“إنشالله استفدت” !

 
قيس قاسم 
 
فيلم “إنشاللهاستفدت” تجربة المخرج الأردني محمود المسّاد الأولى في حقل الروائي، قبلها عرفناه مهتماً بالوثائقي وبارعاً فيه، حظت أعماله باهتمام المعنيين بالسينما ولاقت ترحيباً من الجمهور وتميزت بجودتها على المستوى الفني وبجمعها مناخات مختلفة تتسّق مع وضعه كسينمائي تعلّم وعاش في الخارج وظل مشدوداً لما يجري في العالم العربي وبلاده، انعكاس ذلك نجده واضحاً في “الشاطر حسن”. فيلم عن مُشرّد عربي في شوارع هولندا، التفت إليه “المساد” وراح يسجل تفاصيل حياته، وبمهارة لافتة تمكن من الوصول إلى أعماقه وكسر الحواجز، التي كان يحيط نفسه بها، فراح يبوح بتجربته أمام الكاميرا الذكية التي رافقته طويلاً، إلى أن تآلف معها وكشف لها برضا عن تراجيديته الشخصية، شديدة الصلة بالهم العام للمهاجر في أوروبا. 
من هناك انتقل وبما يشبه المفاجأة إلى مدينة الزرقاء في الأردن، ليسجل فيها مقاطع من تجربة أحد العائدين إليها بعد تجربة له مع منظمة إسلامية متشددة. عودته إلى حياته الأولى اكتنفتها صعوبات، اعتنى محمود المساد بتوثيقها ولاحق نتائجها النفسية والاجتماعية فكانت حصيلتها نصاً رائعاً أسماه؛ “إعادة خلق”. 
 
أدرك الأردني خلال دراسته وحياته في هولندا أهمية العناية بالتفاصيل الفنية؛ التصوير، الصوت، المونتاج وبقية المفردات، لهذا السبب امتازت أغلب أعماله بمستوى تقني لافت، كُثر للأسف من المخرجين العرب لم يُولّوها اهتماماً كافياً لأسباب مختلفة من بين أكثرها قوة؛ ضعف الميزانيات وصعوبة الحصول على الدعم، أما هو فلَّم يقبل التفريط بها، وعلى مستوى الكتابة فغالباً ما كان يتولى كتابة نص أفلامه بنفسه إلى جانب تدخله في مهمات أخرى وبهذا المعنى يمكن إدراج أفلامه ضمن فئة “سينما المؤلف” ولا يستثنى منها “هذه صورتي وأنا ميت” ولا روائيُّه الجديد “إنشالله استفدت” فهو من كَتَب نصه وقام بإخراجه وساعد في عملية المونتاج وفوق كل ذلك لعب فيه دور أحد أبطاله. 
 
 
يدخل “المسّاد” إلى واقع بلاده عبر شخصية “أحمد فراج” وكل شيء فيها يشي بأنها شخصية واقعية، تتحرك ضمن وسطها بعفوية وفيها لا مبالية محيرة، إلى جانب إخفائهاً روحاً ساخرة منحها خفة تتساوق مع قبولها بمآلاتها برضا ظاهري على الأقل. 
ففراج المقاول حُكم عليه بالحبس لمدة ثلاثة أشهر لعجزه عن استرجاع 1800 دينار أردني استلمها مقابل إتمامه مشروع بناء عائد لأحد الأشخاص، ولعدم إكماله العمل وتأخرُّه في استرجاع المال أُعدّ في نظر القانون متهرباً من السداد ومتحايلاً على الأفراد. 
بدخوله السجن سيجرّنا الفيلم إلى عالم القضاء والعدالة في الأردن. اختيار أثار فينا خوفاً في البدء من احتمال ذهابه بالكامل إلى أجواء “السجون”، وقد  تناولتها أفلام عربية وأجنبية كثيرة وما عادت تستهوي أجوائها المشاهد كما من قبل، غير أن الرهان كان على حذاقة وجدية مخرج ينشد التميز، فبعد دقائق قليلة من دخول “فراج” لذلك المكان/المجتمع صار واضحاً أنه أراده مدخلاً فحسب، يعرض من خلاله جوانب من أحوال البلاد وطبيعة العلاقات المحركة لها، وأن كل الكليشهات المعروفة عما يجري في السجون سيتُم تسطيحها، بل سيقوم بوعي باستبدالها بأخرى تفيض روحاً فكاهية، سوداوية وغرائبية لا صلة لها بعالم الإجرام التقليدي، لأن الأمر برمته كما سيأتي في سياق الأحداث يشير إلى وجود المشاكل المجتمعية خارج أسوارها، وهنا تكمن رؤية “المسّاد” لمجتمعه ومشكلاته وتميُّز نظرته النقدية لها ووعيه بأهمية رصدها دون خوف. 
مشكلة فراج كان يمكن حلها بسهولة لولا برزوها في مناخ غير سوي طغت عليه “الحيلة” والتلاعب وسادته علاقات نفعية ضيقة تنغص على الناس حياتهم وتدفعهم للتوافق معها وبهذا يدخل المجتمع بأكمله في “دائرة” فساد لا تنتهي.
 
الموظف والشرطي يرتشيان والمحامي والقريب يتلاعبان ويكذبان والعلاقات المتشنجة بين السجناء، باختلاف أسباب دخولهم إلى السجن، تعكس موضوعياً سوء العلاقات في الخارج، وأنسب عنوان لها؛ الأنانية وغياب التضامن المجتمعي. 
 
 
كيف قال هذا “إنشالله استفدت”؟ 
بالعودة إلى حبكة الفيلم، المتمحورة حول فراج وابن خاله، الذي ظلّ يماطل في مساعدته حتى أوصله إلى السجن. تظهر تطورات الأحداث أن العيب ليس فيه فحسب، فلحل مشكلة قريبه المقاول كان عليه استخراج مجموعة حواسيب استوردها من الخارج وكان يأمل في بيعها ليدفع المبلغ المطلوب، غير أن موظفاً وقف في طريقه، لأنه ببساطة أراد رشوة. أراد بالتحديد خروفاً بلدياً لا مستورداً.
سيتحول الخروف إلى كابوس يقضّ مضاجع فراج في سجنه ويدفع ابن خاله (الممثل عدي حجازي أبو الوفا) إلى الركض وراءه وستكون المشاهد “المتخيلة” حوله واحدة من أجمل مشاهد الفيلم وأكثرها إشباعاً بالفنتازية، في المقابل سيدخل اللص والمحتال إبراهيم (محمود المسّاد) على الخط ليستولي على الحواسيب بعد تحريرها من “سجنها” ويَحرم بذلك فراج من حريته. 
على خطوط حياة هؤلاء ستدخل شخصيات أخرى لا ينفصل سلوكها عنها بل يتوافق وبدرجات كبيرة معها، فيما سيأخذ رجال الأمن والقضاة حصّتهم من غنيمة اجتماعية/سياسية يعبر عنها الفيلم في تلميحات ذكية تبدأ من فصل “جماعة البورصة” والمتلاعبين بها عن بقية السجناء العاديين واستثمار المال السياسي للوصول إلى مقاعد البرلمان، لتكتمل حلقات سلسلة فساد تعلن عن خراب مجتمعي لا يريد كُثر الكشف عنه فيما يحاول المساد وعبر السينما الوصول اليه بأسلوب أراده أن يكون “تشيخوفياً” واقعياً.
فدخول فراج السجن وإتمام عملية “شيطنته” فيه لم يعطها منحناً كابوسياً كافكوياً، بل تعمدّه لاذعاً، فيه من العمق التسجيلي الكثير ومن الكوميديا السوداء ما يكفي لإبقاء مُشاهده مسترخياً يقبل تحولات أبطاله ويعاملها كـ”مسخرة” واقعية.
لجوء الفيلم إلى اللغة المحكية الأردنية منحه محلية عالية ولم يمنع من فهمه عربياً، بسبب اللغة السينمائية شديدة البساطة. الاقتصاد الإنتاجي لم يمنع من توفيره جمالية بصرية، لعب المصور اليوناني جورج مهينسي دوراً كبيراً في نقل أجواء السجن وخارجه بما يتوافق مع المراد تجسيده من أحداث والتعبير عن الحالة النفسية للأبطال وطبيعة علاقاتها فيما بينها. 
 
صحيح أن نسبة التصوير الداخلي أكثر من الخارجي إلا أن إبراز جمالية مشاهدها لا يقدر عليه إلا المصورين المهرة وتتوج عادة حلاوة شغلهم أكثر على أيدي أشباههم في المونتاج. 
 
يبقى سؤال حول مقدار جرعة السياسة في “إنشاللهاستفدت”؟  في عنوانه شيء منها. فكل ما استفاده المقاول البسيط من جراء دخوله السجن هو تعلمه فن التفريق بين السجناء. تحول الرجل اللامبالي المستسلم لقدره إلى “مُفَرق” يسد به ضعفه، وإذا استهوته اللعبة وحصل منها على ما لم يفلح في الحصول عليه خارج السجن قد يتشجع للعودة إليه ثانية، فيدخل بذلك “دورة الخراب”. 
 
 
من يتحمل ذلك دون شك كما يقول الفيلم؛ النظام القضائي برمته الذي سيوصل بدوره شخصيات منه إلى مناصب أهم مثل؛ محافظ أو أعلى، كما ظهر في مشهد سريع، وعلى مستوى أكبر يغدو قبول الشرطي للرشاوى مدخلاً لخروقات أعظم. 
 
توقفه عند علاقة المواطن الأردني “الهجينة” بالتقنيات الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي تثير الإعجاب. ستغوي فكرة التواصل عبر الإنترنت لمآرب “عاطفية”، الشرطي سالم لأخذ أحد الحواسيب المودعة عنده إلى بيته كي يفتح حساباً له على “فيس بوك”، وبتعرض بيته إلى عملية سطو وفقدان الحاسوب فيها يجلي جانباً من خيبة فكرة التواصل الخيالية المؤمل بها الهروب من بؤس الواقع إلى خارجه، وستكون نفسها تقريباً سبباً في إلقاء الشرطة على الحرامي إبراهيم.
 
أليست حقاً دورة لا تنتهي أراد أن يختمها الفيلم بلقطة تتضمّن مجموعة من المتهمين بتهديد “أمن الدولة” بنفس عربة نقل فراج إلى مركز استلامه بعد انتهاء فترة محكوميته.
لقطة مدعاة للسخرية يظهر فيها “السجناء الخطرين بملابسهم البرتقالية” وهم يفتحون بيسر قيودهم الحديدية ليتمكنوا من التدخين داخل العربة المحاطة بحراسة مشددة خارجها على الطريق العام.
قوة التعبير فيها تدعو إلى امتداح الطريقة الليّنة التي فكك الفيلم بها المشهد الاجتماعي/السياسي الملتبس وبها وصل إشارات دالّة على وجود فساد هيكيلي أكبر من السجن وسجانيه، ما يدفع للتفكير بحال البلاد ومصيرها. 
على مستوى ثانٍ ثمّة إشارات عن المرأة والموقف السلبي منها، عبرت عنه أحاديث السجناء واعتبارها سبباً وراء دخولهم السجن لا أعمالهم، فيما تمثل عند السجين “المر” (الممثل ماهر خماش) حلماً بعيد المنال لن يتحقق رغم كل تلاعبه واستغلال سلطة ماله داخل السجن.
 
قال “إنشاللهاستفدت” الكثير بطريقته الناعمة الساخرة ولم يتخلَ عن مسؤوليته الأخلاقية ووظيفته الاجتماعية ولكونه في النهاية فيلماً روائياً لابد من ذكر الدور الرائع الذي لعبه الممثل الهاوي المقاول الحقيقي أحمد ظاهر أحمد والألمعية التي خاض بها محمود المساد تجربته الإخراحية الأولى، المشجعة على المضي في محاولات أخرى، لأنه كما عرفناه مخرجاً مثابراً لا يعرف وسيلة أخرى يُوصل بها أفكاره ومواقفه من الحياة إلا السينما.   
 
 

إعلان