“الهجرات العظيمة”.. ملحمة التغريبة البشرية !
Published On 5/9/2016

قيس قاسم
موجات الهجرة الأخيرة إلى أوروبا تُعَدّ تاريخياً من بين أكبر الهجرات التي عرفتها البشرية، وكحدث تراجيدي متعدد المستويات والأبعاد يصل إلى مستوى الكارثة البشرية، فإن عملية توثيقه سينمائياً لا يمكن أن تغيب عن ذهن المشتغلين فيها، ولا طبعاً عن برامج المؤسسات الإعلامية الكبيرة، فبات أمر ظهور أعمال تسجيلية حولها بحكم الأمر المفروغ منه وبالتالي لم يعد السؤال يتمحور حول موعد العمل بها، بل في السؤال عن اللحظة التي ستُعلن شركات الإنتاج عن إتمام مشاريعها وتحديد مواعيد عرضها.
أما بالنسبة للمشتغلين بالسينما فيظل فضولهم منصباً على معرفة؛ من أي زاوية سيتم تناول الحدث الجلل، وما هي المساحة أو المقاطع التي ستُؤخذ منه، لإدراكهم المسبق باستحالة تفرُّد فيلم واحد بهذه المهمة، لهذا رأينا هيئة الإذاعة البريطانية “بي.بي.سي” تأخذ في ملحمتها الوثائقية “Exodus: Our Journey To Europe” فترة زمنية محددة منها.
أخذت عاماً واحداً فقط وغطت بعض المساحات التي خرجت منها تلك الهجرات، وكان طبيعياً أن يكون للسوريين الحصة الأكبر فيها.
ولتمييز منجزها أسلوبياً اعتمدت على الخامات الفيلمية الشخصية وعلى المشاهد المأخوذة بكاميرات تليفونات المهاجرين المحمولة، إلى جانب طبعاً تسجيلات مصورّيها طيلة فترة مرافقتهم لمجاميع كبيرة من المهاجرين خلال عام 2015، في مناطق جغرافية مختلفة التضاريس، متفاوتة الظروف، الفجيعة والآلام كانا أساسها المشترك.
على مدى ثلاث ساعات قُسمت على ثلاثة أجزاءـ قدم المخرج “بول كلاين” ومساعده “جاك ماكلينس” ملحمة سينمائية لم يستنكف في تنويع مصادرها لتقديره أهمية ما يقوم بتسجيله المهاجرون بأنفسهم وأحياناً تكون حصيلتها أهم من الناحية التوثيقية لا الفنية، من حصيلة كاميرات مصوريه المحترفين.

انفتاح واع سيوسم عمله، وسيضفي عليه تنويعاً بصرياً مستنبطا من تنوع القصص وغزارتها ومع هذا كان عليه إمساك الخيط الجامع لها وعدم إضاعته والانتباه جيداً إلى تجنب إغراق فيلمه بالتفاصيل أو بتكرار ما سبق وأن قدمه غيره من حكايات، فآخر “الهجرات العظيمة: رحلتنا إلى أوروبا” التي شرع يسجلها لم تكن وليدة اليوم ولا انحصرت زمنياً بعام واحد، وعليه كان لا بد من السعي لإنجاز عمل “أصلي” يتم تناول أحداثه بأسلوب مختلف لا يخاف المغامرة.
غالباً وعند التصدِّي إلى حدث كبير، متنوع المستويات والشخوص تواجه أصحابه مشكلة تجميع مفرداته وتوصيلها كلها إلى خط النهاية بسلام، وعلى مستوى المشاهدة تتسم بصعوبة الإمساك بتفاصيلها، في البداية على أقل تقدير، لكن حصافة المخرج ونباهة المونتير كفيلان بتحقيق التوازن والسلاسة المطلوبتين.
كل شخص في الملحمة الوثائقية ينتمي إلى بيئة حاضنة له، لهذا كان لا بد من التعريف بها حتى يفهم المُشاهد الدوافع القوية التي أرغمته على ترك وطنه وتعريض حياته لمخاطر جدية، وبهذا أسهم الوثائقي في تقديم تصور واقعي عن الظروف القاهرة لكل مجموعة، محققاً بذلك وظيفته التوعوية.
فالسوريون لولا أهوال الحرب التي طالت أكثر من خمس سنوات وحصدت أرواح آلاف من الناس لما تركوا بلدهم المعطاء والجميل، والأفغان لولا الفقر والحرب لظلّوا في بلادهم فيما يدفع الفقر وصعوبة العيش الأفارقة لركوب البحر وأهواله.
نوَّع “الهجرات العظيمة”، بسبب تنوع الحاضنات الاجتماعية والظروف السياسية والاقتصادية للمهاجرين، أساليب تقديمها وبما يتوافق مع طبيعتها. لم يبخل أو يتردد في استخدام كل الوسائل التقنية والأسلوبية الملائمة لها، وكان أسهلها الحديث المباشر مع الكاميرا والأصعب من بينها تصوير المواقف الخطيرة مثل؛ التخفي عن أنظار شرطة الحدود أثناء عبورهم أو ترتيب عمليات التهريب السرية فيما ترك للصورة البانورامية وبخاصة للمدن والموانيء والمحطات التي كان يصلها المهاجرون فرصة التعبير عن نفسها بلغة جمالية لم ترضَ التنازل عن حقها.
في تركيا مثلاً؛ تابع حياة عائلة “طارق” الحلبية، التي غادرت منزلها هرباً من قصف الطيران وحاولت التأقلم مع الظروف الصعبة الجديدة التي وجدت نفسها فيها مرغمة.
تلعب ابنته الصبية “أسماء” دوراً محورياً في عرض حالتهم وعبرها سنتعرف على أحوال الأطفال السوريين في المناطق الحدودية وكيف تدفعهم الظروف إلى العمل في شوارعها.
على مستوى العائلة تظهر التناقضات والمواقف جلية فلا شيء يمكن أن يخفيه المهاجر، المكشوف لكل أنواع الذلّ والتحولات التراجيدية.
يجاورها بشخصيتين محوريتين هما؛ “حسان” مدرس الإنجليزية المعارض والهارب من ملاحقة وتعذيب السلطات السورية له ومعه شاب كردي اسمه “أحمد” قرر الخروج لتأمين مستقبل أفضل لعائلته بعد فقدانه أمل العيش بسلام في المكان الذي ترعرع فيه.

سنتابع رحلة كل واحد منهما ووجهته، وبالمصادفة كان الشابان متفقين على الذهاب إلى بريطانيا فيما العائلة تريد الذهاب إلى إحدى دول الشمال. مراحل تهريبهم من تركيا إلى اليونان وصعودهم القوارب المطاطية يوثق جزءاً مهماً منها بكاميرا التليفون المحمول لتأتي بمصداقية يندر توفرها في التسجيل السينمائي العادي.
صورة مرتبكة مثل أصحابها خائفة لكنها معبرة، وربما للمرة الأولى التي نرى فيها مشاعر خوف المهاجر من الموت غرقاً أمام أعيننا. نحس بها كما لو كنا نحن معهم لحظتها وكيف تتوحد المشاعر وتتناغم مع المواقف والظروف القاهرة.
في اليونان لن يختلف الأمر فالناس هم أنفسهم فيما الجغرافيا مختلفة. حرص الوثائقي على رصد حالة المهاجر السوري ورسمه تفاصيل تجربته في كل مكان وصله؛ بالكلمات والأرقام والأحاديث والقصص الحقيقية المجسدة للفجيعة بأعلى درجاتها.
ملاحقة حيواتهم في رحلة العذاب والتوقف معهم في كل منعطف ومحطة مهمة منها تشير إلى حجم المحنة التي عاشوها وكان لا بد من توثيقها.
سيكتب تاريخ السينما فصلاً عن رحلة السوري كما قدمها “الهجرات العظيمة: رحلتنا إلى أوروبا” لصدقها وندرتها. في منتصف الطريق يترك الوثائقي “مؤقتاً” السوريين ويذهب لتصوير الأفغان. بعضهم جاء لأسباب لها علاقة بالخوف من سيطرة التيارات الدينية المتشددة والحرب الأهلية وأخرى تريد تجربة حظها في الوصول إلى الخارج.
عائلة “علي” وأخواته ورحلتهم من كابول إلى تركيا عبر الجبال شتاء تروي فصلاً تراجيدياً وتعكس أحلاماً قد يصعب تحقيقها.
في كل مرحلة من مراحل “الهجرات العظيمة” يتوقف صناعه ليقدموا لنا معلومات عن اللحظة التي يجد هؤلاء أنفسهم فيها وكلها محصورة في عام 2015.
أرقام عن عدد الغرقى المهاجرين من كل بلد، تسعيرة المهربين، موقف كل دولة منهم، وكم عدد المقبولين فيها وغيرها الكثير، لدرجة يغدو عرضها مثل محاضرة أكاديمية تغني العقل وتفيد من يريد محاججة الأوروبيين المعارضين لوجود المهاجرين في بلدانهم.
الفصل الأفريقي في كتاب الهجرات مشبع بالصورة التليفونية وبالوقائع المخيفة. تكشف لنا التسجيلات تفاصيل ما يتعرض له الأفريقي الفقير من انتهاك على أيدي المهربين ويقدم تصوراً جديداً عن أهوال رحلة الصحراء.
يرافق الوثائقي شاباً من غامبيا باع كل ما يملك من أجل تأمين مستقبل عائلته الفقيرة، التي غدت عاجزة عن تأمين قوتها اليومي بعد وفاة والده. ما صوره بنفسه كان مذهلاً. بدت خلالها الطريق الصحراوية أشد قسوة من أمواج البحر العاتية والموت فوق رمالها الحارقة أمراً مألوفاً للمهربين لا يتوقفون عنده.
مهربون قساة جشعون لن يتورعوا عن استغلال المحتاجين أبشع استغلال لدرجة يقومون بعد توصيلهم إلى ليبيا، وهي من أكثر وجهات تهريب الأفارقة نشاطاً نحو السواحل الإيطالية، بتسليمهم إلى عصابات منظمة تجبر عوائلهم المعدمة على دفع فدية مقابل إطلاق سراحهم، وفي حالة عجزهم يقررون قتلهم ورميهم في الصحراء.
نذالة وقساوة تحيل المشاهد للتفكير بالصعاب الحقيقية التي تُجبر الشباب الأفريقي لتذوق مرارتها، يضاف إليه فوقها أهوال رحلات القوارب المهترئة وسط البحر.

يقدم الوثائقي في الجزء الثاني مشهداً واسعاً بانورامياً للمغامرة الأفريقية وصعوبة وصول خائضيها إلى هدفهم، ثم يضيف إليه ملحقاً عنوانه؛ التمييز العنصري وكراهية السود، ليغدو أكثر اشباعاً وعمقاً قبل وصوله إلى المرحلة الأخيرة من ملحمته وفيها يقوم بمهمة جامع الخيوط المتناثرة والشخوص المتفرقة فبدونها سيظهر الفيلم مفككاً ومبعثراً مثل أرواح المهاجرين وممزقاً مثل مصائرهم.
احتاج لتحقيق ذلك ملاحقة تفاصيل حياة عشرات الأشخاص في أكثر من عشرين بلداً مروا بها وإلى السير آلاف الأميال والتصوير مئات الساعات والجلوس أكثر منها في غرف المونتاج لجمع الخلاصات وتوصيل كل شخصية بمصيرها.
بعضهم حقق ما أراد والبعض الآخر مات في الطريق أو استسلم وقسم منهم تاهوا في الدروب، لكن الوثائقي عرف بمصائرهم بفضل كاميراتهم، التي لعبت دور الشاهد على معاناتهم والأهوال التي مروا بها.
بعد كل ذلك كيف يمكن تقييم وثائقي كبير مثل “الهجرات العظيمة: رحلتنا إلى أوروبا”؟ بالمديح فهذا يستحقه دون جدال أو بالدعوة إلى اتخاذه نموذجاً يدرس لطلاب صناع الوثائقي وهذا ليس بكثير عليه.
هل شابته عيوب؟ نعم قليلة مثل؛ تكرار بعض مشاهد وصول المهاجرين إلى السواحل اليونانية وحال قواربهم وسترات النجاة الممزقة على رمال الشواطيء أو عرض فظاظة سلوك شرطة حدود بعض دول شرق أوروبا، لكنها تظل في النهاية ضئيلة بالمقارنة مع منجز كبير على مستوى الإنتاج والابتكار الأسلوبي فيما يتعلق باعتماد التصوير الشخصي بكاميرا المحمول في السينما الوثائقية الجادة، وإعادة توليفها لتتلاءم مع بقية التصوير الاحترافي دون بروز فوارق فاقعة ومزعجة للبصر وهذا ما تحقق لدرجة كان من الصعب أحياناً على المشاهد التمييز بين اليد الهاوية والأخرى المحترفة، وعلى مستوى الموضوع يسجل موقفاً إنسانياً يصعب على أكثر المعارضين للهجرة تجاهله، لأنه بسهولة سرد بعضاً من أهوال رحلة الوصول إلى “الجنة” وذكّر بالخافقين في الوصول إليها، فيما الملايين في سوريا وغيرها يتعرضون للقصف والدمار كل يوم وآخرون يعانون من الخوف والفقر وكلها أسباب مقنعة تدفع البشر للبحث عن حلول، لم يُروِّج “الهجرات العظيمة” مباشرة لها، لكنه مهّد الطريق لفهمها بما يتوافق مع وظيفته كفيلم وثائقي.