أفلام وحياة “كين لوتش”
Published On 7/8/2016

محمد موسى
لعلّ التحدِّي الأصعب الذي يواجه من يخطط أن يستعيد تسجيلياً سِيَر سينمائية لمخرجين أو مخرجات سيكون على الأرجح اللغة والمُعالجة المختارة لهذه الإستعادات، والتي يتوقع منها أن تكون أمينة ومرتبطة على نحو ما بجوهر المنجز السينمائي لهؤلاء المخرجين. وباحثة في الفضاء التسجيلي عن أساليب جديدة ومُبتكرة لتشريح وتحليل سينمات شخصياتها، ومهيجة في الوقت ذاته أسئلة فنيّة وشكليّة تُعين المشاهد على فهم المسارات والاتجاهات والتحولّات التي سلكتها هذه السِيَر السينمائية عبر السنوات، دون أن تغفل في الآن نفسه البنيّة التحقيقيّة والكشفيّة التي تندرج ضمنها هذه الأعمال التسجيلية.
يُعد فيلم “مواجهة: حياة وأفلام كين لوتش” للمخرجة البريطانية لويز أوزموند، والذي عُرض أخيراً في صالات سينمائية منتخبة في بريطانيا، واحداً من الأعمال التسجيلية المهمة التي تجد مقاربتها السينمائية الخاصة وهي تستعيد السيرة السينمائية الحافلة للمخرج البريطاني المعروف كين لوتش.
ترتكز معالجة المخرجة على التأني في الانتقالات التوليفية والتدقيق في اختيار الشخصيات التي يتم محاوراتها والبحث عن قسوة وجماليات العادي واليومي، وهذه جميعا عناصر معروفة في أفلام المخرج البريطاني، الذي لا يظهر كثيراً بشخصه عبر زمن الفيلم، ليقترب الفيلم لأن يكون صدى للحياة الفعليّة للمخرج، فرغم صخب أفلام لوتش وغضبها المستديم من النظم القائمة، إلا أن صاحبها يُعدّ وحسب الذين يعرفوه، مثالاً لأبناء الطبقة المتوسطة البريطانية، بهدوئه وانضباطه وتواضعه الجمّ.

صُوِّر الفيلم التسجيلي أثناء الإعداد وتصوير فيلم لوتش الأخير (أنا دانيال بليك)، والذي سيفوز بجائزة السعفة الذهبية في الدورة الأخيرة لمهرجان كان السينمائي. تفتح هذه الفرصة النادرة كوّة على المحترف السينمائي الخاص للمخرج، الذي على الرغم من وصوله عتبة العقد الثامن من العمر، كان يتنقل بحيوية مخرج في ذروة شبابه. مشرفاً على كل التفاصيل الصغيرة في الفيلم. يتنقل الفيلم التسجيلي من الحاضر إلى الماضي، ولا يسير على خط زمني تصاعدي، فمن مواقع تصوير فيلم “أنا دانيال بليك”، يعود الفيلم إلى الستينات عندما بدأ لوتش مسيرته الفنيّة مخرجاً في هيئة الإذاعة البريطانية (بي.بي.سي)، كما يصل بين تلك الاستعادات التاريخية، بحوارات تجريها المخرجة مع أبرز الذين تعاونوا مع لوتش، من كتاب وممثلين، والذين اجتهدوا لسنوات طويلة، لتكريس تيار الواقعية الجديدة في السينما البريطانية، والتي سيغلفها لوتش بهجاءات قاسية لسطوة رجال المال وفساد الحكومات.
تمرّ المخرجة على بعض المحطات السينمائية للمخرج البريطاني، ولا تتوقف عند جميعها، بل تختار ما يمكن أن يعتبر أفلاماً غيرت اتجاهات السينما الواقعية في بريطانيا، كالفيلم التلفزيوني “كاثي تعود للبيت” 1966، والذي كان ظاهرة وقتها، لتناوله الواقعي القاسي الذي يقترب من التسجيلي، وأداء ممثلين وممثلات عفوي يعكس مشاكل طبقات مسحوقة في المجتمع البريطاني حينذاك. وفيلم “كيس” 1969 الذي شكل بدوره محطة مفصلية لتيار الواقعية البريطانية الجديدة، من جهة الاستعانة بممثلين غير محترفين، وإبراز قيمة الأداء الارتجالي.
وفي المقابل يتابع الفيلم التسجيلي ومن خلال تسجيله ليوميات تصوير فيلم “أنا دانيال بليك”، الصرامة الفكرية والأخلاقية والأسلوبية التي شكلت ما يشبه السلسلة التي ربطت أفلام المخرج، ودور الممثل/ الممثلة الذي يشكل عصب السينما الواقعية التي قدّمها المخرج طوال نصف قرن تقريباً.
ولد كين لوتش لأسرة عمالية عادية، لكنه لم يستسلم لأقدار الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها، فنجح في تجاوز المطبات الطبيعية التي كانت تقف أمام أبناء طبقته في الخمسينات من القرن الماضي، وحصل على فرصة دراسية في جامعة أكسفورد. في الجامعة حاول تجريب التمثيل، لكنه لم يكن يملك الموهبة ليواصل. التحق لوج بعد تخرجه بالـ ” بي.بي.سي” التي كانت تغير جلدها في الستينات. سيبقى لوج وفيا ً للمؤسسات البريطانية الحكومية (“بي.بي.سي” و” القناة الرابعة البريطانية”) التي يراها مسؤولة عن الذوق العام.
أنتجت هذه المؤسسات معظم أعمال المخرج، وعندما تخلت عنه في معظم سنوات الثمانيانت بسبب سياسة مارغيت تاتشر المتشددة، سيجد لوج نفسه بلا عمل لسنوات طويلة، حتى أنه سيضطر لإخراج أفلام إعلانية منها واحد لسلسلة “ماكدونالدز”، كشف المخرج إنه نادم عليه كثيراً.

شَكَّل مهرجان كان السينمائي أهمية كبيرة في المسيرة السينمائية لـ”لوتش”، إذ إن المهرجان الذي التفتّ مبكراً لأفلام المخرج البريطاني ومنحها جوائز رفيعة، كان تذكيراً واعترافاً بالخط السينمائي الراديكالي لـ “لوتش”، في مقابل حملات العداء التي تعرض لها في بريطانيا نفسها.
إذ واجه لوتش حملات من التشكيك بنواياه وسينماه، وشُتِّم واتُهم على صفحات جرائد اليمين البريطاني، الذي نشر يوما مقالة عدائية بعد عرضه فيلم “الريح التي تهزّ الشعير” كان عنوانها:”لماذا يكره لوتش بريطانيا”. والحال أن الإعجاب والاعتراف الفرنسي بسينما لوتش سينبّه جمهور أوروبي واسع بقيمة هذه السينما، وليتحول لوتش إلى واحد من الأسماء الإخراجية التي ينتظر جديدها جمهور السينما الفنيّة الأوروبية.
في موازاة السيرة السينمائية، يستعيد الفيلم التسجيلي التطور الفكري للمخرج البريطاني عبر السنين ويحاول أن يصل إلى إجابات تفسر الغضب الذي تطفح به أفلامه، فيقابل في هذا الاتجاه أصدقاء وزملاء له، بعضهم كان في قلب الحركات الثورية في بريطانيا في الستينات والسبعينات، وحملوا أفكارهم الثورية الى أفلام لوتش. سيصطدم لوتش مراراً بالمؤسسات المحافظة في بلده، وتم وقفه عن العمل أحياناً، كما حدث مع السلسلة التسجيلية التي كان يعدها للقناة الرابعة البريطانية عن الإضراب الشهير لعمال مناجم الفحم في عقد الثمانيات من القرن الماضي. كما سيوقف المسرح البريطاني مسرحية للوتش التي كان يحضرها عن الهولوكوست في هنغاريا بحجة معاداة السامية. برز لوتش بدعمه للقضية الفلسطينية، وسيمتنع عن المشاركة بأفلامه في إسرائيل.
لم يحط كين لوتش نفسه أو منجزه السينمائي بالغموض، بيد أن الفروقات بين طباع الرجل الهاديء المهذب وما تتضمنه أفلامه من هجاء وانتصار للمهمشِّين والمسحوقين، كان دائماً أمراً مثيراً يهيج تساؤلات عما يختلج في أعماق المخرج الظاهرة. لا يجيب الفيلم عن هذه التساؤلات، بل يضيف عليها مزيداً من الغموض والدهشة. يحاور الفيلم أبناء لوتش، والذين ستعمق شهاداتهم الفروقات بين لوتش السينمائي والإنسان. عاد لوتش من الاعتزال العام الماضي ليخرج “أنا دانيال بليك”، وربما سيعود مرة أخرى ليخرج تحفة سينمائية جديدة، تستلهم – وكما الحال في الكثير من أعمال السينمائي البريطاني- وقائع حقيقية، والتي تدخل في محترف المخرج، الذي يمنحها وبالاشتراك مع ممثيله، ألم الحياة وغضبها. لا يتوقف لوتش عن صب لعناته في أفلامه وأحاديثه على السياسيين، لذلك ليس غريباً أن تنهي المخرجة لويز أوزموند فيلمها بمشهد لـ “لوتش”، وهي يشتم هؤلاء السياسيين ويصفهم بالرعاع.