الجانب الصدىء للميدالية

 
قيس قاسم
 
لم تنتشر ظاهرة تناول المنشطات بين الرياضيين، منذ تنظيم الإنسان لأولى المسابقاتالتنافسية، كما هي منتشرة اليوم، ما استدعى بالضرورة وقفة وثائقية متأنية عندها، تعاينها وتحللها من منظور سينمائي. وإذا لم يُكتب للمُخرجين “خافير ديلو ويوناثان كيلرمان”، السبق في التصدي للمهمة، فلهما على الأقل وسام التميَّز في الإحاطة بها وعدم إغفال أي جانب منها، فجاء لهذا منجزهما “جانب آخر للميدالية” عميقاً وجريئاً اقتحم “غيتوهات” محصنة بقوة المال والشهرة.
 
كشف الوثائقي الفرنسي الجانب الصدىء من الميداليات “الثمينة” الممنوحة للفائزين في المسابقات الرياضية بقوة ما يملك؛ الوثيقة/الصورة والشهادة/الاعتراف، الآتية من بعض المتورطين فيها، مستنداً في تحليلها على آراء العارفين خفاياها والجادين في الحد منها، بل ومحاربتها بكل السبل بوصفها ظاهرة تُسيء إلى روح الرياضة وتدمرها كما تدمر متناوليها في نهاية المطاف، ومن هنا اكتسب فيلمهما طابع التحري والكشف إلى جانب إبرازه النجاحات والإيجابيات المتحققة لمكافحتها، لكنه حرص في الوقت نفسه على ملاحقة مصائر “الأبطال” المنسحبين منها والخاسرين بسبب تحليهم بالشجاعة الكثير من امتيازاتها المُغوية، مثل بطلة ركض 800 متر الروسية “جوليا ستيبانوفا”، التي رافقها الوثائقي طويلاً وسجل تجربتها في تناول المنشطات في بلد عُرف باستخدامه الرياضة سلاحاً سياسياً بامتياز وجعل من الفوز بالميداليات “الذهبية” غاية نهائية لا تعبيراً لتنافس شريف كما تقر مباديء الألعاب الأولمبية ودساتيرها.
 
 
وزعَ صناعه زمن وثائقيهم على عدة محطات. بدأت بالعداءة الروسية وانتهت بها، لاجئة في إحدى القرى الكندية مع عائلتها، بعد هروبها خوفاً من انتقام مخابرات بلدها منها، ماراً بمختبرات ومستشفيات لها علاقة مباشرة بالمنشطات ومتابعاً في أخرى أكثر الألعاب الرياضية تنتشر بين صفوف محترفيها عادة تناول العقاقير المنشطة، فيما دقق في غيرها دور الاتحادات والمنظمات الرياضية الدولية وتورط قسم منها في أعمال تتعارض مع وظيفتها كمدافعة عن القيم الرياضية ومانعة للخروقات التي تؤذي سمعتها. حجم المساحة المتحرك فوقها الوثائقي استلزمت منه استعداد كبيراً على المستوى التقني وبخاصة في جانب المنتجة، أما الأسلوب الاخراجي فكان “تقليدياً” فرضته صرامة القواعد العلمية التي أحاطت الكثير من جوانبه وأيضاً طبيعة صورته المعتمدة على الفيديو التلفزيوني والأشرطة السينمائية القديمة المحفوظة إلى جانب المشاهد الرياضية المتعلقة بكل تفصيل من بحثه المشوق أما جمالياته فكانت من جماليات مشاهد السباقات والمتسابقين وحصافة نصه الحكائي من عمق تحليل العلماء والأطباء والمشاركين على اختلاف مستوياتهم.
 
تهز “اعترافات” العداءة الروسية عام 2014 الصورة العامة المبهرة المأخوذة عن أصحاب الميداليات الرياضية والأرقام العالمية القياسية، لأن قسما منهم حصل عليها، حسب شهادتها بالغش، لا بجهدهم الذاتي بل بسبب تناولهم عقاقير طبية زادت من قوتهم ومن قدرات تحملهم. تجربتها ليست الأولى وبلدها ليس الوحيد، الذي يتستر على المنشطات وشجعها. حديثها كان مفتتحاً جيداً، استغله الوثائقي للدخول منه إلى عالم متشعب، واسع يلعب فيه المال دوراً مهماً ومؤثراً، يكفي ذكر رقم واحد منه لفهم دوره. فاللاعب المحترف كان يدفع أحياناً مائة ألف دولار ثمناً للعقار المنشط. ولعلاقة الأرقام القياسية بالشعور القومي والروح الوطنية يلتبس المشهد، فأغلبية الناس لايهمهم ما يتعاطاه الرياضي من أدوية وعقاقير محظورة بقدر اهتمامهم بنيل بطلهم المدالية أو فريقهم القومي البطولة، أما على مستوى المراقبة فيغدو الأمر أصعب. فمع تطور العلوم والمعارف الطبية والصيدلانية، وقدرة الخبراء المختصين على إنتاج مواد جديدة يصعب على الفحص المختبري الروتيني اكتشافها، ما يشجع على الاستمرار بها، أما على الصعيد الربحي فتمثل “تجارة” المنشطات واحدة من أكبر القطاعات حيوية، حيث تصل أرباحها سنوياً إلى ما يزيد عن 30 مليار يورو سنوياً!.
 
 
واحدة من العقد المتعلقة بالتطور الحاصل في الألعاب الرياضية عموماً هو حجم الأرباح والمداخيل الخرافية للاعبين، وبالتالي يصبح مغرياً للكثير منهم الحصول على الألقاب أو الوصول إلى نواد كبيرة كما في كرة القدم. الشهرة والمال من أكثر العوامل المشجعة على المنشطات وتجربة رامي القرص الفرنسي “كونتان بيغو” تعطي صورة واضحة لمشاهد الوثائقي عن المغريات التي دفعته لتناول المنشطات بعد تعرضه للإصابة. كان عليه التعافي منها سريعاً والمشاركة في أولمبياد لندن ولم يكن هناك طريق أقصر لتحقيق الهدفين سوى تناول المنشطات لمساعدته على تسريع عملية الشفاء من إصابته وتعويضه عن التأخير الناتج عنها. سينضم الشاب الفرنسي إلى قائمة الشجعان الذين كشفوا خفاياها وأسرارها. أثار بكشفه تواطؤ الاتحادات الرياضية المحلية مع المدربين والأطباء والتستر على ترتيبات حقن الرياضيين بالمنشطات وبشكل ممنهج فضيحة أخلاقية فتحت ملف المنشطات علناً. 
 
الاتحادات الرياضية الوطنية من أكبر المعضلات التي تواجه مكافحي الظاهرة. فبمنح الاتحاد العالمي لمكافحة المنشطات صلاحيات التدقيق وحق القيام بعمليات التفتيش لها حصرياً أصبحت هي؛ الجاني والحكم. تحكم وتخضع في ذات الوقت لإرادة حكوماتها، والحالة الروسية تستحق كما يقترح الوثائقي التوقف عندها. لقد سيَّست الدولة الاتحاد الروسي وهددت الخارجين عن ضوابطه بأشد العقوبات. تجربة العداءة الروسية في “فضيحة المنشطات الروسية” أدت بشكل غير مباشر إلى مقتل اثنين من أعضاء اللجنة الوطنية بسبب تسريبهم معلومات للصحافة في الخارج عن عمليات الغش الممنهجة التي تقوم بها الحكومة. ثمن ما قاما به كان مقتلهما في ظروف غامضة!. 
 
يراجع الوثائقي تاريخ مكافحة المنشطات من خلال العودة إلى عام 1999، حين وضعت منظمة “ووادا” تعريفاً واضحاً لمفهوم “المنشطات”، وتوج عملها عام 2005 ب”وثيقة منظمة اليونسكو ضد المنشطات” التي أقرتها 191 دولة، وإن لم تُحسم المعركة وظلت المشكلة قائمة بسبب تكليفها الاتحادات الوطنية مهمة مكافحتها، إلا أنها اشترطت قيام الجهات المنظمة للبطولات العالمية بإجراء عمليات الفحص الطبي والمختبري أثناء انعقاد البطولة وكانت تجربة أولمبياد بكين عام 2008 ناجحة إلى حد كبير لولا المال؟. لقد أُجبر المتسابقون على الخضوع لفحوصات البول والدم تحت مراقبة وإشراف مراقبين منها، ما أخاف المتسابقين من أخذ منشطات خلال البطولة أو قبلها بمدة قصيرة، لكن في المقابل ومثل كل دولة منظمة أحاطت عملها بسرية وكان يهمها أن تظهر دورتها “نظيفة” وحسب المحللين الاقتصاديين فأن المبالغ المتحصلة من حقوق البث التلفزيوني الحصري للبطولة تدفع كل دولة راعية للظهور بالمظهر الجيد، فالمليارات الداخلة في جيوبها تجعل من عملية الكشف علناً عن المنشطات أمراً صعباً. 
 
 
لا يحيط الوثائقي مصداقية بعض منظمي الدورات وحدهم بهالة من الشكوك، بل دولاً بعينها. فجامايكا مثلاً تعد “جنة” للمتنشطين لأن قوانينها لا تُخضع الرياضيين للفحص الإلزامي واتحادها لمكافحة المنشطات غير مستقل ولا يلزم نفسه بتقديم تقاريره إلى الاتحاد الدولي وبالتالي فكل رياضي يحلم بالمال والشهرة يتمنى التدريب على أراضيها وأخذ ما يريد من منشطات قبل مشاركته في البطولات العالمية وبهذا المعنى يغمز صناع الفيلم بقناة العداء الجامايكي الأسطورة “يوسين بولت” ويحيط نتائجه بهالة من الشكوك غير المؤكدة حتى الآن على الأقل. 
 
ضعف الرقابة الإدارية على الاتحادات الوطنية دفع العلماء للبحث عن أساليب علمية جديدة تمكنهم من مراقبة الرياضي المتوج عبر الرجوع إلى تاريخه الطبي وبعد حصوله على الميدالية بفترة. عملية معقدة أطلقوا عليها اسم “الجواز البيولوجي”. يتوقف الوثائقي عندها مطولاً، كونها تسمح للمفتشين بالعودة إلى فحص العينات المأخوذة من دم أو بول الرياضي بعد عدة سنوات من حصوله على اللقب، وذلك تعويضاً عن عجز العلم حالياً عن كشف بعض أنواع العقاقير. فكل يوم يتعرف العلماء على مواد كيمياوية تدخل في تركيبة العقاقير المنشطة لم يتعرفوا عليها من قبل، وبالتالي تركوا لأنفسهم مساحة يمكنهم مع التطور اللاحق للعلوم من مراجعة العينات وفضح ما فاتهم فضحه وقتها. يقدم الوثائقي عينات لبعض من تجاربهم الناجحة من بينها؛ حالة العداءة الروسية “يوليا زاريبوفا”، التي سحبوا منها ميدالية ركض 3000 متر حواجز لاكتشافهم مواد محظورة ظلت موجودة في دمها وتم التعرف عليها بعد 6 أشهر من نيلها اللقب. 
 
أما فيما يتعلق بنوع الرياضة وحجم انتشار المنشطات فيها فيجول الوثائقي عوالم متعددة ويتأمل المشهد الكروي المبعد نسبياً عن التهم مع تأكيدات العلماء على احتمال تناول المبرزين فيه منشطات من أنواع معينة تدخل في خانة أدوية “بناء الأنسجة” المستخدمة في علاج الاصابات. لعودة لاعب الكرة سريعاً إلى الملاعب يعالج غالباً بخلايا جذعية تعجل شفاءه، وحولها يجري جدل، لكن المؤكد أن تسامحاً شعبياً كبيراً مع لاعبيها يمكن ملاحظته بسرعة، فعدا حالة “ماردونا” النادرة كان الصمت طاغياً على هذا الجانب ولهذا يريد المحاربون توسيع عملهم  في قطاعات رياضية واسعة، غير معروفة بكثرة الغش فيها مثل؛ الدراجات الهوائية والجري والبيسبول والتنس وكرة القدم الأمريكية، ويتمنون تعاون الجهات الرياضية لمكافحة آفة بدلاً من أن تكون لهم عوناً لتحقيق مجدهم وشهرتهم كانت عليهم وباءَ، أما الشجعان منهم فقد تعرضوا لمشاكل وصعوبات بعد تركها وفضح آلياتها حاول الوثائقي الاعتناء بها وتقديمها كفعل محفز لبقية الرياضيين كي يتجنبوا المنشطات وعواقبها المدمرة!. 
 

إعلان