“الملك” والرئيس .. بين لقاءين
Published On 1/9/2016

أمير العمري
ليس مفهوما ما الذي دفع شركة “أمازون” إلى إنتاج فيلم “ألفيس ونيكسون” (2016) عن موضوع سبق إنتاجه في فيلم “ألفيس يقابل نيكسون” (1997)، خاصة وأن الفيلم القديم لم يكن ينقصه الخيال وكان يتميز بالحس الكوميدي المرح. أغلب الظن أن هناك اعتقادا ما في هوليوود بأن “أسطورة ألفيس بريسلي”، مازالت تستقطب اهتمام الملايين داخل الولايات المتحدة وخارجها.
كانت الصورة الفوتوغرافية الشهيرة التي التُقطت داخل المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض، التي يظهر فيها ألفيس بريسلي أشهر مغن في العالم الذي اشتُهر بلقب “الملك”، وريتشارد نيكسون أقوى رئيس لدولة في العالم، هي الدافع المباشر وراء صنع الفيلمين، فقد أصبحت هذه الصورة التي يقف فيها ألفيس إلى جانب نيكسون، أكثر الصور طلبا من بين ملايين الصور التي يحتويها الأرشيف الوطني الأمريكي.
مشاهدة الفيلمين تدفع المرء بالضرورة إلى عقد مقارنة، فكلاهما ينشد تحقيق ما يمكن أن نطلق عليه “الدوكيو- كوميديا”، وكلاهما يُمهِّد للمشهد الرئيسي الكبير، أي لقاء العملاقين في البيت الأبيض في ديسمبر 1970، قبل أيام من احتفالات أعياد الميلاد، باستعراض الحالة النفسية التي دفعت ألفيس بريسلي إلى الإقدام على ما أقدم عليه، أي طلب مقابلة الرئيس نيكسون. وليس معروفا حتى الآن الدافع الحقيقي وراء هذه الرغبة الغريبة، ولا ما كان يقصده ألفيس عندما طلب من الرئيس تعيينه عميلا سريا لإدارة مكافحة المخدرات في الولايات المتحدة، ومنحه صلاحيات كاملة في هذا المجال، بدعوى أنه يرغب في “إنقاذ أميركا”.
أرملة بريسلي (بريسيلا بريسلي) كشفت في مذكراتها فيما بعد، أن هدف ألفيس الحقيقي كان تسهيل تردده على بؤر المخدرات للحصول على كل ما يرغب منها دون إثارة الشبهات، وهو إدعاء تطغى عليه نزعة واضحة في التشويه بل والانتقام بسبب ما شاب علاقتهما من توتر لسنوات قبل طلاقهما عام 1973.
عن الفيلمين
لا يتمتع الفيلم الجديد “ألفيس ونيكسون” – إخراج ليزا جونسون – ببراءة ورونق وروح السخرية والمرح الكامنة في الفيلم القديم “ألفيس يقابل نيكسون” للمخرج آلان أركوش.
فالفيلم الجديد ينحو منحى تقليديا، يغلب عليه التصوير السطحي، تغيب عنه السياسة تماما، بينما يعتبر الفيلم القديم هجائية سياسية ساخرة لعصر نيكسون، فالفيلم يصوره كرجل وحيد منعزل، يعاني م�� البارانويا، يتطلع من خلف ستائر غرفة مكتبه في البيت الأبيض، إلى المظاهرات التي ينظمها في الخارج المناهضون لحرب فيتنام، ويدوِّن في دفتر صغير يحتفظ به في مكتبه، قائمة لأعدائه، على رأسها كما نرى، جين فوندا وبول نيومان.
مقدمة تسجيلية
يبدأ الفيلم بداية “تسجيلية”، توحي بأن ما سنشاهده هو القصة الحقيقية بتفاصيلها كما وقعت. يظهر رجل يخاطبنا مباشرة مُعلِّقا على الصور واللقطات التي نراها بأسلوب الجريدة السينمائية. ومن خلال لقطات من الأرشيف مصورّة بالأبيض والأسود نشاهد أولا صورا فوتوغرافية لألفيس بريسلي في شبابه، من عام 1952، وكيف أنه كما يصف المعلق – كان يصفف شعره على غرار ما يفعله ممثله المفضل توني كيرتس – كما كان يتبع أسلوبا في الغناء شبيها بأسلوب مغنيه المفضل، دين مارتن. وكلاهما من نجوم هوليوود التي كان ألفيس يتطلع لشقّ طريقه نحوها.
نشاهد بعد ذلك لقطات من الأرشيف لنيكسون في نفس العام، أي 1952، وهو يلقي خطبة في الترويج لنفسه باعتباره مرشحا كنائب لأيزنهاور وهو ما يحققه بالفعل، ثم ننتقل إلى عام 1955 لنرى ألفيس في لقطات نادرة وهو يغني للمرة الأولى أمام جمهور من الشباب يصرخ بجنون على نغمات ذلك الابتكار الجديد أي إيقاعات “الروك آند رول”، ثم انتقاله إلى عالم السينما.
وفي 1956 نرى نيكسون وهو يكافح لتبرئة اسمه من مزاعم بالفساد، ثم ننتقل إلى ألفيس وهو يعود عام 1960 من ألمانيا بعد أداء الخدمة العسكرية مع القوات الأمريكية الموجودة هناك، ثم ظهوره التليفزيوني الشهير مع فرانك سيناترا، ثم ننتقل إلى المناظرة التليفزيونية بين نيكسون وكنيدي وخسارة نيكسون الانتخابات، ثم مغادرته واشنطن إلى كاليفورنيا حيث سيبقى لمدة ثماني سنوات.

وفي 1962 يصبح ألفيس أيقونة ثقافية، ثم تظهر فرقة “البيتلز”، وتندلع حرب فيتنام، ويقود مارتن لوثر كنج حركة الحقوق المدنية، وكلها أحداث تمر في وثائق سينمائية مصورة، ونرى كيف يخسر نيسكون محاولته أن يصبح حاكما لولاية كاليفورنيا.
وفي 1968 يعود ألفيس إلى الأضواء مجددا بعد أن كان قد فقد بريقه مع اشتداد المنافسة مع البيتلز والرولنغ ستونز، ثم فوز نيكسون في الانتخابات ليصبح الرئيس الـ 37 للولايات المتحدة، واعدا ناخبيه بأن لديه سلاحا سريا سيجعل أميركا تنتصر في الحرب الفيتنامية، لكن الحرب تمتدّ لخمس سنوات أخرى.
تنتهي هذه المقدمة التسجيلية الممتعة بلقطة للبيت الأبيض والمُعلِّق يقول إنه في التاسع عشر من ديسمبر 1970 بدأت مقدمات ذلك اللقاء الغريب بين الرجلين اللذين مرّا بأطوار صعود وسقوط ، ونجحا في العودة إلى الأضواء مجددا.
مقارنات ضرورية
أما الفيلم الجديد فيبدأ بألفيس، يجلس بمفرده في قصره الفخم في ممفيس، يشاهد التليفزيون، يشعر بالسأم والغضب وهو يرى لقطات لمظاهرات الاحتجاج ضد حرب فيتنام، فيطلق الرصاص من مسدسه الأثير ليحطم جهاز التليفزيون.
في الفيلم القديم يفعل ألفيس ذلك وهو جالس وسط حشد من أصدقائه ومساعديه، على رأسهم صديقه الوحيد الذي سيظل معه حتى النهاية، “جيري شيللنغ”، الذي يحتل مساحة لا بأس بها من الفيلمين.
من هنا تبدأ رحلة ألفيس إلى لوس أنجليس ومنها إلى واشنطن وكيف يسافر للمرة الأولى بمفرده تماما وسط العامة من المسافرين، لافتا أنظار مئات المعجبين في المطار، وبعد ذلك على متن الطائرة، وكيف يطلب من المضيفة ورقة وقلما ويبدأ في كتابة رسالة إلى الرئيس نيكسون يطلب فيها طلبه الغريب، أي تعيينه عميلا لمكتب مكافحة المخدرات ولقاء مع الرئيس لكي يشرح رغبته في خدمة بلاده.
يتميز الجزء الأول من الفيلم القديم بالمرح والمشاهد المبتكرة. نشاهد مثلا كيف يحاول ألفيس استخدام جهاز في المطار لشراء إحدى زجاجات مشروبه المفضل (يفترض أنه الكوكاكولا لكن الفيلم يضع اسما مشابها لكي لا يبدو كأنه يقدم دعاية للشركة)، وكيف يفشل في إخراج الزجاجة فيضرب بقوة على الآلة بينما يتحلق حوله الفضوليون غير مصدقين، أما الفيلم الحديث فيختصر كثيرا في التفاصيل والأحداث خصوصا ما يتعلق بموضوع إصرار ألفيس على حمل مسدسه الشخصي معه إلى الطائرة وكيف يتدخل الأمن ليمنعه، فيغادر الطائرة ليهرع خلفه الطيار يرجوه أن يعود على مسؤوليته ويسمح له بالاحتفاظ بسلاحه معه، ثم كيف يكتب الخطاب الشهير إلى نيكسون وهو في الطائرة (في الفيلم الجديد لا نشاهد هذه التفصيلة بل نعرفها كمعلومة فقط فيما بعد ينقلها ألفيس لنيكسون).
في الفيلمين مشهد طريف لألفيس وهو يتوقف بالسيارة مع مساعده لكي يدخل أحد محلات الحلوى التي يحبها (دونونوتس) الذي يمتلئ بالسود الأمريكيين، ويكاد يتعرض لسرقة خواتمه وسلسلته الذهبية لولا أنه يلوح لهم بمسدسه ويتمكن من الخروج سالما. هذا المشهد مصور بأسلوب أكثر إثارة ومتعة في الفيلم القديم، وفي إسهاب واستطرادات وحوارات كثيرة تفقده إيقاعه في الفيلم الحديث.
يسهب الفيلم الجديد في تصوير مناقشات وخلافات مساعدي نيكسون بعد أن يتلقّوا رسالة بريسلي، ويجعلهم يضغطون على الرئيس ليقبل لقاء ألفيس، وهو يوافق بدافع التقاط صورة مع ألفيس يهديها لابنته المغرمة بالنجم الشهير، بينما يركز الفيلم القديم على مشاعر نيكسون نفسه، كيف تتصاعد حالة البارانويا لديه، وكيف يتشبث بهذه الزيارة المقترحة، يريد استخدامها لتحسين صورته أمام الشباب الذين يعارضون سياسته.

المشهد الرئيسي
لم يحضر أحد لقاء العملاقين، اللذين يتشابهان في الكثير من الأمور، رغم ما بينهما من تناقضات، فنيكسون رجل محافظ لا يلقي بالا لموسيقى الشباب الجديدة، أما ألفيس فهو يتصرف بطبيعية ويسمح لنفسه بأن يتبسط أمام الرئيس، ثم تدريجيا وفي غمرة شعور نيكسون (في الفيلم الأول) بالرغبة في الاقتراب من ضيفه الغريب، يأخذ في استعراض معرفته بنجوم الغناء من الماضي بل ويردد أغنية تقليدية يفاجأ بأن ألفيس يعرفها جيدا بل ويأخذ في غنائها معه. أما في الفيلم الحديث فيفقد هذا المشهد روح السخرية، ويركز أكثر على رغبة ألفيس في أن يصبح ممثلا سريا لمكتب مكافحة المخدرات.
يعلق نيكسون (في الفيلم الأول) على طريقة ألفيس في اختيار ملابسه السوداء الغريبة ومشغولاته الذهبية فيهمس له متسائلا قبل التقاط المصورين بعض الصور لهما: ألا ترى أن ملابسك غريبة بعض الشئ؟ فتأتي إجابة ألفيس البسيطة المكتوبة بعبقرية: حسنا سيدي الرئيس.. لديك استعراضك.. ولدي استعراضي You have your show and I got mine!
لا تثمر الزيارة عن تلبية مطلب ألفيس الذي يفشل كما سبق أن رأينا في الفيلم، في إقناع المسؤولين في مكتب مكافحة المخدرات ومكتب التحقيقات الفيدرالية، منحه “الشارة” الرسمية لعملاء المكتب، ليضمها إلى مجموعة الشارات التي حصل عليها من عدة ولايات، وهو لا يغفل أن يطلع الرئيس عليها بالطبع. ويقول له الرئيس إن أفضل هدية يمكنه أن يسديها للوطن هي أن يضرب مثالا جيدا للشباب من خلال أغانيه.
عن التمثيل
لاشك أن الجانب الأكثر أهمية في الفيلمين هو التمثيل. ولكن على حين يرتفع مستوى تمثيل كل من “ريك بيترز” (في دور بريسلي) وبوب غنتون (في دور نيكسون) في الفيلم الأول، يبدو أداء مايكل شانون باهتا في دور ألفيس، كما يصبح أداء كيفن سبايسي، آليا في دور نيكسون في الفيلم الجديد. والمشكلة ليست فقط أن شانون على العكس من بيترز، لا يشبه ألفيس بريسلي، بل إنه يبدو متقدما كثيرا في العمر، يحاول أن يستخدم نبرات صوت مفتعلة، كما يفتقد لخفة ظل بيترز ومرحه وتلقائيته مع الشعور بالأرق والتغير الحاد في المزاج في شخصية ألفيس بريسلي.
أما سبايسي فيبدو (بحكم حدود الدور في السيناريو) فاقدا للحماس، يؤدي بتكاسل وآلية، على العكس من أداء العملاق الفذ بوب غنتون الذي يتماهى مع الشخصية، يكشف عن نقاط الضعف والشعور الداخلي بالأرق مع مسحة من البارانويا والعنف اللفظي في تعامله مع مرؤوسيه، وكأنه يؤكد لنفسه أنه لايزال قويا، ويضارع أداؤه دور نيكسون في فيلم “ألفيس يقابل نيكسون” أداء فيليب بيكر هول (في مونولوجه الطويل الممتد لساعة ونصف في “شرف سري” لروبرت ألتمان”) (1984)، وفرانك لانجيلا في “فروست/ نيسكون” (2008)، كما يتفوق كثيرا على أنتوني هوبكنر في “نيكسون” (لأوليفر ستون) وعلى كيفن سبايسي في “ألفيس ونيكسون” (2016).