سباق الفناء!
Published On 8/8/2016

قيس قاسم
بعد حصول فيلمه “الخليج” على جائزة “الأوسكار” لأحسن فيلم وثائقي طويل عام 2010 صار بمقدور مخرجه “لوي بسيهويوس” المضي في عمله الثاني Racing Extinction بذات الأسلوب الذي أثار وقتها جدلاً حول الحدود “المهنية” المرسومة للمخرج الوثائقي ومتى يمكنه تجاوزها دون إلحاق ضرر في مصداقية صنيعه.
واحدة من خصوصيات شغل “بيسهويوس” جمعه لدورين؛ الأول كناشط بيئوي والثاني كصحفي وسينمائي (عمل مصوراً في مجلة “ناشيونال جيوغرافيك” ثم انتقل إلى التلفزيون ومن بعده إلى السينما الوثائقية) وجد في السينما وسيلة إبداعية تساعده على كشف الحقائق وبها يمكن التنويه إلى المخاطر الجدّية التي تتعرّض لها كرتنا الأرضية، وكان لرصده واشتراكه المباشرة في كشف عمليات الإبادة السرية للدلافين في خليج “تاجي” وتواطؤ السلطات اليابانية مع صيادّيها أهمية كبيرة ودور في لفت أنظار العالم إليها.
في عمله الجديد “سباق الفناء” يتجاوز دوريه كمشارك وناشط بيئوي، يقف أمام الكاميرا مرة وكمخرج سينمائي يملك رؤية واضحة لما يريد توصيله يقف خلفها مرة أخرى، إلى دور جديد. دور العامل على إيقاف السباق الجنوني من خلال تقديمه مقاربات واقعية وعلمية قادرة على تغيير سلوكنا اللامبالي ونقله إلى مستوى المشاركة والتأثير، وسيجد كمخرج في جماليات السينما وما تكتنزه من قوة إبهار بصري معيناً في عملية تغيير الوعي المطلوب.
ينطلق “بسيهويوس” من حقيقة أن نقل عالم الحيوان أمام أبصارنا وبكل البهاء والجمال الذي يحيطه سيغير من نظرتنا إلى العالم المحيط بنا، وسيُشعرنا بالاقتراب منه أكثر. سنشعر وقتها بوجوده ونتعامل معه كجزء من وجودنا على نفس الكوكب.
نظرة فيها تجديد وتحديث لجماليات السينما في حقل الوثائقي الاستقصائي، حسب علمنا، ربما سيفتح تطبيقها العملي في فيلمه الأخير الباب واسعاً لمناقشتها وتعميقها مع أنها بدت شديدة الانسجام مع طبيعة الفن السابع كفن بصري في المقام الأول.
من شروط إبراز الجمال مرافقته بالقبح، وعبر المقارنة بينهما تتجلّى روعة كل جميل في الحياة. من هذه القاعدة الجمالية انطلق “سباق الفناء” لكشف مقدار القبح في سلوكنا البشري، وكم تكلف عمليات إشباع شهواتنا الحسية العالم المحيط بنا؟
يدخل فريق العمل كزوار لمطعم صيني في إحدى الولايات المتحدة الأمريكية ويطلبوا وجبة من لحم حوت. سجلت كاميراتهم السرية المخبئة بعناية عن أنظار خدم المطعم وأصحابه عملية إحضار لحم الحوت وبقية لحوم حيوانات مهددة بالانقراض.

بعد أيام من نشرهم الفيديو والصور في وسائل الإعلام خرجت مظاهرات احتجاج أمام المطعم ما اضطر صاحبه إلى إغلاقه بعد انتشار الفضيحة.
المشهد القصير كان عبارة عن بروفة أوليّة لفيلم سيظلّ طيلة زمنه (94 دقيقة) يجمع بين كشف المحظور وما فيه من قبح وبين أفعال تليه تسعى لاستبداله بالأحسن.
لعرض حجم التهديد الجدّي لأجناس من الحيوانات والكائنات الصغيرة المهددة بالانقراض يذهب صاحب الوثائقي إلى مراكز أبحاث علمية ومتاحف طبيعية دونت في سجلاتها عدد المنقرضة منها بالفعل والأخرى المنتظرة الانقراض على القائمة الطويلة.
حجم ما معروض مخيف لأننا سنواجه حقيقة جهلنا بما يجري ومحدودية تركيزنا على الحيوانات الكبيرة المهددة دون غيرها من الكائنات الصغيرة الحجم وغير المثيرة للانتباه مثل؛ أنواع من الطيور النادرة والعصافير الصغيرة والضفادع وغيرها الكثير.
لتبيّان الفرق بين ما تعرضت له الكرة الأرضية من إبادات شاملة يقدم الوثائقي وعبر رحلة إلى صحاري “غوبي” في منغوليا حيث بقايا آثار الديناصورات الموجودة فيها تشير إلى تعرّضها للفناء ضمن المرحلة الأخيرة من مراحل الإبادة الخمس التي تعرضت لها كرتنا الأرضية وكانت كل مسبباتها خارجية، أي لم يكن الإنسان ولا الحيوانات سبباً مباشراً فيها مثل، اصطدام الكواكب الخارجية بالأرض وسقوط النيازك فوقها أو بفعل الحرائق الشاملة والانقسامات الحادة في القشرة الأرضية واختلاف درجات الحرارة الدراماتيكية، لكن ما يوسم الموجة السادسة التي تُهدِّد وجودنا فهي من صنع الإنسان وحده!

في كل عام تفنى أنواع من الكائنات من بينها الحوت الأزرق، بوصفه أكبر الثدييات على الأرض. إلى جانب تصوير عمليات قتله البشعة بأشد الوسائل قسوة يسجل الوثائقي الأمريكي مشاهد طويلة من وجودها وجوانب من حياتها في أعماق البحار. رقصاتها الرشيقة مبعثها كما سيكشف الوثائقي أغنياتها. فالحيتان تغني لبعضها البعض وترقص، لكن يد الإنسان وبدلاً من معرفة خفايا هذا الجانب الجمالي فيها راح يدمرها وهي اليوم بالفعل على حافة الفناء.
في ذهابه إلى القارة الآسيوية وإلى دول من شرقها بعينها إنما أراد التوقف على حقيقة ارتباط إبادة أنواع كثيرة من الأسماك الكبيرة بتقاليد مطابخهم.
في “هونغ كونغ” تجري عملية إبادة لأنواع معينة من أسماك القرش، لانتزاعهم منها زعانفها وهي حية. يستخدمونها على نطاق واسع في صنع نوع من الحساء هو الأغلى من نوعه. لإثبات الحقيقة يدخل فريق العمل متنكراً بهيئة رجال أعمال أمريكان إلى متاجر متخصصة في بيعها وهناك صور آلاف من الزعانف المقطوعة في مخازنها.
بحر من الزعانف لا يكفي إشباع رغبة مستهلك أوهم نفسه بفائدتها القصوى ومنعها أمراضاً خطيرة مثل؛ السرطان وغيرها، لم تثبت الحقائق العلمية صحتها. سيعرض الوثائقي لقطات صورها لـ”طفل” سمكة قرش قطعت زعانفها ورميت في أعماق البحر. صور لحظة احتضارها وعجزها عن السباحة .. نقل مشهد موتها بدون زعانف أمام زوار مطاعم في تايلاند والصين طلبوا حساء الزعانف أنفرهم منها وقرر عدد كبير منهم عدم طلبها ثانية. فعل مؤثر يُقرنه صاحب الوثائقي وعلى طول الخط بمشاهد لجمال تلك الأسماك ليظهر من خلالها قساوة البشر وما هم فاعلوه بالأرض التي يعيشون عليها ومن خيراتها.
الجنون سيصل إلى منتهاه حين يعرض الوثائقي عمليات إبادة أنواع نادرة من سمك “الراي” تسمى بـ”سمكة الشيطان”. لا يأخذ صيادوها منها سوى خياشيمها أم لحمها فيرمونه لمرارة طعمه. يضع العلماء تلك الأسماك في قائمة الأحياء المنقرضة بالفعل لأن أعدادها بدأت بالتناقص وتقترب حالياً من الزوال لأن المتاجرة بها تدرّ الملايين على مصطاديها وبائعيها، فكيلو واحد من خياشيمها يصل سعره في الأسواق السوداء إلى آلاف الدولارات.
لهذا السبب تنشط الأسواق السوداء في الصين ولنفس السبب كان التخفي والتنكر واجباً على المشتركين في كشفه للعالم.
رغم ما تقوم به الحكومة من إجراءات لمنع إبادة أنواع من الأسماك مهمة بالإنقراض تجري وعلى نطاق واسع عمليات سرية لبيعها في أسواق تفتح لساعات قليلة وتحيط عملها اللاشرعي بسرية وحماية مشددة يسجلها الوثائقي ويعرضها كما هي.

لا تختصر مرحلة الفناء السادسة في عمليات الصيد غير الشرعي لأنواع محرمة من الأسماك وبقية الأحياء، بل تتعدّاها إلى عوامل أخرى من بينها ازدياد حموضة مياه البحار والمحيطات وزيادة نسب الانبعاث الحراري.
لا يقبل العلماء والناشطون البيئيون تفضيل عامل على آخر أثناء معالجة أخطارها الكارثية، لأنهم يجدون في كل الأسباب يكمن خطر فناء كوكبنا وبالتالي ينبغي أخذها كحزمة واحدة ومن هنا كانت مساهمة الوثائقي في زيارة منطقة “باسفيك نورثويست” مهمة لتقديم عينة دالة على ارتفاع حموضة مياه البحر وكيف تؤثر على نمو القواقع البحرية، بل إنها تدمرها بالكامل ومعها مساحات هائلة من الشعب المرجانية ما يؤثر مباشرة على مناخ الأرض وعلى سطحها النباتي الذي بدأ بالتقلص ولم يتبقَ منه إلا النصف!
لكونه ناشط بيئوي وصحافي يعرف أمثاله جيداً ويطلّع على مشاريعهم وأفكارهم لمنع كل ما يسهم في تدمير عالمنا ويحرم أجيالنا القادمة بالتنعم بجمال وخيرات الأرض، سيتواصل في وثائقيه الجامع والغني مع أصحاب مشاريع طموحة تقرن وتجمع العلم بالفن مثله تماماً.
من بين تلك المشاريع واحد يقترح عرض عمليات الإبادة على واجهات البنايات الكبيرة في كل مكان من العالم. قوة المنجز البصري لتلك الأعمال مذهلة وترتقي إلى مستوى جواهر بصرية شديدة الإقناع بمضامينها وانطلاقاً منها بدأ عمل مشترك بين الوثائقي وبين أصحاب المشروع الطموح والجميل. لكل جانب من المشكلة ولتغطيته اشتغل المشرفون عليه كثيراً. جمعوا صور ومشاهد مبهرة ربما لأول مرة يرى الناس مثلها على سطوح بنايات مدنهم العملاقة، قوتها تغني فكرته وتوضح ببساطة فكرة الفناء “البشري” القادم.
أخذ الوثائقي جانباً من المشروع البصري الطموح ليُغني به فكرة مشروعه الخاص الهادف إلى عرض الجميل إلى جانب القبيح، وعليه سيُقسِم أسلوبه الإخراجي إلى قسمين .. واحد سيتم إنجازه بأسلوب تعبيري ركز على تصوير الطبيعة وحركة الحيوانات والأحياء على مختلف أنواعها وسطها، بكل ما تحمل من روعة وجمال فيما ركز المستوى الثاني على كشف الأسرار واقتحام “الأسوار” العالية بجرأة تعرض خلالها بعض من شارك فيها إلى خطر كبير.
بجمعه بين الاستقصائي والجمالي يرتقي “سباق الفناء” إلى مستوى الوثائقيات المتنوعة الأساليب والتعابير البصرية وتضع صانعه بين أهم المخرجين المتمكنّين من موضوعاتهم والعارفين بأي الوسائل الفنية يقدمونها. أسلوب “لوي بسيهويوس” الإخراجي المتميز إلى جانب تدخله كطرف “منحاز” في كثير من تفاصيل الفيلم قد يمهد ربما لجولة نقاش جديدة حول أسلوب عمله وطريقة معالجته لموضوع خطير يهمّ البشرية جمعاء ويدعو إلى العمل سوية من أجل منع فناء كوكبنا الأرضي بأيادينا.