شكسبير ينقذ الموقف في سيناء 1967
أمير العمري
عُرض بالدورة الأخيرة من مهرجان القدس السينمائي الدولي، التي أقيمت في شهر يوليو، ضمن احتفالية خاصة، النسخة الجديدة (الرقمية) التي أمكن التوصل إليها نتيجة جهود مشتركة بين السينماتيك الإسرائيلية وجهات أخرى دولية عديدة، من الفيلم الإسرائيلي الشهير “أفانتي بوبلو”، وكانت مناسبة ترميم النسخة وطبعها ثم عرضها وسط اهتمام كبير ورغبة في إعادة توزيع الفيلم عالميا، مرور 30 عاما على ظهور الفيلم الذي عُرض للمرة الأولى في المهرجان نفسه عام 1986.
يعتبر مؤرخو السينما الإسرائيلية ونقادها، داخل وخارج إسرائيل، “أفانتي بوبولو” أحد أهم الأفلام في تاريخ السينما الإسرائيلية. وقد حقق الفيلم عند عرضه- نجاحا تجاريا كبيرا، ونال الجائزة الكبرى في مهرجان لوكارنو السينمائي، كما رُشّح لتمثيل إسرائيل في الأوسكار، مما دفع أرييل شارون – وكان وقتها وزيرا للتجارة والصناعة – إلى التعبير عن غضبه الشديد وواصفا الفيلم بأنه “صورة تعكس كراهية الذات من جانب حفنة من اليهود الأغبياء”!
كان الفيلم في الأصل، مشروع تخرج لمخرجه ومؤلفه ومنتجه “رافي بوكايي” من جامعة تل أبيب، قام بتطويره بعد ذلك ليصنع منه فيلمه الروائي الطويل الأول، وقد عمل فيه الممثلون بشكل تطوعي، وعلى رأسهم اثنان من الممثلين الفلسطينيين، سليم ضو وسهيل حداد، اللذان قاما بالدورين الرئيسيين. وقد توفي مخرج الفيلم رافي بوكايي عن 46 سنة، عام 2003، ولم يشارك بالتالي في الاحتفال بعودة فيلمه إلى الحياة.
نهاية حرب عبثية
تدور أحداث الفيلم في نهاية حرب يونيو 1967 أي بعد وقف إطلاق النار مباشرة، في صحراء سيناء، حيث نرى اثنين من الجنود المصريين وقد تقطعت بهما السبل في الصحراء، يسعيان الآن بعد أن أصبحا وحيدين تماما، للوصول إلى قناة السويس ثم إلى القاهرة.
هذه الرحلة الشاقة وسط رمال الصحراء، يلتقي خلالها الجنديان: خالد (سليم ضو) الذي كان قبل تجنيده ممثلا مسرحيا غير معروف، وغسان (سهيل حداد) الذي لا نعرف الكثير عن خلفيته الاجتماعية.
يجب التغاضي هنا عن كون اسم “غسان” ليس من الأسماء الشائعة في مصر بل في فلسطين، كما يجب التغاضي أيضا عن الحوار العربي الذي ينطقه غسان وخالد باللهجة الفلسطينية المعروفة، فلم يكن هناك مفر أمام المخرج من استخدامها لأسباب معروفة.
لا يُصوِّر الفيلم فوضى الانسحاب المصري من سيناء، وعمليات القتل الجماعي التي مارستها الطائرات الإسرائيلية بحق آلاف الجنود المصريين، ووقوع الآلاف منهم أسرى في أيدي الإسرائيليين الذين أساءوا معاملتهم فيما يعتبر جرائم حرب، فالفيلم ليس مهتما بالمعارك الحربية، بل بالإنسان الفرد على كلا الطرفين، في محاولة لاستشراف ماذا يمكن أن يحدث عندما يجتمع “عدوّان” مفترضان، عند نهاية الحرب، ما الذي يمكن أن يجمعهما على المستوى الإنساني.
بعد أن ييأس خالد وغسان من هذه الحرب العبثية التي انتهت بهما وحيدين وسط الصحراء، يعانيان من الجوع والعطش، يتخلصان من سلاحهما حتى يتجنبّا القتل بأيدي الإسرائيليين الذين بدأت دورياتهم تنتشر في الصحراء، ثم وفي مشهد من أكثر مشاهد الفيلم طرافة، يجدان أمامهما إحدى سيارات الأمم المتحدة وبداخلها جثة جندي سويدي ومظلة وزجاجة ويسكي، يقبلان على تناولها بلهفة بديلا عن الماء ليصلا إلى حد السكر الفاضح فيتمددان بجوار السيارة.
يأتي بعد قليل مراسل تليفزيوني بريطاني بصحبة ضابط علاقات عامة إسرائيلي وجندي خشن ساخط هو سائق السيارة. المراسل غاضب لانتهاء الحرب بهذه السرعة دون أن يلحق بأحداثها الساخنة، يريد بأي ثمن تصوير ما خلّفه الصدام بين الجيشين من الدبابات والمدرعات المحترقة، ولكنهم بدلا من ذلك، أخذوه الى هذه المنطقة الخالية من أي أثر للصدام الكبير كما يتصور، مما يثير حنقه، فيضطر لتصوير خاتمة تقريره التليفزيوني بجوار سيارة الأمم المتحدة المعطلة وبداخلها الجندي القتيل، لكنه سرعان ما يكتشف وجود “خالد” و”غسان” مخمورين تماما، ويوافق الضابط على اصطحابهما كأسيري حرب في السيارة، لكن سرعان ما يقذف بهما خارجها بعد أن يتقيأ خالد في وجه المراسل البريطاني!
تستمر المسيرة السيريالية العبثية المضحكة في الصحراء، خالد يرفع المظلة فوق رأسه ويسير وهو يترنح يمينا ويسارا، وغسان يقبض بيده على ما تبقى في زجاجة الويسكي وكأنها طوق النجاة أو وسيلته للغياب عن واقع مرعب من حوله.
شايلوك في سيناء
خالد لا يبدو أنه يعرف أصلا لغة السلاح بل لقد انتهت الحرب دون أن يشارك فيها، لكنه يعرف لغة المسرح التي ستصبح طوق النجاة بالنسبة له ولزميله معه. بعد قليل يقع الاثنان في قبضة دورية من ثلاثة جنود إسرائيليين، فيهجم خالد دون وعي مباشرة نحو “جيركن” الماء ليشرب لكنهم يصدونه، ويعاود المحاولة مرة ومرتين وفي كل مرة يجذبه جندي إسرائيلي ويسقطه أرضا، لكنه لا يريد أن يكف عن المحاولة.. وفجأة ينطلق في “مونولوج” من مسرحية “تاجر البندقية” لشكسبير متقمصا دور “شايلوك” التاجر اليهودي، وأمام ذهول الجميع يصرخ بالإنجليزية الخشنة “أنا يهودي.. أليست هاتان عينا يهودي؟ أليست هاتان يديْ يهودي؟ نفس الأبعاد..نفس الأحاسيس.. والمشاعر.. إنه يتغذى على الطعام نفسه.. يجرح بالأسلحة نفسها.. يتعرض للأمراض نفسها.. يشُفي بالأدوية نفسها.. يشعر بالحر والبرد في الصيف والشتاء تماما كما يشعر المسيحي!”
يجثو على ركبتيه أرضا، ويتطلع للجنود الإسرائيليين المذهولين، ويواصل: إذا خدشتمونا.. ألا ننزف؟ وإذا داعبتمونا ألا نضحك؟ وإذا سممتمونا.. ألا نموت؟!
يعلق أحد الإسرائيليين قائلا: “لقد اختلطت عليه الأدوار”، ويسمح له بشرب الماء. يحاول الإسرائيليون بشتى الطرق إبعاد المصرييْن بلا جدوى فهما يتبعونهم أينما ساروا في الصحراء، ثم يتلقون أوامر بالتخلص منهما، وفجأة ينفجر خالد مرددا كلمات النشيد الشيوعي الإيطالي “أفانتي بوبلو” أي إلى الأمام أيها الشعب، ويردد الجميع خلفه على نغمات اللحن الشهير دون أن يفهم أحد منهم جميعا معنى الكلمات، ثم يسيرون في خطوة عسكرية ويرتفع المشهد إلى قمة العبث.
خلال الصحبة، يقترب الطرفان من بعضهما البعض إنسانيا، ويشعر الإسرائيليون– أن هذه الحرب قد ظلمتهم، وأنهم أمام أناس من البشر مثلهم، ولكن يقع ما لم يكن منه مفر، عندما ينفجر لغم في الإسرائيليين الثلاثة الذين كانوا يبتعدون فجر اليوم التالي تاركين المصريين نائمين، مما يؤدي لمقتل اثنين ويقوم خالد بإنقاذ الثالث، لكن دورية إسرائيلية تهرع إلى المكان للنجدة، يعتقد قائدها أن المصرييْن هما المسؤولان عما حدث، بينما يصرخ الجندي الجريح دون جدوى: إنهما لم يفعلا شيئا!
ينتهي الفيلم بمقتل الجنديين المصريين بعد أن أصبحا على حافة القناة يتأهبان لعبورها بعد أن تصيبهما رصاصات الجانب الإسرائيلي، والجانب المصري الذي يتصور أنهما من الأعداء!
عبثية الحرب
كان “أفانتي بوبلو” الفيلم الأول من نوعه في إسرائيل الذي يعالج موضوع الحرب، وحرب 1967 تحديدا، من خلال الكوميديا السوداء العبثية، دون أن ينحاز بوضوح للجيش الإسرائيلي على العكس من أفلام الدعاية الإسرائيلية التي تخصصت في إبراز البطولة، وحاول فضلا عن ذلك، تقديم صورة متوازنة بين الطرفين.
ورغم ما يكشفه في بعض المشاهد من نزعة عنصرية إسرائيلية ضد العرب (السائق يعترض على الضابط حينما يأمره بحمل الأسيرين المصريين معه في السيارة بأنه لا ينقل العرب)، كما يضفي ملامح إنسانية على المصريين فيجعل أحدهما موهوبا في التمثيل، يتمتع بالقدرة على الإضحاك والإصرار الشجاع (تحت تأثير الخمر) على الحصول على ما يريده .. إلا أن المشكلة أن هذه القصة السينمائية التي تم تجريدها من آثار الحرب نفسها يمكن أن تمنح انطباعا خاطئا عما جرى في سيناء في ذلك الوقت، أي تصبح بمثابة تغطية على “المذابح الجماعية التي ارتكبها الإسرائيليون ضد الجنود المصريين المنسحبين وتم الكشف عنها فيما بعد، من الطرف الإسرائيلي نفسه ولكن بعد سنوات من ظهور هذا الفيلم.
نهائي الكأس
ألهم فيلم “أفانتي بوبلو” المخرج إيران ركليس (وهو من دعاة السلام) ليخرج فيلم “نهائي كأس العالم” (1991) الذي تدور أحداثه خلال الغزو الإسرائيلي للأراضي اللبنانية فى يونيو 1982، أي فى نفس الوقت مع مباريات كأس العالم لكرة القدم فى إسبانيا.
ويصور الفيلم قيام وحدة تابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية بالهجوم على قاعدة عسكرية فى جنوب لبنان ثم وقوع جنديين إسرائيليين فى أسر أفرادها. وأثناء الاشتباك بين المجموعة الفلسطينية وإحدي فصائل الجيش الإسرائيلي، يحاول أحد الأسيرين الهرب، فيُقتل، بينما يظل الثاني “كوهين”، أسيرا فى أيدي الفلسطينيين الثمانية الذين يقودهم “زياد” (محمد بكري).
خلال رحلة المجموعة، يستعرض الفيلم التباين بين مواقف أفرادها، مشيراً إلى الخلفية الاجتماعية والشخصية لكل منهم، ويصور نمو علاقة إنسانية بين الأسير وآسريه، يجمعهم حبهم للمنتخب الإيطالي خاصة أن كوهين كان يعتزم السفر إلى إسبانيا لحضور المباريات ومازال يحتفظ بتذكرة السفر وبطاقات حضور المباريات في جيبه قبل أن يفاجأ باستدعائه للجيش وترحيله إلى لبنان.
كانت الصورة الإنسانية الإيجابية التي يقدمها الفيلم للجندي “كوهين” الأهم والأكثر قدرة على البقاء في ذاكرة المشاهدين، فهو بطل الفيلم الحقيقي، خاصة وقد قام بالدور الممثل الإسرائيلي “موشيه إفجي” المعروف بأدواره الكوميدية وهو يتمتع بشعبية كبيرة في إسرائيل. ولكن الفيلم يظهر أيضا أن آسريه الفلسطينيين، ليسوا أقل منه إنسانية وتمتعا بروح المرح.
هذا النوع من الأفلام التي ظهرت في الثمانينيات والتسعينيات، كانت تهدف في المقام الأول، للتعبير عن تيار آخر “ليبرالي” محدود ظهر بين المثقفين الإسرائيليين، كان يرحب بالحوار، يطرح فكرة إمكانية التعايش، أو يرحب بالحل على أساس الدولتين، ولعل هذا ما شجع الممثلين الفلسطينيين على المشاركة في هذه الأفلام.
أما الواقع نفسه فلم يكن مستعدا لقبول هذا النوع من الأفلام، فقد كانت التطورات السياسية نفسها تهزمها وتقف عقبة في وجه كل التحولات الجوهرية التي يمكن أن تهز قناعات المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، وهو ما لم يتغير كثيرا حتى الآن!