“ذهب البحار”: وثائقي تخييلي
وسيم القربي
وُلد “جون إبستين” بـ “فرصوفيا” يوم 26 مارس 1897 من أب فرنسي وأمّ بولندية، وإثر وفاة والده سنة 1907، قرّرت عائلته الانتقال إلى سويسرا قبل أن تلتحق فيما بعد بمدينة “ليون” الفرنسية حين برز ولعه بالفيزياء والكيمياء وبقية العلوم ليختار دراسة الطبّ. وقد انخرط هناك في مختبرات الأخوين لوميير، حيث كلّفه “أوغوست لوميير” ببعض التجارب العلمية. وبالرغم من محاولات “إبستين” المشاركة في صنع الصورة السينمائية إلا أنّ الأخوين لوميير لم يهتمّا بهذا الجانب عنده بل اهتمّا بنبوغه العلمي من أجل تطوير المختبر.

انهمك “إبستين” في البحث العلمي، لكنّ عشقه لأفلام “شارلي شابلن” وللفن السينمائي جعلاه ينطلق في الكتابة النظرية عن السينما لينتج بعض الإصدارات قبل أن يتوجّه نحو الإخراج الفيلمي مع شركة “سانكرو سيني” حيث أخرج لها عدّة أفلام قصيرة من بينها “أغنية الحور” و”السكك الحديدية الصغيرة” و”القرن”…
بعد فيلمي “فينيتيرا” و”مورفران” اللذين تميّزا بالأسلوب الوثائقي التخييلي، انطلق المخرج الفرنسي “جون إبستين” سنة 1932 في تصوير فيلم “ذهب البحار” على طريقة “روبارت فلاهارتي”، حيث حاول رصد يوميات من حياة السكان في جزيرة “هويديك” الفرنسية والتي تمتد على مساحة تقدّر بكيلومتريْ مربع. وقد استطاع هذا الوثائقي أن يتموقع في خانة التجريب السينمائي الأنثروبولوجي من خلال صور تهتم بدراسة اجتماعية عبر الآلة السينمائية. وقد تمّ سنة 2013 إعادة استعادة النسخة من المستحلب السينمائي القديم وترميم الصوت والصورة ورقمنة هذا الفيلم من قبل المكتبة السينمائية الفرنسية. لم تبلغ شهرة “جون إبستين” ما تستحقه أعماله التي بقيت غير معروفة، فيما كانت الكتابات النقدية التي اهتمّت بأعماله مقلّة.

وثائقي فنّي وبحث عن حقائق سينمائية..
بعد تصويره لمجموعة من الأفلام القصيرة لفائدة شركة “سانكرو سيني” بجزيرة “هويديك”، وبعد تميّزه بالجمع فيها بين التمثيل والواقع، انطلق “إبستين” بعشقه للممارسة السينمائية في صناعة فنّية للوثائقي باحثا في الآن ذاته عن الحقيقة من وراء الكاميرا. اعتمادا على حسّه العلمي سعى إلى التجديد في الأشكال السينمائية مهمّشا إلى حدّ ما الجانب الجمالي، فعاد للتصوير بجزيرة “هيدويك” الصغيرة في شتاء 1931 ليرصد الأسطورة ويبحث فيها عن الحقيقة في الوقت الذي كان فيه “فلاهارتي” بصدد إنجاز فيلمه “رجل أران” في إحدى الجزر الأيرلندية.
يبرز الفيلم الوثائقي ظاهريا بشكل سرد كلاسيكي، حيث يتوغّل “إبستين” بسفره داخل جزيرة عُرفت بصغر مساحتها وفقر أهاليها، وهو ما جعل “جون إبستين” يحاول البحث عن السّر الذي يجعل من هذه الأرض ملاذا لسكّانها وعن الدافع الذي يجعل ساكنيها يختارون الحياة في مثل هذه الظروف القاسية.
انطلق “جون إبستين” في التصوير دون الاعتماد على سيناريو محدّد لكنّه اعتمد على محور اختاره، وهو الدراسة الاجتماعية لأهالي هذه الجزيرة. استطاع “إبستين” أن يكسب ثقة الأهالي وأن يقنعهم بالانخراط في هذا الوثائقي وأن يجعل منهم “ممثلي الواقع” وهو ما يلوح في الفيلم حيث ينصهر التمثيل في الوثائقي ليخدم البحث عن الحقيقة ويكتشف المخرج أنّ هذه الجزيرة الفقيرة تحتضن مجموعة من السكان الفضوليين والمنفتحين على الآخر وهو ما سهّل عليه التقاط صور عفوية.
جزيرة “هيدويك”: الأسطورة…
تقع هذه الجزيرة الصغيرة قبالة مدينة “نانت” الفرنسية، هناك يعيش بعض مئات من الأهالي الذين يقتاتون أساسا من مهنة الصيد البحري خلال فترة تمتد على ستة أشهر فقط باعتبار سوء الأحوال الجوّية حيث يعاني الكثير منهم قساوة الظروف التي تصل بهم في كثير من الأحيان إلى حدّ المجاعة، ومع ذلك يصرّ أهالي هذه الجزيرة على الصمود والبقاء فيها بالرغم من قوّة الأعاصير التي تشهدها والعزلة التي تعيشها.

تقول الأسطورة هناك إنّ العجوز الفقير”كواريك” المنبوذ من طرف أهالي الجزيرة يعيش في عزلة حيث يتفاداه الجميع. ذات مساء يجد على الشاطئ صندوقا لفظته المياه فيسرع بإخفائه، غير أنّ المتساكنين يكتشفون أنّه عثر على صندوق ويسير باعتقادهم أنّه صندوق كنز. يصبح “كواريك” العجوز محلّ اهتمام جميع السكان حيث يحاول كلّ بطريقته أن يتقرّب منه ويهدونه شتّى أنواع الخمور على أمل أن يكشف عن سرّ الصندوق، غير أنّه يموت من كثرة إدمانه على الخمر. إثر وفاته تتحوّل جميع الأنظار إلى ابنته “سوازيق”، حيث يصير باعتقادهم أنها تعرف سرّ صندوق الكنز، فتزعم إحدى العائلات طلب يدها لابنها “ريمي” الشاب الوسيم في الجزيرة طمعا في الاكتشاف.. غير أنّ هذا الأخير يقع في حبّها فيعشقها عشقا صادقا وهو ما سيثير سخط عائلته..
“ذهب البحار”: الأسلوب الفني
على طريقة “فلاهارتي”، يعتمد “إبستين” على التمفصلات التمثيلية للأسطورة قصد رصد توثيقي للحياة الاجتماعية العادية التي تدور في جزيرة “هيدويك”.
يبدأ الفيلم بمشاهد تبيّن فقرا مدقعا ومعاناة شخصيات وسط طبيعة قاسية، حيث تقتحم الكاميرا مجتمعا مصغّرا وترصد هوامش من الواقع المرّ والتلوث البيئي والعزلة التي يعيشها الأفراد داخل الجزيرة وهو ما يعمّقه أكثر لاحقا من خلال تركيزه على شخصية العجوز “كواريك”. يبرز المخرج مشاهد قاحلة وأخرى تترجم الفقر من خلال لقطات على ملابس أهالي الجزيرة وأخرى على الفضلات المتناثرة هنا وهناك، كما تبرز وجهة نظر المخرج حيث تحيل الصور على موقف خفي يجعل من الكاميرا شاهدة على حقد الإنسانية وحسد البعض للبعض الآخر والغيرة التي تحضر حتى في أتعس الظروف. يمكن تقسيم الفيلم إلى ثلاثة أجزاء حيث يهتمّ المحور الأوّل بتقديم المجتمع المصغّر والظروف الصعبة لأهالي الجزيرة وعزلة “كواريك”، فيما يهتمّ المحور الثاني بالتركيز على شخصية العجوز “كواريك” ومغامرته مع صندوق الكنز ليرصد لنا ردّة فعل الأهالي وتقرّبهم وغيرتهم منه، أما الفصل الثالث من الفيلم فيبرز أساسا قصة الحب التي جمعت “ريمي” بـ “سوازيق” ابنة العجوز، يدفعه أبوه للارتباط بها طمعا في الحصول على الكنز إلا أنّه يقع في شراك حبّها فعليّا حتى أنّه غامر بحياته لإنقاذها من الرمال المتحركة.

يبني المخرج “إبستين” فيلمه على التضادّ حيث يلوح الفقر منذ البداية وتنشأ قصة كنز ليصيغ السرد الفيلمي بناء على النقيض، بين العزلة والتكتل، بين الطمع والصدق، بين حبّ مزيّف وآخر حقيقي. لقد انبنى هذا الوثائقي على أسطورة الجزيرة، غير أنّ “إبستين” انطلق بالكاميرا انطلاقا من التوثيق للواقع مستعينا بالجانب التمثيلي، فكان المزج بين هذا وذاك وبالتالي توثيق أسطورة الكنز في هذه الجزيرة دون اللجوء إلى سرد الحكاية فعليّا. هكذا تعطي المادّة الوثائقية للمشاهد التمثيلية إحساسا بالصدق ويصير التخييل واقعا يخدم الواقع، بل يبرز دور التمثيل في خدمة التوثيق حيث تبرز مشاهد تمثيلية توضيحية لم يكن للوثائقي أن يبيّنها.
ما يمكن ملاحظته على المستوى الجمالي، أنّ “إبستين” اقتصر في أغلب المشاهد على لقطات مقرّبة فيما كانت اللقطات عادة ما تخفي ذلك الامتداد الطبيعي في الجزيرة والبحر والسماء. ولعلّ الاعتماد على هذه اللقطات جاء بصيغة جمالية لتضييق تركيبة المشاهد وتعميق عزلة ساكني الجزيرة في نظر المشاهد. وبالتالي يلوح هذا الوثائقي مقلقا منذ المشاهد التي تظهر نوعا من الوحشة منذ مشاهد الفقر الأولى وصور الجزيرة القاحلة، وهذا الفراغ يتعمّق خاصة على مستوى التأطير وتكوين الصورة. ويزداد القلق من خلال هذه الشخصيات “الحقيقية” التي تضفي الانغلاق حيث تبرز داخل فضاء القرية الضيّق. أمّا على مستوى الإضاءة فقد اعتمد المخرج على التضاد بين القيم الضوئية، حيث تتجلى الظلمة في أغلب المشاهد، باعتبار أنّه قد اختار التصوير في الأماكن المغلقة دون الاستفادة من المشاهد الطبيعية الجميلة وهو ما يعمّق تراجيديا “ذهب البحار” ويحيل إلى التوثيق حيث اعتمد “إبستين” على ممثلين غير محترفين ويلوح التصوير خاطفا في بعض الأحيان دون الإعداد المسبق حتى للمشاهد التمثيلية بسبب طبيعة متغيّرة.
“ذهب البحار” هو استعارة تجعل من الذهب لعنة على العجوز وتكشف نفاق مجتمع مصغّر، لكن العنوان الرئيسي للفيلم وانصهار الأسطورة وسط التوثيق يكشف أنّ الأسطورة ما هي إلا ذريعة لتوثيق أهالي الجزيرة، في حين يبقى الكنز لغزا مثل الأساطير ويُطرح بالتالي السؤال: هل أنّ ذلك الصندوق الذي عثر عليه “كواريك” يحتوي فعلا على كنز؟ أم أنّ الأسطورة والفيلم يبقيان غامضين في النهاية؟
“ذهب البحار”… إبداع تجريبي
تمّ تصوير الفيلم الوثائقي “ذهب البحار” بعد سنوات قليلة من ظهور الأفلام الناطقة، حيث انطلق تصوير هذا الفيلم دون صوت لتتم إضافته لاحقا لتسجيلات بالشركة المنتجة ” سيني سانكرو”، غير أنّ النتيجة كانت مخيّبة للآمال حيث برزت أخطاء التناسق بين الصوت والصورة فيما ظهرت حركة الشفاه غير متوافقة مع تسجيلات الأغاني المضافة. وبالرغم من إضافة التعليق ومحاولة التدارك، إلا أنّ هذا الخلل كان تجريبيا باعتبار أنّ السينما الصامتة كانت تشهد تحوّلا عميقا وهو ما استدعى التجريب وأظهر الأخطاء التقنية حينها حيث كان الصوت أحد العناصر المقلقة بل رأى البعض أنّ الفيلم في بعده الصامت يعتبر كنزا توثيقيا.

على أرض الواقع، اضطر “إبستين” إلى الاعتماد على إعادة تركيب الصوت بسبب الظروف المناخية القاسية بالجزيرة في فترة فصل الشتاء، كما اضطر أيضا إلى إعادة تصوير عدّة مشاهد بسبب تلف مستحلب الفيلم بسبب الرطوبة العالية، غير أنّ عرض الفيلم بحسب وثائق المكتبة السينمائية الفرنسية لاقى رضاء النقاد آنذاك واعتبروه بمثابة إبداع تراجيدي بصري بحث عن الواقع من خلال التخييل والعجائبية ليعايش القلق.
لم يتوقف صدى “ذهب البحار” عند فترة الثلاثينيات، حيث أنجز “باتريك لوغال” فيلما وثائقيا بعنوان “جزر” سنة 1982 عاد فيه إلى جزيرة “هدويك” من خلال الشخصيات التي بقيت على قيد الحياة والتي شاركت سابقا في فيلم “ذهب البحار”. هكذا كان الفيلم الوثائقي “جزر” بمثابة عودة لشخصيات لم تشاهد الفيلم الذي كانوا أبطاله ليكتشفوا ذواتهم مرة أخرى أمام الكاميرا بعد أكثر من خمسين سنة على وثائقي “ذهب البحار”.