300 ميل من الخراب السوري
Published On 4/9/2016

محمد موسى
بَينَ المخرج عروة المقداد و “نور” ابنة أخيه 300 ميل من الأراضي السورية المشتعلة بالنزاعات والعصبيات والوحشيات التي انفلتت من محاجرها. هو يعيش أغلب وقته مُختبئا خلف المتاريس في مدينة حلب ومنذ أن بدأ كابوسها المتواصل لليوم، وهي مع أهلها في مدينة درعا، تتمتع بسلام نسبي بعيداً عن الديكتاتورية وحروب الإخوة. منع العنف المخرج من التوجه إلى بيت أهله في الجنوب السوري، ونور من الالتحاق بعمها، لذلك سيبدآن بتسجيل رسائل مُصورة لبعضهما وللتاريخ، ويوثقان بذاتية أحياناً وبكاميراتهما الصغيرة بعضاً من أزمان المحنة السورية، والتي ستشكل الفيلم التسجيلي الرائع “300 ميل”، والذي كان أحد أفلام الدورة الأخيرة لمهرجان لوكارنو السينمائي.
يأتي الفيلم بعد حوالي خمس سنوات على بداية الأزمة السورية، والتي ظهرت في أفلام تسجيلية عدة، تناول بعضها الأزمة من زوايا الأثمان البشرية التي تُراق كل يوم هناك، وسعى البعض الآخر لحفظ اللحظة التاريخية الخاصة التي مثلّتها الثورة السورية. يعي المخرج موقعه من الزمن والتاريخ والأحداث التي وقعت في بلده، ويقدم فيلماً يجمع بين الوثيقة التاريخية والبحث بين الانفجارات وأطلال المدن المهدمّة عن لحظات تأمل لمعاينة الأزمة. هذه الموازنة التي من الصعب أن تتحقق هي التي تجعل هذا الفيلم يحتل مكانة خاصة بين جميع الأفلام التسجيلية التي تناولت الثورة السورية على اختلاف أساليبها ومقارباتها. يفرض المخرج على شخصياته في الفيلم وبعدها على الجمهور، أن يصمتوا قليلاً، وينصتوا إلى دواخلهم ويسألوا عن مواقعهم وأدوارهم، رغم أن الرصاص كان يطير فعلياً وليس مجازاً فوق الروؤس أثناء تصوير بعض مشاهد الفيلم.

يختزل المخرج الحياة السورية اليوم بمشهد الحرب والسوريين بأربع شخصيات، إحداها قائد محلي على جبهات حلب يقاتل أعداءً مختلفين في حروب تتناسل، وطالب فلسفة من المدينة ورفيقاه، والذين يمثلون جيل الاحتجاح النقي الأول الذي يبعده العنف والتدخلات الخارجية عن مسار الثورة الأصلي، و”نور” الطفلة التي مازالت تحلم بسلام وحياة طبيعية، وهناك المخرج، المثقف، والمراقب لما يجري حوله، محاولاً وضعه في أُطر خاصة وتحليل ما يجري ونقده. يتنقل المخرج بين القائد العسكري المحلي وطالب الفلسفة الذي أوصلته الأزمة إلى حوافّ اليأس وحتى الجنون. ومن “درعا” ترسم “نور” ببراءة الطفلة عالمها الخاص وسط الخراب العام.
يُركز الفيلم على شخصياته القليلة، غائصاً إلى درجات غير مريحة أحياناً في دواخل هذه الشخصيات، طارحاً أسئلة مُقلقة في وسط المعارك، عن المسؤوليات الفردية فيما يجري في سورية. يوجّه المخرج عدسته إلى السوريين ويمنحهم منصة هي صعبة اليوم مع تدخلات القوى الكونية الكبرى في الشأن السوري. ينبش المخرج في ذهنية السوري المعارض، ويتقصى عن التزاماته، حافظاً – أي الفيلم – هذه اللحظة التاريخية المهمة، وقبل أن تنفرط ويتفرق أبطالها، وهو القدر الذي كان ينتظرهم.
يصل المخرج إلى شخصيتيه الرئيسيتين وهما على شفا الانهيار والهزيمة. فالقائد العسكري الذي كان يقاتل جيش النظام السوري على الطرف الآخر من الشارع في مدينة حلب، يقلقه ما يحدث من تبدلات في جبهته أكثر مما يحدث على الطرف الآخر منها. هذا القائد سيكثف أزمة سوريين مقاتلين مثله عندما يصف الجبهة التي يقاتل عليها بأنها أشرف مناطق سورية اليوم وبعد أن سادت الضبابية ماعداها. أما طالب الفلسفة الذي نتعرف عليه عندما كان يقرأ كتاب تاريخ نُهِب من مكتبة بيت هجره أهله وأنقذه هو من الحرق، فبدأ يكتشف بأنه لم يعد له مكان في المعارضة السورية. ليبدأ بعدها التحضيرات للهروب من البلد، خوفاً على حياته من تنظيم “داعش” وغيره من التنظيمات الجديدة.

ولحسن حظ الفيلم أنه سيكون شاهداً على أحداث كبيرة في حياة شخصيتيه، وتبدلات في الرؤى والمواقف، ليقترب الفيلم وهو يسجل هذه اللحظات، من الملحمية التي سيزينها المخرج بمشاهد فنيّة مبتكرة صورت في مواقع غير مألوفة في مناطق منكوبة. صور المخرج بنفسه مشاهد الفيلم في “حلب” فيما صورت “نور” مشاهد مدينة درعا. بحث المخرج في الجزء الحلبي عن صور حياة ما بعد الحرب وابتعد قدر الإمكان عن المشهديات البديهية التي تُظهر الدمار. وخلق مجموعة من التشكيلات الصورية المدهشة التي انسجمت مع الحالة النفسيّة للشخصيات. كتلك المشاهد التي تظهر طالب الفلسفة وهو يرقص مع زملائه رقصة تجمع بين الجنون والقنوط على أغنية سريالية تكشف كلماتها عن يأس من الجميع.
ومن المشاهد الصادمة حقاً، تلك التي تظهر القائد العسكري السوري وهو يتبادل الشتائم النابية مع جندي في جيش النظام تفصله عنه أمتار قليلة فقط وبعد أن تداخلت جبهات القتال في المدن السورية المزدحمة، لتجسد هذه المشاهد واقع الحرب السورية الغرائبي. وفي سلسلة أخرى من المشاهد التي لا تقل قسوة، يتابع الفيلم الطالب السوري ورفاقه وهم يجمعون أغراضهم على عجل وبعد أن تلقوا تهديدات من جهات مجهولة. عندما يعود إليهم الفيلم في مشهد لاحق، يجدهم يتجادلون عن المسؤولية والالتزام، وبعد أن قرر الطالب اللجوء إلى تركيا، إذ اعتبر أحد رفاق الطالب ذاك أن التحول الجديد لا ينسجم مع قرار الانضمام للثورة الذي أخذه قبل سنوات.
تُكمِل المشاهد التي صورتها “نور” بكاميراتها البنيّة الجمالية الفريدة والصادقة للفيلم، فالطفلة التي لا تزيد عن السادسة من السنوات، قادت الفيلم إلى مناطق الجرح السوري الأكثر إيلاماً: الأطفال وما يدفعونه من أثمان في حروب البالغين، عبر الشهادت البريئة التي كانت تبوح بها للكاميرا، حينا بمفردها، و أحياناً مع عمها الآخر وجدّتها فلسطينية الأصل. لم تكن جميع مشاهد “نور” مُتقنة تقنياً، فكانت الريح تهز الكاميرا أحياناً، ولم تكن كل الكادرات محكمة، لكن “عدم الكمال” هذا سيزيد من حميمية الصورة وعفويتها وانكسارها. في حين بلغ أحد المشاهد لنور مع عمها في حقل للشعير الأخضر ذروة جمالية غير متوقعة، للتناغم الموفق بين الصورة الثابتة الشاعرية، مع الحوار الذي كان يجري بين الشخصيات أمام الكاميرا.
يبدأ الفيلم بمقدمة مُنمقة كثيراً بصوت المخرج يُمهِّد فيها لحكايته الشخصية التي سيقدم جزءاً منها في الفيلم. هذا الخطاب الأدبي والذي عانت منه أفلام تسجيلية سورية في الماضي وقعّها مخرجون جاءوا إلى السينما من عالم الأدب، سيتلاشى لحسن الحظ، ويحلّ بدله لغة سينمائية شاعرية ناضجة، وإطلالة تقطع الأنفاس لقسوتها وكشفها عما يجري في سورية اليوم. يقيس الفيلم الواقع السوري على وقع التحولات الكبيرة، وتغلفه روح الهزيمة التي تُكبَّل الشخصيات، لكنه بصدقه، وإخلاصه، وجرأته، وباقترابه من سوريين متنوعين، يفتح كوة صغيرة من الأمل بمستقبل مختلف رغم كل هذه العتمة.
