“في الجحيم” مغامرة هيرتزوغ الجديدة

أمير العمري

مرة أخرى يرحل المخرج الألماني الكبير- سنا وتجربة ومقاما-فيرنر هيرتزوغ- من خلال فيلمه الوثائقي الجديد “في الجحيم” (2016)  Into the Infermo إلى مغامرة سينمائية من مغامراته الجنونية التي يحاول من خلالها سبر أغوار العلاقة المعقدة بين الإنسان والطبيعة، وبينه وبين الكوكب الأرضي بألغازه وأغواره.. فمنذ أفلامه الأولى وهو يبحث بدأب عن أسرار الحياة على ظهر الأرض، في علاقتها بالإنسان، ما الذي يفعله الإنسان بهذا الكوكب، وكيف يجترئ على تحدي الطبيعة أحيانا دون أن يدرك مدى ما تستطيع أن تنزله به من نكبات لا يحسب لها عادة- حسابا.

المخرج الألماني "فيرنر هيرتزوغ"

منذ أفلامه الأولى كان هيرتزوغ مهتما بما يحدث في العالم، فقليلة للغاية هي أفلامه التي أنجزها في بلده ألمانيا، لكنه في المقابل، صور أفلاما في كل قارات العالم، وكان دائما مغرما بالوثائقي، رغم أفلامه الروائية الخيالية الكثيرة الممتعة، فالوثائقي (الذي أخرج منه 12 عملا) يتيح له الفرصة لاكتشاف مناطق جديدة مجهولة من العالم، ويخوض المغامرة الشبيهة بمغامرة الإنسان الأزلية، في البحث عن معنى لوجوده، عن علاقته بالأرض وبما وراءها. صعد هيرتزوغ قمة جبال الأنديز في “فيتزكارالدو” (1982)، كما هبط إلى قاع كهف من الكهوف الأسطورية لتصوير نقوش تركها الإنسان القديم في “كهف الأحلام المنسية” (2010). صور عقلية قاتل اعترف بجريمته قبل أن يلقى نهايته بالإعدام في “في جهنم” (2011)، واقترب بالكاميرا إلى حد لم يسبقه إليه أحد من حرائق آبار النفط الكويتية في “دروس الظلام” (1992).

ذهب هيرتزوغ إلى أقصى حدود المغامرة في فيلمه الروائي الشهير “فيتزكارالدو” الذي يروي قصة رجل فاحش الثراء، كان واحدا من أقطاب صناعة المطاط في بداية القرن العشرين، وكان يوجد تحت إمرته جيش خاص مؤلف من خمسة آلاف رجل، لكنه كان عاشقا للموسيقى الكلاسيكية وللأوبرا، وقد جعل هيرتزوغ هذا الرجل الأسطوري، يذهب في سفينة ضخمة عبر النهر في غابات الأمازون، بمساعدة ألف رجل من السكان المحليين، لتدبير المال اللازم لبناء دار للأوبرا في تلك المنطقة من العالم، عن طريق جمع المطاط من ملايين الأشجار هناك. وقد أصر هيرتزوغ على بناء سفينتين حقيقيتين بالحجم الكامل، وجعل الرجال يرفعون الأولى إلى قمة الجبل للعبور بها إلى الجهة الأخرى من النهر، وصوّر الثانية وهي تهبط من الجهة الأخرى. وقد قضى في البداية سنتين كاملتين في منطقة الغابات في بيرو، يدرس الطبيعة، ويبني السفينتين مع رجاله من السكان الأصليين، الذين كانوا يقيمون في مخيم ضخم مع فريق الفيلم من الفنيين والمساعدين.. فهل هناك جموح أكثر من هذا!

مشهد من فيلم "فيتزكارالدو" 1982

نهاية العالم

إلا أن فيلم “في الجحيم” الذي لا يحمل معنى دينيا مباشرا، يرتبط أكثر بفيلم “لقاءات عند نهاية العالم” الذي أخرجه هيرتزوغ عام 1977 ، وقد صوره في أيسلندا حيث كان يقتفي أثر من سبقوه في تصوير البركان الهائل هناك، والتقى خلال ذلك بالعالم البريطاني كلايف أوبنهايمر المتخصص في جيولوجيا البراكين، وهو الذين استعان فيه كمحلل وشارح ومفسر للكثير من الظواهر الجيولوجية العلمية في الفيلم الجديد، بينما جاء صوت هيرتزوغ من خارج الصورة، معلقا على المغزى الإنساني للفيلم، أي ملقيا الضوء على غموض الطبيعة وقوتها التي لا يدركها الإنسان، وكيف يمكن أن تصب جام غضبها في أي لحظة على كوكبنا كما يمكن أن تتسبب في دماره.

ينتقل هيرتزوغ مع مصوره الكبير بيتر زيتلنغر الذي يعمل معه منذ 1995، من أستراليا إلى أيسلندا، ومن إثيوبيا إلى إندونيسيا وكوريا الشمالية.

في أيسلندا يعود هيرتزوغ مع رفيقه وصديقه أوبنهايمر الذي التقاه هناك قبل عشر سنوات عندما كان يصور فيلمه “لقاءات عند نهاية العالم”، يقترب بالكاميرا من البركان الهادر الموجود في منطقة تحيط بها الثلوج شاهدا على قسوة الأرض وجرأتها، يصور الحمم المتصاعدة منه، يصنع تكوينات لونية مثيرة تمنح الانطباع بسوريالية الطبيعة.. يستعيد في لقطات هائلة، ما صوره عالم البراكين الفرنسي موريس كرافت وزوجته من قبل في لقطات اقتربت خلالها الكاميرا إلى مسافة مرعبة من الحمم المنصهرة وألسنة النيران، يصفها هيرتزوغ بأنها مثل شلالات من الدماء المتدفقة من جسد الأرض، ولكننا نعرف أن هذا الاقتراب المثير الذي وفر لنا هذه الصور المرعبة للبركان ونيرانه الممتدة، قضى أيضا على حياة العالم الفرنسي وزوجته.

في إثيوبيا يبحث هيرتزوغ مع مجموعة من السكان المحليين بصحبة عالم براكين أمريكي عن بقايا العظام البشرية في منطقة شهدت في الماضي السحيق (يقال في الفيلم “قبل عشرة آلاف سنة”) بركانا هادرا قضى على حياة الكثير من السكان الأصليين. يقوم الرجال أمام الكاميرا باتباع نصائح العالم الجيولوجي، في ازاحة الرمال والبحث عن قطع العظام البشرية ومحاولة وضعها معا بحيث تتكون منها عظام الساق أو الفخذ وغير ذلك.

مشهد البراكين من فيلم "في الجحيم"

إعادة اكتشاف كوريا الشمالية

وعندما ينتقل هيرتزوغ في الجزء الأخير من الفيلم إلى كوريا الشمالية (بيونغ يانغ) للبحث عن بركان قديم في منطقة جبل بايكدو النائية على الحدود مع الصين، يكتشف وجود علاقة وثيقة بين البركان والديكتاتورية وعبادة الحاكم الفرد، فقد استخدمه كيم إيل سونغ الذي أقام مقر قيادته بالقرب من البركان الخامد إبان فترة النضال ضد الاحتلال الياباني، ثم ورث ابنه وحفيده وروجا للأسطورة التي تربط بين البركان (الذي يكتسي معنى أسطوريا فينسبون إليه بث الحياة في الشعب ودفعه لعمل المعجزات الاقتصادية والعسكرية وغيرها)، وبين تقديس الحاكم الذي استمد قوته وحكمته من “روح البركان” الذي أصبح امتدادا للأسطورة وملهما للجماهير.

لا يستطيع هيرتزوغ أن يقاوم التلصص بكاميرته وتصوير ملامح البارانويا السياسية في كوريا الشمالية، فهو يصور محطات قطارات الأنفاق التي تقع على بعد مئات الأمتار تحت الأرض ضمن الشبكة الضخمة التي شيدها الكوريون تحسبا لهجوم نووي على بلادهم، ومشاهد مجاميع الأطفال والشباب وهم يؤدون الاستعراضات الرياضية الاحتفالية التي تمجد الزعيم الأوحد في الملاعب الرياضية باستخدام الأعلام والألوان الزاهية التي تتخذ تكوينات تقتضي بالطبع تدريبات مكثفة، وكيف تدرب السلطة الأطفال منذ سن مبكرة على ممارسة الألعاب الرياضية الشاقة مثل رفع الأثقال بما في ذلك الفتيات الصغيرات، ويلتقط أيضا شرائط الدعاية السياسية التي يعرضها التليفزيون، ويعلق بالقول إن الكوريين هم أكثر الشعوب انعزالا عن العالم، وأنه محظور عليهم استخدام الانترنت، كما أنهم لا يعرفون شيئا عن العالم الخارجي سوى ما تبثه قنوات الدعاية التليفزيونية لهم ليلا ونهارا!

في هذا الجزء يؤدي الاهتمام بالجانب السياسي الناتج بالضرورة عن توفر الفرصة للتصوير في بلد مغلق تماما أمام كاميرات المصورين، إلى الخروج عن سياق الفيلم بعض الشئ، وهبوط في الإيقاع العام، ولكن سرعان ما يلتقط هيرتزوغ الخيط مرة ثانية قرب النهاية ليعود إلى موضوعه الأصلي، فينتقل إلى حيث بدأ، أي إلى جبل ياسور بجزيرة تانا في شرق أستراليا، حيث يصور البركان الحي الملتهب.

جبل بايكدو، كوريا الشمالية (أ ف ب)

 البركان والأسطورة 

يتطلع هيرتزوغ إلى فوهة البركان الهائلة من خلال حركة الطائرة المروحية من على مسافة كبيرة، ومن زاوية مرتفعة وعلى خلفية الموسيقى الأوبرالية والكورال الذي ينشد ما يشبه التراتيل الدينية.. ثم تستدير الطائرة ومعها الكاميرا في حركة دائرية كاملة لنرى الحمم البركانية تندلع من جوف البركان بينما تقف مجموعة المصورين والعلماء على حافة الفوهة الرهيبة. تقع انفجارات مدوية، يقذف البركان بحممه، تتصاعد الأبخرة الدخانية الملتهبة، تهبط الكاميرا مع هبوط الطائرة إلى أسفل حيث تتجه إلى رجل وامرأة يرتديان الملابس البيضاء الواقية من الحرارة الشديدة، وهما يتجهان نحو حافة الأخدود الضخم، لتتحرك الكاميرا مرة أخرى إلى اليمين وتقترب من ألسنة اللهب المندلعة.

يقول تعليق هيرتزوغ بصوته الذي أصبح واهنا يعكس تقدمه في العمر، إن هذا البركان صنع معبودا جديدا كما فعل في كوريا الشمالية (إشارة إلى الحاكم الفرد المعبود).. وهو معبود يدعى “جون فروم”، الجندي الأمريكي الذي يعتقدون أنه هبط من السحب وسكن في قلب البركان، وينتقل هيرتزوغ ليصور كيف يحتفل السكان ويرقصون وينشدون الأغاني احتفالا بمعبودهم المقدس يوم الجمعة من كل أسبوع. 

يولي هيرتزوغ اهتماما كبيرا – ليس بالبركان في حد ذاته – بقدر محاولة فهم السكان الذين يقيمون بالقرب منه، لا يخشون على حياتهم في حالة اندلاع حممه ونيرانه، وما نسجوه من أساطير حول البركان.

في الجحيم (2016) أوبنهايمر -يسار- وهيرتزوغ في إحدى فوهات جزيرة فانواتو جنوب المحيط الهادي

يزور هيرتزوغ شيخ إحدى القبائل، وهو قد رفع على كوخه العلم الأمريكي، علم البلد الذي ينتمي إليه جون فروم. يؤمن الرجل بأن جون فروم سيعود حاملا الخيرات لسكان الجزيرة.. يناقش العالم أوبنهايمر الرجل، ويسأله إذا ما كان يؤمن بأن جون فروم سيعود ذات يوم ومعه الكثير من الأشياء، من اللبان الماضغ، والثلاجات إلى طائرات البوينغ.. يقول له الشيخ إن هذا ما وعدت به الروح.. روح جون فروم ذات يوم في الماضي.. يعود أوبنهايمر ليسأل: هل جون فروم مثل إله بالنسبة لكم؟ يجيبه بأنه كالمسيح أو مثل بوابة، يجب أن تمر عبرها قبل أن تصل إلى الإله.

أما إبن شيخ القبيلة الذي يحاوره أوبنهايمر بعد ذلك، فهو يعتقد أنه قضى ليلة كاملة داخل البركان قابل خلالها جون فروم وتحدث إليه، وأنه لم يكن يشعر بالخوف لأنه بصحبة “الإله”، وهو على يقين من أن جون فروم سيعود مستقبلا، لكنه لا يكشف لأونهايمر ماذا  قال له جون فروم، بل إنه لم يقل لأبيه ولا لأتباع الإله البركاني! 

على خلفية لقطات قريبة للبركان الهادر، يقول هيرتزوغ إنه “يصعب أن تبعد عينيك عن النار التي تحترق تحت أقدامنا، في كل مكان تحت قشرة القارات وقاع البحار، إنها النار التي تريد أن تنفجر بعيدا، والتي لا يهمها ما نفعله على سطح الأرض، فهذه الكتلة الهائلة من النيران لا تقيم وزنا لنا، فالصراصير الصغيرة، والزواحف البليدة، مثل البشر الذين لا وزن لهم”. 

إنها رؤية متشائمة لمستقبل الإنسان والعالم، لكنها مع ذلك، رؤية مثيرة للفكر والخيال من الناحية الفنية، شانها شان أفلام هيرتزوغ التي تعكس قلقه وحيرته واضطرابه أمام ما يحدث في العالم من متغيرات سريعة يوما بعد يوم.


إعلان