“الفهود السوداء”.. ثورة السود التي أعادت الكرامة وهددت البيت الأبيض
لا أعرف فيلما وثائقيا مثل فيلم “الفهود السوداء.. طليعة الثورة” (The Black Panthers: Vanguard of the Revolution) للمخرج الأفريقي الأمريكي “ستانلي نيلسون” (2015).
فقد قدّم في سياق موضوعي يتميز بالجمال والدقة والشمولية قصة صعود ثم سقوط حركة “الفهود السوداء” التي برزت عام 1966 (أي منذ خمسين عاما)، باعتبارها حركة احتجاج راديكالية من جانب تجمعات الأمريكيين الأفارقة (السود) ضد سياسة التمييز العنصري والاضطهاد والتهميش وممارسات الشرطة القمعية.
وهو ما يجعل الفيلم عملا شديد المعاصرة أيضا، لكونه يأتي في وقت تشهد الولايات المتحدة أحداثا شديدة السخونة، ومواجهات بين الأمريكيين السود ورجال الشرطة في ضوء عمليات القتل الأخيرة.
“الفهود السود”.. حركة الدفاع عن حقوق السود في عصر الثورة
يأتي الفيلم في ذكرى مرور نصف قرن على ظهور الحركة التي تحولت إلى حزب سياسي، لكنه ليس مجرد عمل “احتفالي”، بل أراد مخرجه -الذي ينتمي للأقلية السوداء، وقد عايش بنفسه التجربة في شبابه المبكر- أن يكون بيانا سينمائيا حول إمكانية نشوء حركة سياسية منظمة للأمريكيين السود، ثم هبوطها وتلاشيها بعد أن بلغت ما بلغته من قوة وتأثير.
كان الزمن منتصف الستينيات من القرن الماضي، وقت انتفاضة شعوب العالم الثالث من أجل الاستقلال (يذكر الفيلم أن 50 دولة نالت استقلالها خلال العقد الذي سبق ظهور الفهود السود)، كما كان أيضا زمن بروز حركة الحقوق المدنية بزعامة “مارتن لوثر كينغ”، وظهور الفكر الراديكالي الذي عبّر عنه “مالكوم إكس”، واندلاع حركات الاحتجاج على حرب فيتنام، وثورة الشباب والطلاب في الولايات المتحدة والعالم.
لقد كان باختصار “زمن الثورة”، غير أن الحركة لم تظهر في البداية كحركة ثورية، بل كان ظهورُها في أوكلاند بكاليفورنيا ردَّ فعل لممارسات الشرطة ضد السود، مثل الاعتقال للاشتباه والإيقاف والتفتيش وعمليات الدهم والإهانات والاعتداءات البدنية اليومية.
تطورت الحركة فلجأ أفرادها إلى حمل الأسلحة في الأماكن العامة حينما كانت الدولة تسمح بذلك، من أجل حماية بيوتهم وأسرهم من الغارات الغاشمة للشرطة، ثم تكون حزب “الفهود السود”، وقام في البداية على أكتاف اثنين من القيادات الشابة هما “هيوي نيوتن” و”بوبي سيل”.
وسرعان ما انتقلت الحركة من أوكلاند إلى عشرات المدن الأمريكية المختلفة، وانضم إليها عشرات الآلاف من شباب الأمريكيين السود، وأصبح لأعضائها ملابس خاصة متميزة، مثل سترة من الجلد وقبعة مستديرة (بيريه)، ونمط تصفيف الشعر المميز الذي كان يستوحي الشكل الأفريقي، وأصبح وقتها الشعار “أنا أسود.. أنا جميل”، وأعلنت الحركة أنها تنشد الحماية والدفاع لا الهجوم، فالفهد لا يهاجم إلا عندما يجد نفسه محاصرا وسيتعرض للاعتداء.
برامج التطوع.. تغلغل في مجتمع البيض وقوى اليسار
يستعرض الفيلم نشأة الحركة وتطورها ثم نجاحها في خلق صورة مميزة تجذب أجهزة الإعلام، خصوصا أنها ظهرت في وقت بروز الدور الكبير الذي يلعبه التلفزيون بوصفه أكثر الوسائل شعبية، ثم كيف نجحت في تنظيم حملات مثل ما عرف ببرنامج الفطور للأطفال، وقد شمل توفير وجبات إفطار جيدة لأطفال الأسر الفقيرة في أحياء السود، كما أسست الحركة أيضا برنامجا آخر للفحص الطبي والعلاج، وكانت مثل هذه البرامج تعتمد على الجهود التطوعية والتبرعات.
ونشاهد في الفيلم من خلال آلاف الوثائق المصورة من الأرشيف (بالأبيض والأسود)، كيف أثارت الحركة تعاطف كثير من الشباب من البيض الأمريكيين أيضا، ومن القوى اليسارية والتقدمية عموما في الولايات المتحدة، ونجحت في جمع كثير من الأموال.
ثم أنشأت جريدة خاصة كانت تعتمد في توزيعها على الجهود الذاتية لشباب الحركة، وبلغ توزيعها 139 ألف نسخة أسبوعيا، وتميزت الجريدة بالرسوم التي أظهرت صور زعماء الحركة على غرار الزعيم الثوري “تشي غيفارا”، كما أصدرت كثيرا من الملصقات الأخرى التي لا تزال تتمتع بالجاذبية.

“خسرنا المعركة”.. سخرية من الشرطة وخطة لإسقاط النظام
يتوقف الفيلم أمام الدور البارز لفنان الغرافيك “إيموري دوغلاس” في تصميم مثل هذه الملصقات والرسوم والصور، وأصبح يعتبر وزير ثقافة الحركة، وهو يظهر في الفيلم يروي ويستعيد الكثير من الذكريات حول تطور الأحداث، كما يظهر عشرات من أعضاء “الفهود السود” السابقين بعد أن تقدم بهم العمر يعرضون مختلف جوانب الصورة، ويلقون الأضواء على كثير من الأحداث التاريخية، وذلك في شهادات حية مباشرة مدعمة بالصور ولقطات الأرشيف، مع إعادة التجسيد عن طريق كثير من الرسوم والتخطيطات البيانية وأعمال الغرافيك.
ابتكر “دوغلاس” فكرة “رأس الخنزير” على سبيل السخرية من الشرطة، وكان المتظاهرون السود يرفعون صورا احتجاجية عليها رسوم الخنزير وشعارات مناهضة للشرطة. ويروي أحد ضباط الشرطة أنه توقف ذات مرة بسيارته، وهبط منها واقترب من فتاة صغيرة، وحاول أن يتقرب منها ليثبت أنه ليس عدوا لها، فما كان منها سوى أن قابلته بالسباب وأعرضت عنه، وكان تعليقه “أدركت وقتها أننا خسرنا المعركة”، أي أن الشرطة خسرت معركة الدعاية.
كان اغتيال “مارتن لوثر كينغ” عام 1968 القشة التي قصمت ظهر البعير، فكيف يغتال الزعيم المعتدل الذي يدعو للتعقل والتعايش؟
من هنا أعلنت قيادات الحركة شعارات التغيير الثوري، أي الإطاحة بالحكومة الأمريكية، مما دفع الرئيس “نيكسون” الذي كان قد تولى السلطة إلى إطلاق يد “إدجار هوفر” الرئيس الأسطوري لمكتب التحقيقات الفيدرالي، من أجل التصدي للحركة.

زرع العملاء والاغتيالات.. أسلوب عنيف لتفتيت الحركة
عمل “إدجار هوفر” على ضرب الحركة وتفكيكها، بإصداره -كما نرى في الفيلم ونستمع إلى ما يرويه بعض ضباط المباحث الفيدرالية الذين كانوا يعملون تحت إمرته في تلك الفترة- تعليمات بضرورة اختراق الحركة، والعمل على تشتيتها، والإيقاع بين قياداتها، والحط من شأن أعضائها، وتشويه صورتهم في الإعلام، وزرع الأدلة الملفقة وحتى التخلص منهم أيضا، باستخدام التعبير الذي استخدمه وهو “تحييدهم”.
وصف “هوفر” الحركة بأنها “التنظيم الأكثر خطرا على النظام الأمريكي”، وكان يخشى -كما يقول الشهود في الفيلم- أن يصبح “فريد هامبتون” زعيم الفهود السود في شيكاغو “مسيحا أسود”، حسب نص رسالته التي أرسلها إلى رجاله.
من هنا كانت تلك الغارة الشهيرة على منزله في شيكاغو، وقد أدت إلى قتله برصاصة في رأسه مع زميله “مارك كلارك” دون أي إنذار وبلا أي سبب سوى الترويع، وهو ما أثار موجة غضب عارمة في أوساط الأمريكيين السود، وكان زعيم الحركة “هيوي نيوتن” قد قتل ضابط شرطة خلال تبادل لإطلاق النار، مما أدى إلى اعتقاله وسجنه، فاندلعت حملة شعبية استقطبت أعدادا كبيرة من السود والبيض تطالب بإطلاق سراحه، وقد أطلق سراحه بعد ثلاث سنوات قضاها في السجن.
يستعرض الفيلم بالتدريج نجاحات الحركة وإخفاقاتها، ومن ضمن تلك الإخفاقات عجزها عن إقرار فكرة المساواة بين الرجل والمرأة، وتقول بعض نساء الحركة في الفيلم إن النظر إلى المرأة كانت تتلخص في أنها يجب أن تقوم بالأعمال المنزلية، أما الأعمال النضالية فكانت تسند للرجل.
كما يصور الفيلم نجاح المباحث الفيدرالية في اختراق الحركة من الداخل، وزرع عملاء لها من بين السود، ويظهر أحدهم في الفيلم وهو “ويليام أونيل” متحدثا عن دوره بشكل مباشر في الفيلم، مما أدى إلى انشقاق الحزب، ثم أفضى في النهاية إلى نهايته وحلّه عمليا في أوائل الثمانينيات.
صعود الحركة التسلسلي.. سبعة أعوام من الغوص في الأرشيف
يعتمد أسلوب الإخراج على عرض الموضوع حسب التسلسل الزمني للأحداث، رابطا بين صعود الفهود السود، وبين حركات الاحتجاج الأخرى الأكثر شمولية في الولايات المتحدة، وهو أسلوب تكمن صعوبته في أنه يقتضي بحثا مكثفا جادا بين عشرات الآلاف من الصور الفوتوغرافية واللقطات المصورة والبرامج التلفزيونية والمقابلات المسجلة بالصوت والصورة، وذلك ما استطاع المخرج بدرجة مذهلة توفيره بجهود استغرقت سبع سنوات، قبل أن يصبح بوسعه إعادة صياغة السيناريو ثم القيام بالمونتاج.
ويعتمد المونتاج على المزج البديع بين الصور والأغاني الاحتجاجية التي شاعت في تلك الفترة، مع موسيقى وأغاني الأمريكيين السود، كما يتضمن الفيلم بعض الوثائق النادرة مثل الزيارة التي قامت بها الممثلة “جين فوندا” إلى الحركة وكانت من مؤيديها، والكلمة التي ألقاها الممثل الشهير “مارلون براندو” وكان في قمة شهرته في تجمع كبير لأعضاء الحركة، معلنا تضامنه معهم، كما توجد صور لهم مع الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.
ومن أهم ما يوثقه الفيلم المناظرة الشهيرة بين زعيمي الحركة “هيوي نيوتن” و”أولدرج كليفر” الذي كان قد فر من الاعتقال، ولجأ إلى الجزائر، وكيف انتهت إلى تبادل الاتهامات، وعلى إثر ذلك قام “نيوتن” بطرده وقيادات الحركة الـ21 من الحزب، وهنا كانت بداية رحلة السقوط.

إحياء الوعي الاجتماعي.. إعادة الاعتبار إلى الرجل الأسود
يحافظ المخرج على التوازن في الفيلم، رغم أنه يعتبر بوجه عام احتفاء بـ”الوعي الأسود”، وتأكيدا على فكرة أن الحركة استعادت الإحساس بالكرامة، وجعلت السود الأمريكيين ينهضون مجددا بعد قرون من السبات والاستكانة، ليشعروا بوجودهم وأهميتهم، ويفخروا بأصولهم، ويطالبوا بحقوقهم وحقوق أبنائهم كأي مواطن أمريكي.
فقد نجح المخرج في الاستعانة بشهادات عدد من المحامين وضباط الشرطة ورجال المباحث الفيدرالية والسياسيين والصحفيين والمؤرخين الذي عاصروا تلك الفترة، بالإضافة إلى شهادات كثير من أعضاء الحركة من الرجال والنساء من الأجنحة المختلفة.
يؤكد الفيلم على أن الجانب الاجتماعي للحركة هو الأهم، بعد أن نجحت في إعادة الاعتبار إلى الرجل الأسود في الولايات المتحدة، وكان الصراع الفكري هو ما أدى إلى سقوطها، وهو الصراع بين الجناح الذي كان يهتم بالنشاط الاجتماعي وسط تجمعات ومجتمعات السود، والجناح الآخر الذي كان يرى أن الحركة يجب أن توجه كل جهودها من أجل إسقاط الحكومة الأمريكية عن طريق الفعل الثوري.
كان ذلك هدفا طوباويا سرعان ما ثبت العجز عن الاقتراب من تحقيقه، خاصة بعد نجاح الاختراق الأمني وانفضاض التأييد الشعبي، وما بثه الإعلام من صور مشوهة، بعد أن كان قد انتفى استغلال الحركة كمادة إعلامية جذابة، ثم ما نشب من حروب اتخذت طابع الاشتباكات المسلحة في الشوارع بين جناحي الحركة، على غرار الاشتباكات بين عصابات تجار المخدرات.

تصدعات الداخل.. نهاية عنيفة وتسوية مع المباحث الفيدرالية
ينتهي الفيلم بلقطات ثابتة لقادة الحركة واحدا بعد الآخر، تظهر عليها معلومات تلخص مصائرهم كالآتي:
“هيوي نيوتن”: قتل في تبادل لإطلاق النار ذي صلة بالصراع بين عصابات المخدرات في شوارع أوكلاند عام 1989. “أولدريج كليفر”: عاد إلى المسيحية، وأصبح من مؤيدي الرئيس اليميني “رونالد ريغان” إلى أن توفي بنوبة قلبية عام 1998. “بوبي سيل”: ما زال يمارس نشاطه في صفوف أبناء الجالية في منطقة باي (الخليج)، ولكنه -كما يصرح المخرج- رفض الظهور في الفيلم.
وقد حصلت أسرة “فريد هامبتون” وكل ضحايا غارة الشرطة في شيكاغو 1969 على تعويضات مالية بلغت مليونا و850 ألف دولار كتسوية خارج المحكمة مع مكتب التحقيقات الفيدرالي، ولا يزال هناك أكثر من 20 عضوا من أعضاء الفهود السود في السجن.