فيلم أشعرني بالحسرة..

مروة صبري

شعرت بحسرة شديدة وأنا أشاهد فيلم Extremely Loud and Incredib ly Close هذا الفيلم بطولة الطفل توماس هورن وساندرا بولوك مع توم هانكس الذي نقل الصراع الداخلي والخارجيّ لأوسكار شِل في محاولته إيجاد منطق وراء موت والده في برج التجارة العالميّة في الحادي عشر من سبتمبر 2001، تلك المأساة التي اتخذت ذريعة لتعكير ما كان متبقيًّا من صفو في العالم شحذني بتعاطف وبشجن لهذا الطفل اليتيم الذي فقد صديقه الوحيد في العالم، فنحن كعرب تمتلىء شاشاتنا الإخباريّة باليتامى والثكالى والأرامل وقلما عبرنا عن ذلك في صورة إبداعيّة مماثلة، فلا أبالغ حين أقول إنّه لو تم محوّ آلاف الأفلام العربيّة من تاريخ الإبداع لازدادت السينما العربيّة ثراءً.

مشهد من الفيلم لأحداث الحادي عشر من سبتمبر

العلاقة بين أوسكار ووالده علاقة متميّزة لا تعوّض، فما لفت انتباهي هو تفاني والده في تربيته، فقد كان يستوعبه ويعمل على تقويته لا على السخريّة من مواطن ضعفه، كان يجمعهما حب المغامرة والبحث والعلوم فكان والده حريصًا على ملء حياة ابنه بكل ما يحبان معًا. كان يلقي عليه تحديًّا تلوّ الآخر وينثر مفاتيح الألغاز ويحثه على البحث عنها وقد اقتبس المخرج ستيفن دالدري روح الأحجية في المقدمة وقبل نزول اسم الفيلم، فقد ركزت الكاميرا على قدم تتحرك في الهواء ثمّ يد لنفس الرجل الذي لم يظهر وبمشاهدة الفيلم نعرف أنّ الأب كان يحب أرجوحة بعينها في الحديقة المركزيّة في نيويورك، وكان يشجع ابنه على تجربتها وكان الابن يرفض لخوفه من السقوط، وكان رد الأب أنّ عليك مواجهة مخاوفك أحيانًا. ثمّ يتحدث الابن مع نفسه عن تزايد عدد الموتى في العالم ويفكر في بناء مبان عميقة تحت الأرض لاستيعاب هذه الأعداد بينما يعيش الأحياء في ناطحات سحاب فوقهم. بهذا رسّخ المخرج للحبكة الأساسيّة في الفيلم وهي مواجهة الموت كجزء من الحياة.

أوسكار وهو يجرب ركوب الأرجوحة في الحديقة المركزية في نيويورك

بعد المقدمة مباشرة يلقي بنا دالدري إلى جنازة الأب التي رفض فيها ابنه أوسكار النزول من السيارة وظلت جدته بجانبه تبكي بينما لا يظهر هو أي مشاعر غير الضجر من دفن صندوق خال كرمز للرجل الذي كان أباه. ويظل المخرج يركز على الحاضر ولا ينقل إلينا من الماضي إلا ما نحتاجه لفهم الخلفيّة النفسيّة للحوار الحالي. لم ينس أوسكار أيا من الدروس التي علمها له والده ولا الأحجيات، بل كان يسردها لنفسه، ومن أكثر ما ذكره هو أنّ مدينة نيويورك كانت تحوي ست إدارات قبل انفصال إحداها واختفائها. تلك الإدارة كانت رمزًا لأبيه الذي كان أحد الأركان الأساسيّة في حياته وانفصل عنه فجأة ولن يعود. كان كل ما يريده أوسكار هو الوصول إلى أيّ منطق يفسر ما حدث في ذاك اليوم المشئوم. لم تكن هناك إجابة وفي حوار متصاعد بينه وبين أمه (ساندرا بولوك) قالت لا أعرف لماذا صدم أحد طائرة في مبنى، لا تحاول أن تصل إلى منطق لأنّه لا يوجد منطق هنا.”

لكنّ أوسكار لم يستطع الاستسلام وبعد مرور سنة كاملة وجد في نفسه الشجاعة ليفتح خزانة ملابس والده التي لم يمسسها أحد، فشرع يتلمس كاميرا كانت لجده فانزلقت مزهريّة زرقاء وتحطمت وكان بداخلها ما غيّر مسار الفيلم، فقد وجد ظرفًا صغيرًا يحوي مفتاحًا وعليه اسم Black، فلجأ إلى دليل التليفونات وقسم كل من يحمل هذا الاسم إلى مناطق وشرع يقابلهم جميعًا عله يجد ما يفتحه هذا المفتاح.

أوسكار ووالده

في خلال تلك الرحلة صحبه رجل عجوز يستأجر غرفة في بيت جدته ويحمل الكثير من الأسرار. الرجل فقد القدرة على الكلام فكان يكتب له فقط. كاد البطل يفقد الأمل في العثور على قلب يعشّق فيه هذا المفتاح وفي النهاية لم يكن العثور على ذلك أو عدمه هو المكسب كما ظنّ أوسكار، بل نموه وتطوره ومصالحته لنفسه ولأمه ومشاركة الناس آلامهم وآمالهم. الكنز البشريّ جعله أكثر ثراء من أي شيء كان من الممكن أن يجده.

عنوان الفيلم

يحمل الفيلم نفس عنوان الكتاب ولا توجد إجابة وافية لتفسيره، فيمكن أن يكون الشييء الغاية في علوّ الصوت الشديد القرب هو والده الحاضر الغائب كما يمكن أن يقصد الموت. جوناثان سافران فووير كاتب الكتاب غير مهتم بإعطاء معان لكتبه لكنّه يهتم بمعرفة الذي سيصل إليه الناس دون توجيه منه.

الممثلون

يتصدر اللوحات اسما توم هانكس وساندرا بولوك لكن القصة تدور حول الطفل أوسكار (توماس هورن)، أما والداه فدوراهما على أهميتهما مساعدة لا تظهر قدراتهما لذا لم يكن من الغريب أن يحصد الممثل الصغير أكثر من جائزة، فشخصيته المرسومة غاية في التعقيد، فهو متحفظ ومتهور، جبان وشجاع، ناضج وساذج، عصبيّ وهاديء، وقد أجاد هورن أداء جميع تلك الانفعالات.  أوسكار يعاني من أنواع متعددة من الفوبيا وبعد اليوم العصيب طالت القائمة التي على رأسها الخوف من الكباري، فقد كان يفكر في بداية الفيلم أن تبنى مدافن عميقة تحت الأرض لاستيعاب أعداد الموتى المتزايدين ويمكن الوصول إليهم عن طريق المصاعد وشبه المصاعد بالكوبري الذي يعبره للذهاب إلى بروكلين، نيويورك. فتتويجه للكباري على رأس قائمة الهلع مع تشبيهها في أول الفيلم برابط بديل لزيارة الموتى يوضح خوفه من الموت وعدم استعداده لمواجهته.

الطفل أوسكار وهو يستلم إحدى الجوائز

السيناريو والحوار

حوارات أوسكار الذاتيّة تحتل النصيب الأكبر حيث إنّ شخصيّته إنطوائيّة، شديدة الذكاء لدرجة يصعب تناسبها مع سنه، وشرح ما في رأسه يتطلب جهدًا كبيرًا حتى أنّه يروي أنّه خضع لاختبارات للتأكد من أنّه لا يعاني من “إسبيرجر” وهو نوع من التوحد. ما كرهته في الحوار هو السباب في كلام أوسكار فإن أراد استخدام ألفاظ قبيحة، أضاف عدة حروف على اللفظ الأصليّ ليصل المعنى دون أن يخلّ ذلك بتقييم الفيلم من PG 13 إلى R، فالتأثير السلبي على الشباب قد تمّ بالفعل لأنّ المقصد مفهوم دون أن يخسر صنّاع الفيلم قطاعًا كبيرًا من الجمهور الصغير. هذا السباب لم يوصل لي إحساس الغضب والحزن الذي يعانيه البطل بل أفقر الحوار.

الإضاءة 

تغيرت الإضاءة مع تغير مكان التصوير، فالتصوير الخارجيّ كان بإضاءة طبيعيّة سواء في الليل أو النهار، أمّا التصوير الداخليّ فعمد المخرج إلى مزج القليل من أشعة الشمس مع إضاءة الغرفة الخافتة فلا نجد وجه أوسكار إلا وعليه الظل والنور معًا وهذا عادة في حالات بحثه عن حلقة جديدة في اللغز الذي يظن أنّ والده قد تركه له.

مشهد من الفيلم

الأديان في الفيلم

أسرة أوسكار مسيحيّة يؤكد ذلك مراسم الدفن الرمزيّ التي أعدتها ساندرا بولوك، لكنّ قصة جده التي رواها له والده تؤكد أنّ الأب من أصل يهوديّ وأنّ جده وجدته الأكبر تعرضا للقتل في ألمانيا ورغم أنّ كاتب السيناريو إيريك راث لا يفصح عن ذلك إلا أنّ ما يتبادر للأذهان هو “الهولوكوست”، حيث اضطهد هتلر اليهود باسم الدين وبعد هروب الجد إلى نيويورك، قتل ابنه في برج التجارة العالميّة على يد مسلمين وإن كان راث هنا أيضًا لا يفصح عن ذلك. الكاتب يعتمد الرواية الأمريكيّة الرسميّة لأحداث الحادي عشر من سبتمبر حيث تدّعي الحكومة الأمريكيّة أنّ سبب انهيار برجيّ التجارة العالميّة هو اصطدام طائرتين ما أدى إلى نشوب حريق انهار على إثره المبنى. هذه الروايّة الخياليّة التي تعامل معها الكاتب كمسلمات هي من نقاط افتقاره إلى البحث العلميّ، فمن المحال أن يصل حريق إلى درجات حرارة تصهر المعادن وتهدم بنيانا بهذا الحجم وبهذه المواصفات التقنيّة وفي هذا الوقت الوجيز؟ 

كذلك لفت نظري غياب أيّ شخصيّة مسلمة في الفيلم على الرغم من أنّ من أهم ما توصل إليه أوسكار هو التواصل مع الناس على اختلاف خلفياتهم وألوانهم. فقد أظهر البيض والسود والآسيويين والمسيحيين واليهود والشواذ.

الجد الصامت حين تكلم

حين أكتب عن فيلم أشعر برغبة في معرفة أبطاله أكثر فأبحث عن لقاءات يتحدثون فيها عن الشخصيّة التي قاموا بأدائها. ماكس فون سايدو الممثل السويدي الذي قام بدور الجد الذي فقد القدرة على النطق بعد تعرضه لصدمة نفسيّة، قال في لقاء تليفزيونيّ إنّه لا يريد أن يعذر أحدًا لكن الهولوكوست كان خلال حرب كل طرف يقتل فيها الآخر، أمّا 9-11 فكانت هي البداية بدون مقدمات. واختلف معه كليّة لأنّ أحداث سبتمبر كانت ردة فعل ولم تكن هي الفعل هذا لو سلمنا بأنّ تنظيم القاعدة هو بالفعل الذي كان وراء الحدث ذلك لأنّ هناك العديد من الخفايا التي لم تفصح عنها الحكومة الأمريكيّة والتي يمكن بسهولة تفسيرها على أنّها تواطؤ، لكن ما يهمنا من الناحية الفنيّة هو براعته في آداء الدور وخطفه لتعاطف الناس حتى أنّه قد تمّ ترشيحه عن دوره في هذا الفيلم لجائزة أفضل ممثل في مسابقة جمعيّة نقاد سان دييجو.

ماكس فون في دور الجد

فاز الفيلم وبعض ممثليه بعدد من الجوائز، فقد فاز توماس هورن بجائزة جمعيّة فينيكس لنقاد الأفلام وبجائزة اختيار النقاد لجمعية نقاد السينما للبث، كما فاز المخرج ستيفن دالدري بجائزة أفضل مخرج في مهرجان بالم سبرينغز السينمائي الدولي، 2012.

وفي النهاية أعود لحسرتي على غياب الوعيّ العربيّ، فإنّ العرب يعانون من جميع أنواع القمع والقهر ولكن أفلام المقاولات التجاريّة هي ما يتصدر أولويات السينما العربيّة، فنحن محاصرون حين يتصدر الغرب صناعة السينما ويبثون الصور السلبيّة عن العرب من ناحية، ومحاصرون حين يتصدر العرب ويركزون على جمع أموال كثيرة برسائل فقيرة.

 

 


إعلان