق استقرارهم توسع وتقارب لمجاميعهم الموزعة، ليشكلوا فيما بعد أولى التشكيلات الاجتماعية البشرية. بعد ألف سنة وبعيداً عن حضارة الشرق تعلم الإنسان في الطرف الثاني من الكرة الأرضية زراعة الذُرة في المكسيك ومع مرور الوقت انتقلت الزراعة إلى آسيا ومن ثم إلى أوروبا.
بوصفها “الإنتاج الذاتي الأهم في تاريخ البشرية” يخصص الوثائقي فصلاً ممتعاً مشغولاً بأعلى التقنيات لطبيعة العلاقات الجديدة المصاحبة للزراعة ومنها تقارب الأقوام والشعوب مع بعضها وحصول تغيير هائل في سلوك الإنسان والأهم توفره على فائض من الوقت راح خلاله يفكر في تحسين وتطوير أدواته الزراعية وتحسين عملية الحصاد وبفضلها انتقل من مجرد مزارع إلى مبتكر وقادر على تبادل معارفه مع الآخرين.
كيف ستبدو هذة العملية الطويلة والمعقدة من تاريخنا لو نظرنا إليها من الفضاء؟ للجواب يشرع الوثائقي في رسم صورة بانورامية لها بالحاسوب مصحوبة بالتعليق والموسيقى المناسبة، وعلى هذا المنوال تقريباً سيصور كل مرحلة أو عملية انتقال كبرى على الأرض من الفضاء كما لو أنها تجري بالفعل أمامنا وكأننا نحن ننظر إليها من أعلى. 
 
فصل المدن ونموها له طعم خاص منه نتعلم كيف صارت مدننا على ما هي عليه اليوم. يغوص الوثائقي الأمريكي عميقاً في نشأة أولى المدن وكيف نمت وتوسعت حتى بلغ عدد سكانها الملايين ونطلق عليها تسمية “المدن العملاقة”. 
توفرها على المراكز التجارية والصناعية دفع ملايين الفلاحين إلى الانتقال والهجرة إليها بحثاً عن فرص عمل ولتحسين مستوى حياتهم. 
سيقود هذا بدوره إلى زيادة في الطلب على البضائع وسيصار إلى تلبيتها العمل على فتح مزيد من المصانع وإنتاج الكثير من البضائع. 
في رحلته الطويلة إلى بريطانيا وتجسيده النقلة الكبرى التي أحدثها العالم “جيمس واط” في ابتكاره المرجل البخاري في عالم الصناعة. يتوقف عند الزيادة الهائلة لعدد السكان والحاجة لسد حاجتهم من الغذاء والملبس. 
 
ستبرز ومنذ القرن السابع عشر مشكلة توفير المحاصيل الزراعية لسكان دفع التطور العلمي إلى ازدياد عددهم باطراد.
من الفضاء ستبدو العملية مركبة وأكثر تعقيداً من المرحلة الزراعية لأنها اشترطت توسعاً كونياً أصبحت الكرة الأرضية بفضل اختراع الآلة والسيارات والسفن البخارية والقطارات أبواب العالم مشرعة على بعضها وكل طرقها سالكة وللجميع. الصورة من فوق ستكون أكثر جاذبية حين نصل إلى المنجز العظيم للعقل البشري، ونعني به؛ اختراع الكهرباء.
بدت المدن بفضل العالم “توماس أديسون” كتلاً مشعة نوراً للناظر إليها من الفضاء. مساحات متوهجة بفضل المصابيح الغازية الموجودة في كل زاوية من كرتنا الأرضية، حتى البحار وبفضل الكهرباء ما عادت مظلمة كما في السابق ففي أكثر مناطقها عتمة يظهر النور من وسطها لأن ثمة ناقلة بترول عملاقة تشق طريقها وسطه أو هناك جزيرة ما وصلت الكهرباء إليها فأشعلت أنوارها.
الآلة البخارية والكهرباء سيمثلان ثورة حقيقية في تاريخ الإنسان فبفضلهما تطورت الصناعة وبدأ الإنسان يتنعم بنعم الصناعات التي ستخرج منها ملايين الاختراعات والأفكار، ربما آخرها الحواسيب والتي ستكون عديمة الجدوى دون الكهرباء والحال نفسه مع الطائرات والسيارات.
 
كل شيء تقريباً أصبح معتمداً على الكهرباء وبمعنى آخر على الطاقة المولدة لها وما يتبعها من عمليات بحث دائمة عن مصادر جديدة لها، من الطبيعة أو من ابتكار عقل الإنسان.
شبكات الطرق وحركة النقل الدائمة على سطح الأرض المصورة من الفضاء تدعو المشاهد للتفكير بالمديات التي وصلها العقل البشري وبتناوله المفصل لعصر الكومبيوتر ووسائل الاتصال الحديثة سنفهم حجم الإسهامة العظيمة للعقل البشري وكيف أوصلنا نفسه إلى طرق خطيرة شبه مغلقة بسببها يتعرض عالمنا لخطر الزوال. 
من أكبر المشاكل الناجمة عن تطور العلم والصناعة زيادة عدد نفوس الناس بمعدلات لم تعرفها البشرية من قبل. صاحبها بالضرورة شح في كمية الأراضي المسكونة وحتى الزراعية كما قلت بسبب استهلاكهم المفرط الموارد المائية ولو ظل الحال كما هو عليه الآن فإن مجاعات كبيرة تنتظرنا. 
 
بفضل العقل البشري القادر على تحقيق ثورات عظمى أصبح العالم قرية صغيرة مشاكله واحدة لا يمكن فصل واحدة عن الأخرى. لرسم كونية الأرض ووحدتها وكيف تبدو من الفضاء احتاج الوثائقي إلى شحذ كل ما يمكن من تقنيات أراد بها تقديم صورة بانورامية شاملة لكل الجوانب المتعلقة بحياة الإنسان المعاصر؛ النقل، التجارة الصناعة، علم الاتصالات، الزراعة، الصحة، الحروب وغيرها. 
قدم بالفعل صورة مبهرة لعالمنا مأخوذة من الفضاء، دقتها تساعد المشاهد على فهم عالمنا بشكل أحسن ًوتلبي بقدر معقول حاجتنا للتعرف على مشاكلنا كما هي والتفكير في إيجاد حلول مناسبة لها، دون الاستسلام إلى النتائج الحالية القبول بها كواقع لا مفر منه. 
يراهن الوثائقي على العقل البشري الخلاق لتصحيح ما سببه من كوارث، ربما لم ينتبه إليها بالدرجة الكافية، فالاندفاع كان سمة التطور البشري والترحيب بالمنجز العقلي كان سلوكاً إيجابياً عند البشر، لا ينتبهون في غمرة فرحتهم به إلى مضاره وتبعاته إلا بعد حين، كما يحدث الآن وينبهنا إليه الوثائقي الشمولي المذهل ويدعونا نحن البشر إلى ضرورة التفكير بحلول للمصاعب التي صنعها عقلنا المبدع!
 
يأخذنا المخرج “دوكان كوب” في وثائقية المبهج إلى رحلة استكشاف لـ”مصحات” علاج الكوكب الأزرق. من بين أكثرها إثارة للاهتمام؛ الزراعية. فالعلماء والمختصون بالتغذية يسعون ويدرسون إمكانية تعويض المساحات القليلة الصالحة للزراعة وغير الكافية لتلبية الزيادة المتوقعة في عدد سكان الكرة الأرضية خلال العقدين القادمين، وذلك من خلال فكرة زراعة المرتفعات والأعالي واستبدال النباتات التقليدية بأخرى محسنة جينياً لا تحتاج إلى نفس كمية المياه المعتادة وقادرة على النمو في “الهواء” أي دون تربة.
 
زراعة الرفوف وتعريض النباتات إلى الأشعة تحت البنفسجية تؤدي نتائج باهرة تشجع العلماء للمضي في أبحاثهم كما تزيد الأبحاث الخاصة باستبدال البذور الزراعية بأنواع جديدة لا تحتاج إلا لكميات قليلة من الماء.
في المنظر الخارجي المأخوذ للكرة الأرضية تبدو أغلب مساحتها مغطاة بالماء لكن الحقيقة أن الصالح منه للشرب ولأغراض الري قليل جداً لا يزيد عن 3% من المساحة المائية الكلية.
تبدو لهذا نتائج مشروع “غرين ساينس” في بريطانيا مشجعة على مستوى زيادة غلة المحصول الزراعي الواحد.
 
فبفضل العلم والعقل البشري يمكن لمساحة قليلة من الأرض توفير ناتج زراعي يعادل عشرة أضعاف الناتج العادي.
كما أن النباتات المحسنة تتحمل الجفاف أكثر وتتلاءم مع الظروف المناخية الصعبة ما يعطي فرص جيدة للبلدان الفقيرة مثل؛ الهند وغيرها. 
من عجائب النظر إلى عالمنا من فوق أن الحيوانات، التي تعيش عليها، تصبح أحياناً مصدراً خطراً عليها. 
 
بالرسم والتحليل البياني المصور تظهر أمام ناظرينا كمية الانبعاث الناتجة عن تربية الأبقار وما تطلقه بطونها من غازات سامة تؤثر سلباً على الغلاف الغازي للكوكب، ولهذا السبب يشتغل العقل البشري في مراكز بحوث موزعة في كافة الأنحاء على تقليل استهلاك اللحوم وذلك باستبدالها بأنواع أخرى تغطي حاجة الجسم من البروتينات.
في النهاية يصل الوثائقي بعد رحلة طويلة إلى ثورة تكنولوجيا المعلومات، ويسجل جوانب من العمل الجاري من قبل العلماء للاستفادة منه وترويضه لصالح البشرية ومن أجل إيجاد حلول كونية تستفيد من كم المعلومات الهائلة التي يوفرها ويمكن استخدامها لصالح البشرية، فمشكلاتنا كبيرة وحال البشرية كما يظهر من الفضاء ليس ميؤوساً منه، فالعقل الذي أبدع الحضارات قادر على حل المشاكل الملازمة لها، هذا على الأقل ما تشي به النظرة الواسعة إلى عالمنا من الفضاء!

إعلان