“الهدم”: مرثية للحزن الخاص
Published On 24/8/2016

طارق خميس
في رواية “الغريب” لألبير كامو يتساءل “ميرسو” بطل الرواية بلامبالاة: “اليوم ماتت أمي، أو ربما ماتت بالأمس… لست أدري”. لقد كان بطلاً تفصله مسافة شاسعة عن الحزن وهو مالم يكن يعني بأنه سعيد، ولكنه لم يعثر بعد على حزنه الخاص.
يمشي بطل “الغريب” على الشاطئ فيدفعه انزعاجه من أشعة الشمس لارتكاب جريمة قتل، وكأن ارتكاب جريمة ما بعد حزن غير متحقق – وفاة أمه – كان محاولة لدفع التبلد الحسي لأقصاه لكن شيئاً لم يتحرك من مكانه، ليس لأن فعل القتل غير كاف لذلك بل لأن القتل حدث على خلفية الانزعاج من أشعة الشمس.
في فيلم “الهدم” – “Demolition 2015” حادث سير مأساوي يودي بحياة زوجة ديفيس (جاك جينهال) وهو جالس بقربها، تُحمل إلى المشفى وتفارق الحياة هناك، لتتغير حياته بعدها من خلال سلسلة من الأفعال التحطيمية يمارسها على الأشياء والعلاقات وحتى العمل.
لكن الصادم كان بالنسبة لديفيس – الموظف البنكي المثابر – أن رحيلها لم يجعله منهمكًا في حزن خاص عليها، لذا بدأ يتدبّر محاكاة الناس الحزانى، بمعنى أن عليه أن يمثل حزنًا يتوقعه الناس منه، لكن ذلك لم يجر كما تأمّل، فسرعان ما اتضح للجميع (خاصة والد زوجته) بأن تصرفاته تخرج عن تصرفات المفجوع بالفقد وترتقي لأن تكون في خانة “الواقع تحت الصدمة” وهو تعبير اجتماعي قبل أن يكون طبيًا يعني أولئك الذين يتلقون الأحزان بطريقة غير التي يتلقاها بها المجتمع.
ما يجعل هذا الفيلم يفترق في طرحه عن رواية الغريب هو أن بطل الغريب لا يسأل عن الحزن وذلك بسبب لامبالاته به، ولكن بطل الفيلم يسأل عنه بسبب اللامبالاة ذاتها.

ولكن لماذا من المحزن أن لا يكون لدينا حزننا الخاص؟ ربما لأن الحزن طريقة تَأكّدنا من وجودنا، إنه محزن من حيث يخبرنا برحيل من نحب، لكنه يقول لنا أيضا إن هناك من نحب.
إنه نقصان ما، يصيب حياتنا لكنه إشارة لكمال ما، يجعل من الذات ممتدة بقدر ما تُحبّ وتحزن، والذات بلا حزن خاص محرومة من مبرر الوجود لأنها لا تكون ذاتا إلا بمقدار ما تضع عواطفها وانفعالاتها في قلب العلاقات اليومية للحياة.
إننا نجري مراجعات لذواتنا حين نواجه موقفًا يبعث على الحزن ولكنه لا يحزننا، وهذا ذنب يرافقنا مع تعوّد صور الضحايا في منطقة مشتعلة بالعنف، نتفحّص في كل مرّة مشاعرنا، وأحيانًا ندفعها دفعًا للتأثر؛ لأننا نريد “الحزن” لنشعر بذواتنا ونؤكدها في كل مرّة، لسنا لحظة عابرة في الزمان ونقطة مرسومة داخل المكان محدودين بحغرافيا الجسد. أو بالأحرى هذا ما نحاول نفيه باستمرار من خلال تورّطنا الدائم في علاقة تفاعلية مفتوحة؛ تشعر الذات بامتدادها وتؤكدها في آن واحد.
يتوجه دايفيس الذي تلقى خبر وفاة زوجته في المشفى نحو ماكينة منصوبة في منتصف الممر، ويضع بعض النقود ليتناول شيئًا من الحلويات، إلا أنها كانت معطلّة فلم تمنحه حلوى ولم تعد له النقود، فيراسل الشركة المسؤولة عن هذه الماكينات، عبر سلسلة من الخطابات يبدؤها بالإشارة لمشكلة الماكينة وينهيها بالتفصيل في مشكلته هو، “لقد توفيت زوجتي وهي شخص لطيف جداً لكن ذلك لم يجعلني حزينًا”.
لماذا كان من السهل عليه أن يخاطب شركة عما يجري معه؟ ربما لأن الشركة غير شخصية، إنها لا تعرفه وليس من الوارد أن تلقي عليه تحية الصباح في الطرقات، إنها شركة تستقبل مئات الشكاوى ومن الوارد جداً أن يلقوا بشكواه في القمامة، لكنه لا يبحث عن حل ولا يتوقع منهم رداً لأنه أساساً لا يعرف ماهي المشكلة، كان يريد أن يقول – والقول فقط – أن ثمة شيئا يحدث وأنا عاجز عن إدراك حدوده، لا يشبه هذا وصفاً للدوار الوجودي الذي يعيشه الإنسان الحديث، إنه وصف عن “توقف هذا الدوار”. ليس السؤال هنا حول ما إذا كان الفضاء الحديث ممكناً لإقامة علاقة مع الحميمي والشخصي، وإنما في السؤال للإنسان نفسه حول ما إن كان لايزال قادرًا على استضافة حميميته وحزنه.

لقد كانت مخاطبة الآلة حدثاً واقعياً وغير مرمّز، ومن المثقل على الفيلم أن نقول بأنها إشارة ما لغياب الصداقة أو الروابط الحميمية بين الناس، ولكي ينقذ الفيلم نفسه من هذا الترميز المباشر فإنه جعل من إمكانية إقامة علاقة شخصية مع الفتاة الموظفة التي تستقبل رسائله ممكنة. وهو ما تطور لاحقاً لعلاقة امتدت لابنها الصغير أيضاً الذي شكل له إضافة في مسار اكتشاف الذات بعد واقعة وفاة زوجته.
ولكن هذه العلاقة التي تصبح محور الفيلم وزمنه المتسلسل، تزيح عنوان الفيلم أو مقولته الرئيسية لتجعلها ثانوية، لقد كان انخراط البطل في أفعال تدميرية هو علاجه الفعال لــ “مرض” لم يتعرف عليه على أنه كذلك، فشرع بتحطيم الجدران مع العمال ومن ثم انقضّ على منزله الأنيق بأدوات “الهدم”، وفعل ذلك بمتعة مدهشة، جعلت من شخصيته تتفلت اجتماعيًا فينخرط في نقاشات لا تتسم بالأدب واللباقة وذلك لأن ثمة مهمة تدميرية اندفعت فيه تؤسس لعلاقة حّرة مع الآخرين مريحة له ومزعجه لهم، وغير مفسرّة لكليهما.
الانزياح الثاني الذي جرى لفكرة “التهديم” هو معاودة البطل لبناء عالمه بشكل مفاجئ في نهاية الفيلم: إصلاح علاقته بوالد زوجته، وعلاقته بالفتى ابن موظفة الشركة… ولكن لماذا يعتبر هذا انزياحاً أليس “الهدم” عملية تسبق البناء من جديد؟ يمكن قول ذلك لو أنّ البناء النفسي لبطل الفيلم كان أمام بنيان واضح لا يريده إلا مهدّماً لصالح آخر بدأ يتشكل من قلب الهدم نفسه، لكن الأمر ليس كذلك، لحظة وفاة زوجته ليست لحظة انتباه لعالم لا يعجبه بل لحظة إفلات العالم نفسه من بين يديه، لم يخسر مع رحيلها شيئا سوى خسارته لإيمان إنساني مريح بأننا نمتلك حزناً ويخصنا.
وحين نكتشف أن الأمر ليس كذلك نشرع بعملية هدم تجعل من الهدم فعلًا فَرِحا وليس ثأرياً، كانتباه بطل فيلم “Fight Club 1999” للقتال بوصفه فعلاً تحررياً لتناقضات الذات.
يحكي تشيخوف في قصة “الحوذي” عن جمالية تراجيدية لــ”الحزن الخاص” وقد جرى طردها من الشأن العمومي، حيث هناك رجل يعمل كسائق على عربة حصان، يدعى “أيونا بوتابوف”، توفي ابنه” كوزما أيونيتش” في صباح توجهه للعمل. وخلال عمله حاول أن يخبر العديد من الركّاب أن ابنه قد مات، ولكن أحداً لم يكن معنياً بالاستماع إليه.
وفي الليل أثناء تواجده مع حصانه في الإسطبل يبدأ بالكلام مع الحصان:
– هكذا يا أخي الفرس، لم يعد “كوزما أيونيتش” موجودًا. رحل عنا..فجأة، خسارة. فلنفرض مثلا أن عندك مهراً وأنت أم لهذا المُهر.. ولنفرض أن هذا المهر رحل فجأة، أليس مؤسفًا؟!.
وتمضغ الفرس وتنصت وتزفر على يدي صاحبها، ويندمج “أيونا” فيحكي لها كل شيء.