سوريا في “استعراض الحرب”

 
محمد موسى 
 
بعد أسابيع على العرض العالمي الأول للفيلم التسجيلي “300 ميل” للمخرج السوري عروة المقداد في مهرجان لوكارنو السينمائي، عُرض أخيراً فيلم المخرجة عبيدة زيتون “استعراض الحرب” (The War Show) في البرنامج التسجيلي الخاص بمهرجان تورنتو السينمائي، وقبل ذلك في الدورة الأخيرة لمهرجان فينسيا السينمائي التي اختتمت الأسبوع الماضي.
 
والفيلم هو إخراج مشترك مع الدنماركي أندرياس دالسجارد، والذي كانت مهمته انتقاء وتوليف مشاهد من مئات الساعات التي صورّتها “عبيدة” في بلدها، من بدايات انطلاق الثورة وحتى دخولها نفق الحركات الإسلامية المتطرفة، وانفجار العنف والوحشيات على نحو لم يكن يخطر حتى في كوابيس الذين خرجوا للشوارع في عام 2011 لإسقاط الدكتاتورية وبناء سورية جديدة.
 
تَصِل بعض الأفلام التسجيلية الحديثة عن سورية، مثل هذين الفيلمين الأخيرين القاسيين والشديدي التأثير، إلى الجمهور وهي مُغطاة بالدماء، ومُحملّة بالصرخات، والاستغاثات، والقنوط، والأحلام الموءودة. 
وتكشف هذه الأفلام عن تفاصيل مروِّعة لما يحدث في الداخل السوري، كما تربط على نحو لم يفعله الإعلام التقليدي مسار الأحداث العام بالحياة الشخصية للسوريين. وتعيد للضحايا الذين مرّوا كأرقام أو أسماء وجوههم وحيواتهم المسلوبة. تفتح هذه الأفلام أيضاً الجروح التي لم يتسنّ وقت لتطبيبها، وتعود إلى بشارات الثورة الأولى قبل أن يتم اختطافها من تجار الدم والدول الكبرى، وتشكل بوتريهات جماعية لسوريين لم نعرفهم من قبل، ولن يكون من السهل أبداً نسيانهم بعد مشاهدة هذه الأعمال.
 
تَركت “عبيدة” عملها كمذيعة ناجحة في إحدى محطات الراديو السورية الخاصة مع بدايات الثورة في بلدها، وستبدأ بعدها بحزم فريد تسجيل ما تستطيع من يوميات الثورة في بلدها. بكاميرات مختلفة الجودة لكن دائماً برؤية ثاقبة ونقدية لما يجري حولها، وبحث عن نماذج سورية ثرّية وحقيقية، تبدأ الشابة السورية رحلة سنوات من العمل، أوصلتها إلى خطوط النار مرارا،ً وتنقلت فيها من الزبداني، المدينة الصغيرة في ريف الشام التي ولدت فيها، إلى مهد الثورة في “حمص”، وحتى المواجهة الأولى مع جبهة النصرة، والتي ستؤذن بخاتمة الرحلة التوثيقية لـ “عبيدة”، التي لم يعد لها، وهي المرأة الملتزمة إلى حدود القدسية بحريتها الشخصية، مكاناً في بعض مناطق البلد من التي يحاسب ناسها النساء على لباسهن.
يبدأ الفيلم من البدايات، بدايات الثورة والأحلام، وهي الفترة التي كانت شديدة الخطورة على الإعلاميين المعارضين، عندما كان حمل الكاميرا يعني مجازفة مجنونة، ذلك أن السلطات النظامية السورية كانت تتقصد الذين يحملون الكاميرات بالتحديد، لوقف تدفق صور الاحتجاجات السلميّة إلى الإعلام. 
 
 
في تلك الأشهر قطعت “عبيدة” صلاتها بحياتها القديمة وبدأت بقضاء أوقات طويلة مع مجموعة أصدقائها المقربين، والذين سنشاهد عبر زمن الفيلم التسجيلي كيف انتهى معظمهم في ميتات تقشعر لها الأبدان. في مشاهد ذلك الجزء من الفيلم، كانت “عبيدة” تتساءل عن مواقف أصدقائها من الثورة من التغييرات القائمة، إذ إن بعضهم وقف مع الثورة منذ البدايات، فيما تردد البعض الآخر حيال ما تخبئه الأيام إذا تفجرت الاحتجاجات.
 
تُوثق المخرجة مسار الثورة، وهذا الأخير سيأخذها إلى وجهات جغرافية ونفسية غير متوقعّة، في موازاة ذلك، تسجل الشابة السورية يوميات مجموعة من أصدقائها، والتي ستتخلّلها رغم نذر العنف في الخارج أيام صفاء وحب وضحكات مُجلجلة أحياناً، هذه الموازنة في النصف الأول من الفيلم، والبوتريهات الحميمية التي قدّمها لشخصياته، سيجعل فعل المشاهدة للنصف الآخر من الفيلم شديد الصعوبة، وخاصة بعد أن يتكشف كيف انتهت تلك الوجوه الشابة المليئة بالطاقة والحياة.
يتركب الفيلم من تيمات تعكس مراحل الثورة السورية، وتجعل انتقال الفيلم بين فترات زمنية مختلفة ومتقلّبة سهلا وتلقائيا، ومواقع جغرافية ستأخذ المخرجة بعيداً عن العاصمة التي عاشت فيها، وتقربها من قلب الثورة، وعندما انحرفت الأخيرة، لم تجد المخرجة إلا المنفى مكاناً لحياتها الجديدة.
 
يقوم المخرج الدنماركي بتركيب المادة الأرشيفية التي صورتها “عبيدة”، ووضعها في بنية تشويقية ترتكز في بعض منها على تتبُّع مصائر شخصيات كانت في قلب الحدث العام، وليستخلص من المادة المصورة الضخمة، شهادة تاريخية شديدة الأهمية لامرأة سورية كانت قريبة من بعض التحولات الكبيرة التي شهدتها الثورة في بلدها أو أصداء تلك التحولات. 
 
وبقدر أهمية الفيلم بسبب قربه من الثورة والفترة الزمنية التي غطّاها، إلا أن هناك مستوى آخر للفيلم لا يقل أهمية، يتمثل بالإطلالة التي وفرّها على حياة سوريين وافقوا على الحديث للإعلامية الشابة. تخرج الكلمات من قلوب معظم الذين تحدّثوا في الفيلم بلا عثرات، وكأن الخوف الذي لازمهم حياتهم كلها فارقهم فجأة. لكن المخرجين ولاعتبارات أمنية وأخلاقية، سيغطيان وجوه كثير من الذين ظهروا في الفيلم، عدا أولئك الذين لم يعودوا في هذه الحياة، أو الذين تركوا سورية إلى المنفى.
 
 
من الشهادة الأولى في الفيلم، والتي كانت لفتاة سورية في العاشرة من عمرها رفضت أن تغطي وجهها، بدا أننا أمام عمل تسجيلي مختلف. بعنيين واسعتين سوداوين ستتحدث الفتاة اليافعة تلك عن الموت الذي تتمناه، ليس الموت من أجل الوطن ذلك الذي كانت تقصده الفتاة، بل الموت الذي ينهي حياتها التي لم تبدأ بعد وينهي معه كل هذه العذابات حسب قولها. من تلك الشهادة التي تفطر القلوب سيبدأ الفيلم الذي لم يضيع هدفه بإبراز الأثمان الإنسانية التي تسفح في سورية. 
من الشهادات التي تكشف الكثير أيضاً، كانت واحدة لطفل أفقده العنف من حوله صوابه. والذي كان يتحدث عن عمه الذي كانت جنازته تشييع في خلفية المشهد الذي صورته المخرجة. ويولِّي الفيلم مساحة مهمة للأطفال، فيكشف عن الجراح الجسدية التي خلّفتها الحرب في بعضهم، وفي مشاهد مخيفة، تسجل المخرجة جلسة عائلية، يقوم الطفل فيها، والذي لا يتعدّى الخامسة بحمل السلاح الناري كلعبة، ويفككه مثل البالغين.
 
وعلى الرغم من وحشية الحرب الدائرة واتساع دائرة العنف وزيادة غموض المشهد الأمني، تواصل “عبيدة” تنقلّها بين المناطق السورية، لتصوِّر حينا معارك فعلية دائرة، وأحياناً أخرى لحظات هدوء يلتقط فيها المحاربون أنفاسهم ويعدّون خساراتهم. في سلسلة من المشاهد السريعة يتنقل الفيلم بين مشاهد ساكنة تقترب من الصور الفوتغرافية لبعض المجموعات العديدة التي تشكل مشهد الحرب السورية اليوم والذين وافقوا أن يقفوا أمام كاميرا المخرجة. 
تلقى المخرجة في البدايات الترحيب من أبناء بلدها، لكن مساحات الحرية ستتضاءل مع صعود نفوذ الحركات الإسلامية المتطرفة، وستقع المواجهة الأولى بينهم وبين المخرجة، والتي نقلها الفيلم في مشاهد صادمة، فأثناء تواجد المخرجة مع رفيقتها في مدينة سورية صغيرة، هجمت مجموعة من جيش النصرة على البيت الذي كان يستضيف المخرجة، وطلب منها المغادرة لأنها لم تكن ترتدي الحجاب.
 
تتجسّد الأزمة الأصلية السورية، أيّ الصراع بين نظام مستبد متوحش والسوريين، في الذي تعرض له أصدقاء المخرجة المقرّبون، والذين سنتعرف عليهم في بداية الفيلم. هم من الطبقة المتعلمة الشابة التي ألهمها الربيع العربي وقربهم من المواجهة مع الدكتاتورية التي تطبق على مصير البلد. سيقتل ثلاثة شباب من المجموعة، منهم من أصابته طلقة ستقتلع قطعة من جبهته، وستحاول أخته الهلعة التي كانت معه في السيارة وقت الحادث، إعادة تلك القطعة إلى وجه أخيها علّها تعيد الحياة إليه. وواحد منهم سيكتشف ما حدث له بعد اعتقاله، بعد تسرُّب صور لمعدومين من أحد سجون النظام السوري، وستتعرف عليه صديقته عن طريق الشامة التي على أنفه والكنزة التي كان يرتديها يوم اعتقاله.
 
يُهدهد صوت المخرجة المشاهد وهي تأخذه عبر الفاجعة السورية، وستقوده عبر تعليقات صوتية باللغة العربية تقترب من تخوم الشعر عبر أهوال ماحدث في بلدها. لا شيء مما أنتج عن الأزمة السورية من أفلام أو تحقيقات يقترب من قوة أو حميمية هذه التحفة التسجيلية، وقلة فقط غامروا بحياتهم من أجل توثيق ما يحدث في سورية، مثلما فعلت عبيدة زيتون، والتي ستتحدث في نهاية فيلمها عن نهاية “سوريا” كما يعرفها العالم، لكن فيلمها ومثل حال فيلم “300 ميل”، يبثّ رسائل لا تفسر تفتح أبواب الأمل بولادة جديدة قادمة للبلد المنكوب.