المصارعون الأتراك الصغار

 
محمد موسى 
 
عُرض الفيلم التسجيلي “المصارعون الصغار” (Young Wrestlers) للمخرج الهولندي التركي الأصل “ميتا غومرهان” للمرة الأولى في الدورة الأخيرة لمهرجان برلين السينمائي، وحصل وقتها على تنويه من لجنة تحكيم تظاهرة “أجيال” التي كان أحد أفلامها. وبعدها في مهرجاني: إسطنبول وسراييفو السينمائيين. يندرج الفيلم ضمن سينما المراقبة الخالصة، إذ إن المخرج الذي قضى أشهراً في معسكر لتدريب المصارعة التراثية لصبيان أتراك لم يحاور أحداً أو يطرح سؤالا واحداً، بل كان يراقب ويصور ما يجري أمامه، ليستخلص بعدها من مادته الخام الضخمة، فيلماً يجمع بين التفصيلية والحميمية، وبين التركي الخاص المحلي والإنساني العام.
 
يَضبط الفيلم زمنه بين بداية المعسكر الصيفي لتدريب المصارعة وبطولة تقام في نهاية الموسم الصيفي، لكن هذه الحدود لن تحدد مناخاته وروحه، إذ ذهب جُلَّ اهتمام المخرج لتسجيل الحياة اليومية في المعسكر، مُركزاً على الفتيان المتدربين بالأساس وهم يخوضون هذه التجربة الجديدة، ليس فقط على صعيد الرياضة، بل الحياة أيضاً، ذلك أن وجودهم في المخيم كان المرة الأولى لبعضهم بعيداً عن أمان بيوتهم وحب أهلهم. كما سيحضر في الفيلم المدربون البالغون، وفي مرحلة متقدمة من زمن الفيلم عوائل بعض الفتيان، ليوسع هذا بدوره المشهد العام الذي يستعرضه الفيلم من الحياة التركية المعاصرة.
 
 
ترتبط رياضة المصارعة التي يلعبها الفتيان بتقاليد طويلة في تركيا، فالهدف الذي يسير نحوه المتدربون هو بطولة في الهواء الطلق، يرتدي لاعبوها لباساً تركياً تراثياً، وتبدو قوانينها لا تختلف كثيراً عن رياضة المصارعة الحديثة. ولعل تفصيلة التراث التركي والهوية والقومية والإسلامية سيكون لها أهمية في هذا العمل التسجيلي، لجهة الطبقة الاجتماعية المحافظة التي كشف عنها، والبعيدة وإلى حدود معينة عن المشهد السينمائي التسجيلي التركي. يسجل الفيلم مثلاً كيف أن المدرب الشاب يقطع حصته التدريببة ليأخذ طلابه إلى صلاة الجمعة في الجامع القريب، وينقل في مشهد آخر درساً دينياً في صف المدرسة الابتدائية المختلط الذي يدرس فيه بعض المتدربين في المعسكر.
 
يستغرق الفيلم ما يقارب من نصفه وهو يحاول أن يجد إيقاعه الخاص. فبدت كاميرا الفيلم مثلاً في ذلك الجزء تائهه و أحياناً عقبة تعرقل وتؤثر وتربك ما يجري أمامها، بخاصة مع خطة المخرج عدم الاكتفاء بالمشاهد البعيدة أو المقربة الثابتة، بل كان يتنقل مع كاميرا محمولة بين حصص التدريب وغرف الطلاب في المخيم. ويخرج مع بعضهم في مشاهد خارجية، بيد أن الفيلم سيعثر في نصفه الآخر على الزاوية المناسبة لمراقبة شخصياته وموضوعه، وسيلتقط لحظات خاطفة مُعبرة كثيراً، حتى أن طبيعة المشاهد ستغيير في ذلك النصف، ليصل الفيلم إلى شاعرية مفاجئة في نهايته.
 
وكحال أفلام هذه الفئة السينمائية، يتشكل البناء الفيلميّ في غرف المونتاج، كما تتضح صور الشخصيات والأهمية التي ستستحوذ عليها في الغرف ذاتها. يتوزع الاهتمام بين عدة شخصيات في الفيلم، وتوفر كل منها جزءاً من التجربة العامة التي يقدمها الفيلم، والتي يمكن اختزالها بتحديات ما بعد الطفولة والاستجابة للظروف الجديدة التي يجد صبيان الفيلم أنفسهم فيها، وتساعد الصور والشخصيات المكملة لذوي هؤلاء الصبيان ومدربيهم، في تظهير هذه التجربة الخاصة. والتي ستكون ما يشبه الممر للقادم من حياتهم، كما رمز إليه المشهد الختامي الأخير للفيلم، والذي يتبع بشاعرية كبيرة واحدا من صبيان الفيلم، وهو يتجه إلى الخارج، فيما الشمس الساطعة تكاد تعمي الكاميرا التي كانت تسير خلف الصبي في إشارة للمجهول الذي ينتظره.
 
 
ومن الشخصيات التي تبرز أكثر من غيرها في الفيلم، ستكون لصبي ضعيف البنية يصاب بنزيف في الأنف يعاوده أكثر من مرة عبر زمن المعسكر الرياضي. يلتقط المخرج هذه الحادثة ويركز عليها ويتابعها، ليتحول حال الصبي الصحي وبموازاة تتبع التطور البدني للمصارعين، إلى خطين سرديين وحيدين في الوثيقة التسجيلية. ينقل الفيلم بمشاهد مؤثرة الدهشة التي تصيب الصبي مع كل نزيف جديد، والاهتمام العفوي الذي يتلقاه من الجميع من حوله، كما سيتبع الفيلم الزيارات التي سيقوم بها مسؤولو المعسكر مع الصبي إلى المستشفى، وبعدها يرافق والدي الصبي اللذين يسافران إلى منطقة المعسكر لمتابعة حالة ابنهم.
 
لا جدال أن هذا النوع من السينما التسجيلية يم��ك تحدياته الخاصة المتطلبة، فحضور الكاميرا المتواصل والفرق الفنيّة الصغيرة أو الكبيرة التي ترافق هذه الكاميرات يترك آثاره الواضحة على سلوك الشخصيات، موضوع هذه الأفلام، وهذا ما عانى منه وإلى مديات معينة ما فيلم “المصارعون الصغار”، لكن المخرج عرف وبعد انقضاء زمن ما على بدء تجربته أن يحصل على ثقة الصبيان ومدربيهم وأهلهم، ويتحول – وهذه غاية هذا النوع من السينما- إلى شخص غير مرئي وجزء من المشهد العام وقتها، عندها ارتفعت عفوية الفيلم، وصار بمقدورنا أن نراقب الشخصيات على حقيقتها. وأنتج الفريق الفني للفيلم مجموعة من المشاهد الشديدة الصدق والكشف والإنسانية، كالتي كانت تقدم المكالمات التلفونية لصبيان صغار مع أهلهم، أو عندما حضر جد فتى في الثانية عشرة من العمر، والشوق الذي كان يحمله هذا الفتى لجده، إذ صوره الفيلم وهو يضع يديه على كتف هذا الجد في لقطة مُقربة. 
 

إعلان