“الرائعون السبعة” .. تقليد باهت

 
الساموراي السبعة في فيلم كوروساوا
 
محمد رُضــا
مع قيام المخرج الأفرو-أميركي أنطوان فوكوا بإعادة صنع فيلم «السبعة الرائعون» (The Magnificent Seven) وبدء عرضه في الصالات هذه الأيام بعد أن تم افتتاح مهرجان تورنتو به في الثامن من هذا الشهر (أيلول/ سبتمبر). يلحّ السؤال حول السبب الذي من أجله تم لهوليوود إنتاج هذا الفيلم عدّة مرات من العام 1960 وحتى اليوم؟ ما هي المزايا الخاصة التي تجعل منه محطّ اهتمام سائد؟ ما هي خصائص حكاية تتعلق بسبعة مقاتلين مأجورين يرضون بالدفاع عن قرية تطلب النجدة من عصابة تغير عليها لتقتل وتسرق؟
 
دراما عالمية
الإجابات على هذه الأسئلة لن نجدها محصورة في ستة أفلام رئيسية تم لهوليوود تحقيقها، بل في الفيلم – الأب الذي ابتكره المخرج الياباني أكيرا كوروساوا سنة 1956 والذي استندت إليه كل تلك النسخ اللاحقة. هذا ما يوسِّع إطار الأسئلة لتشمل الاختلافات بين الأصل وباقي النسخ ثم بين كل نسخة وأخرى. هل هي القيمة الإنسانية وحدها؟ هل المضمون البطولي هو المعني أولاً؟ أم أن المسألة هي مجرد إعجاب وتقدير لفيلم اعتبره بعض النقاد الغربيين أول فيلم أكشن معاصر؟
عندما قام المخرج الفذ أكيرا كوروساوا بتحقيق «الساموراي السبعة» (Seven Samurai) سنة 1954 كانت سمعته كأحد أهم مخرجي السينما اليابانية في تلك الفترة قد انتشرت حول العالم. في العام 1948 أنجز «الملاك السكير» وبعد عامين فيلمه المشهود Rashomon ثم اقتباسه الأدبي «الأحمق» عن رواية فيودور دستويفسكي. تبع هذا على الفور بفيلمه الإنساني المبهر Ikiru. 
 
هذه الأفلام (وهناك أخرى خلال هذه الحقبة) وضعته على المنصّـة الدولية كفنان يُحتفى به. لكن « الساموراي السبعة » (بعد عامين من «الأحمق») كان له منذ البداية وضع خاص: إنه ليس فيلم مهرجانات أوروبية فقط كحال أفلامه السابقة تلك، بل فيلم يمتلك المقوّمات الفنية ذاتها مصورة في فيلم يستطيع الوصول إلى القاعدة البشرية في كل مجتمع من دون أن يتنازل عن مكانته الفنية مطلقاً.
« الساموراي السبعة» كان العمل الذي لابد سيعجب الناقد والسينمائي كما المشاهد في صالة بريطانية أو برازيلية أو روسية. وهو بالتأكيد فعل ذلك وتبلور كأحد أفضل أفلام المخرج المعروف. وحسب إحصاءات آراء كأشهر فيلم ياباني لدى البعض وأفضلها لدى البعض الآخر.
 
الحكاية موضوعة خصيصاً للسينما. فكرة كوروساوا كانت، في البداية، تقديم محارب ساموراي واحد ينتحر في نهاية الفيلم بعدما ارتكب خطأ في حق «سيّـده». هذه الحكاية كتبت كيوم واحد في حياة ذلك الساموراي، لكن كوروساوا لم يقتنع بالسيناريو حين انتهى منه. بحث مع كاتبه شينوبو هاشيموتو (كتبا معاً «إكيرو» و«راشومون» بين أفلام أخرى) حكاية تشمل خمسة مشاهد من معارك خمسة محاربين ساموراي على نحو منفصل. لكن كوروساوا وجد أن هذه الفكرة لا صلب لها أو وحدة فعلية وأن ذرواتها الخمس (معركة كبيرة لكل محارب) غير مقنعة بالنسبة إليه. 
عند هذه النقطة تقدّم منه المنتج سوجيرو ماتوكي بفكرة مفادها أن المنتج قرأ أن بعض الساموراي كان في الزمن القديم (القرن السابع عشر) يهبّـون لنجدة قرى ومجتمعات إذا ما كانت تعاني من غزو العصابات لها. هذه هي النواة التي ألهبت مخيلة المخرج وكاتبه وانصرفا لها. وبينما كان هاشيموتو يكتب السيناريو، انصرف كوروساوا لكتابة ملف لكل من الشخصيات السبعة التي ستقود البطولة، بكل التفاصيل من خلفيات وسلوكيات وصولاً إلى الملابس التي سيرتدونها.
 
أكيرا كوروساوا خلال التصوير
 
دقة التفاصيل
رغم كل ذلك، هناك الشيء الإضافي الذي فاق العناية الفنية الفائقة الموزّعة على تلك الشخصيات. الحكاية ذاتها ملهمة: قرية تعاني من ظلم عصابة كبيرة تغير عليها في كل موسم حصاد قمح وتسلبها المحصول وتهدد سلامة شيوخها وبناتها. تحتار القرية ما تفعل إلى أن ينصحها كبيرها بالبحث عن ساموراي بلا عمل يدافع عنها. ليس أي ساموراي، بل ساموراي بلا سيد (هذا يسمونه “رونين”). بالبحث يهتدي بعض رجال القرية إلى كامباي (تاكيشي شيمورا) ويطلبون منه الدفاع عن قريتهم مقابل توفير الطعام. ينضم إليه كاتسوشيرو (إيساو كيمورا) وشيشيرويجي (ديزوكي يوشيو) وغوروباي (يوشيو إينابا) وهيشاشي (مينورو شايكي) وكيوزو (سيجي مياغوشي) وكيكوشيو (توشيرو مفيوني).
 
بنزوح هؤلاء السبعة إلى القرية ودراسة وضعها الجغرافي تبدأ عملية إعداد الأهالي المرتعدين خوفاً للمشاركة في الدفاع عن قريتهم. الخوف ليس من العصابة فقط، بل من الساموراي الذين قد يعتدون (في مفهوم أهل القرية) على بناتهم. كوروساوا يمضي وقتاً ثميناً في تصوير هذه المواقف والعناية بدوافعها ليقدم في النتيجة بعض المترددين والمشككين في مقابل الغالبية التي ستبذل كل جهدها لمؤازرة الساموراي السبعة.
 
هناك مناوشات ثم هجوم كبير في يوم ممطر على القرية. يصد الهجوم الدفاعات المدروسة التي أحكمها كامباي والسيوف والرماح والنبال التي بحوزة الجميع. المطر والوحل والإنهاك من الرحى يتابعه المخرج محوّلاً الشاشة إلى رصد واقعي يحتفي بالبطولة والشجاعة لكنه لا يحوّل أيا من شخصياته تلك إلى بطولة خارقة لا يمكن تصديق أفعالها.
هناك دقّـة في التفاصيل. توليف فاعل يرفع من درجة التشويق من دون أن يتحوّل الإيقاع إلى غاية بحد ذاتها. ثم هناك التمثيل وكيف سبر المخرج غور كل شخصية على نحو يوقع كل مشاهد، من أي ثقافة كانت، في حبها.
 
إلى هذا، من المهم ملاحظة أنه في ثلاث ساعات ونصف، يبني المخرج أحداث نصف الساعة الأخيرة على خطر مقبل يتكهن به أهل القرية وقد يقع أو لا يقع. هذا المنهج ينسف التقليد الشائع قبل وبعد « الساموراي السبعة» من ضرورة تقديم المقابل الشرير في مثل هذه الحكايات ولو على مراحل. لكن فيلم كوروساوا ليس كأي فيلم آخر. ببراعة متناهية لا نرى أي شرير ولا نتابع أي هجوم إلا في النهاية. هذا يمنح الفكرة جانباً فلسفياً ورمزياً. الإنسان في مواجهة الكارثة التي قد تكون من صنع الطبيعة (والمطر في الفصل النهائي تذكير بها وشريك فيها) أو قد تكون فعلاً قدرياً. خطراً في الأنفس وحدها. كما هي، في واقع الفيلم، العصابة التي كانت تحوّلت إلى ما يشبه الجيش.
 
نسخة جون ستيرجز سنة 1960
 
نسخ أميركية
هذا ليس متواجداً في أي من النسخ الأميركية التي تم صنعها فيما بعد (ستّـة) وذلك بدءاً بفيلم جون ستيرجز «السبعة الرائعون» The Magnificent Seven. السينما الأميركية أخذت الحكاية وتركت الدلالات الاجتماعية والفكرية وراءها. 
في فيلم كوروساوا، وعلى سبيل المثال فقط، يكاد المدافعون يخسرون المعركة بسبب حيازة بعض أفراد العصابة كما رئيسها على بنادق (بدائية في ذلك الحين). بارود ينطلق من فوهة بنادق ملقّـمة تصيب المحارب عن بعد. الساموراي بارع بالسيف ولكي يقتل به عليه أن يكون قريباً من العدو. البندقية خادعة. تنطلق عن بعد مثل جبان. تصيب وتقتل وتدفن الشجاعة. 
هذا المعنى عاد إليه أكيرا كوروساوا في فيلمه اللاحق «ظل المحارب» Kagemusha سنة 1980 كونه معني بجعل المجابهة بين السيف والبندقية رمزاً لعالمين متناقضين واحد يحمل معني الفروسية والآخر يحمل معني التطوّر الصناعي غير الأخلاقي.
 
«الساموراي السبعة»، نسخة 1960، أقدم على اقتباس الحكاية: قرية مكسيكية تعاني من ظلم عصابة (مكسيكية أيضاً) تطلب الحماية من سبعة مقاتلين أميركيين يعيشون (أو حدث أنهم تواجدوا) في المكسيك. معظم هؤلاء السبعة لا يعرف أحدهم الآخر (كما الحال في الأصل) لكنهم يذودون عن المظلومين وكل عن الآخر باستثناء واحد اسمه لي (روبرت فون) الذي ما زال يعيش على شهرته كمقاتل لكنه مصاب بالفزع من القتال هذه الأيام. 
 
هذه الشخصية دخيلة وموظفة لأجل بعض المفارقات الإثارية في حين أن أبطال كوروساوا جميعاً شجعان وعليهم أن يكونوا كذلك لأن تقديرهم للحياة وفهمهم للرجولة مختلف.
السبعة في فيلم جون ستيرجز (وهو من أهم مخرجي هوليوود المنفّـذين في الستينيات والسبعينيات) يبذلون جيداً ويقتلون ويقاتلون وبعضهم يُـقتلون أيضاً (كذلك يخسر فيلم كوروساوا ثلاثة من أبطاله). لكن الغائب الأكبر هو تلك المفردات الفلسفية وفضاء المعارك المرعب في الفيلم الأصلي. 
 
من بين تلك المفردات أن المحاربين الشرفاء وأهل القرية المسكينة والأشرار كلهم من شعب واحد. في حين أن البطولة في «السبعة الرائعون» أميركية وأهل القرية المكسيكية هم من هنود المكسيك، وليس من الإسبان الوافدين، والقتلة هم شراذم متنوعة ذات غالبية مكسيكية كما تقدم.
بذلك من “نحن” ومن “هم” يتغير تلقائياً: في فيلم كوروساوا الطرفان واحد تحكم كل طرف أخلاقيات مختلفة. في فيلم ستيرجز “نحن” أميركيون و”هم” شعب آخر. 
 
«الرائعون السبعة» نسخة 2016
 
أصالة النسخة اليابانية
هذا المفهوم ساد الاقتباسات والأجزاء اللاحقة «عودة الرائعون السبعة» لبيرت كندي (1966)، «مسدسات الرائعين السبعة» لبول ويندكوس (1969)، «هجوم الرائعين السبعة» لجورج ماكغوَن (1972) و«الرائعون السبعة» لجيف مورفي (1998) و«الرائعون السبعة» لرتشارد- جون تايلور (2013).
 
لكن الفيلم الجديد الذي يرتدي العنوان ذاته يختلف. «الرائعون السبعة» من إخراج أنطوان فوكوا يجري تغييراً في هذا الاتجاه يعود به إلى الأصل الكوروساوي: المحاربون السبعة أميركيون. أهل القرية أميركيون. أفراد العصابة أميركيون. إلى ذلك، بين أبطال الفيلم رجل أسود (دينزل واشنطن) وآخر مكسيكي (مانويل غارسيا رولفو) وهندي أحمر (مارتن سنسماير). 
 
إلى ذلك، هناك مقدّمة يذكر فيها الفيلم، على لسان بعض شخصياته، أن الحرب هي ما بين جشع رأس المال والفقراء. بذلك، وحسبما صرّح المخرج بنفسه، يعتبر الفيلم أنه قدّم قراءة تاريخية كما معاصرة لأميركا الأمس واليوم.
لكنه في النهاية فيلم ويسترن متعارف عليه كما حال النسخ الأميركية كلها. رغم ذلك فإن قدراً من التشابه موجود بين الساموراي والكاوبوي: كل منهما هو بطل في الفترة الزمنية الموازية وكل منهما بطل أخلاقي ومحارب جيد.
 
في كل من أفلام كوروساوا وستيرجز ومورفي وتايلور وصولاً إلى الفيلم الجديد لأنطوان فوكوا (نسخ بيرت كندي وبول ويندكوس وجورج ماكاوَن كانت أجزاء أتت بأحداث جديدة وشكلت مسلسلاً قصيراً) هناك جانب من الفيلم مبني على التحضيرات التي يقوم بها المحاربون لتدريب القرويين على القتال ولتحسين دفاعاتهم.  
المميز في عمل كوروساوا في هذا الصدد، صرفه الوقت الكافي لمتابعة هذه التدريبات والتجهيزات بحيث يفهم المشاهد الاستراتيجية كاملة قبل حدوث المعارك. معظم المخرجين الآخرين كان سيترك التفاصيل لكي تشكل المفاجأة، لكن كوروساوا لم يكترث لما هو مفاجئ، بل لما هو وضع إنساني يتيح له مراقبة الأشخاص وبواعثها. يوظف تلك المشاهد الطويلة للتعريف أكثر بمن يشترك بها.
 
أمر آخر تغاضت عنه كل تلك الاقتباسات بلا استثناء هو الدرجة المثلى من الواقعية. وهنا تأتي الواقعية على شكلين رئيسيين: واقعية المعارك بتفاصيلها المرهقة تنفيذاً، وواقعية الناس البسطاء الذين طلبوا الحماية. فهم بسطاء ومعظمهم فقير، لكن الكثيرين منهم غير صادق ومخادع (بعضهم يملك المال ويخفيه) وبعضهم ارتكب جرائم قتل كذلك. 
 
هذا أحد أهم مزايا نسخة كوروساوا ليس فقط لأنه يقدم طبيعة إنسانية تحتوي على صورة غير ناصعة لمن طلب الحماية لمصلحته، بل أيضاً لأنه يبرز البذل غير المحدود للمحاربين السبعة. كل يضع حياته على حافة النصل دفاعاً عن قرية بعضها صالح وبعضها لا يخلو من الشر.
هذا يتضح في موقف شخصية مفيوني عندما يكتشف أن بعض أهل القرية مسؤولون عن سقوط القتيل الأول بين أترابه من الساموراي. كوروساوا يعمد إلى هذا المشهد ليس كمجرد رد فعل غاضب، بل كسبيل إضافي للكشف عن الذوات الشخصية والاختلافات الكامنة في شخصيات أبطاله. 
 
كل ما سبق يؤكد، حين مقارنة بعض هذه الأفلام ببعضها البعض، لا الاختلافات الظاهرة بينها فحسب بل تلك الجوهرية مثل التفعيل الدرامي للحدث وكيفية الاستفادة منه، كذلك التمثيل وشخصيات الممثلين المختلفة وما عليها أن تعكسه. وفي الإجمال ذلك البعد الثقافي والاجتماعي الهائل بين منطلقات الحكاية اليابانية وباقي الحكايات الأميركية.

إعلان