“عصفور مشاغب”.. الاصطياد بالكاميرا!
قيس قاسم
ليست قصة الصينية “يه هايان” وحدها العجيبة، بل الطريقة التي تمت بها عملية نقلها إلى الشاشة أيضاً، فالغرابة أحاطت بالفيلم من كل جهاته؛ من طريقة تصوير أجزاء غير قليلة منه بكاميرا خفية مثبتة على عوينات زجاجية ومن إصرار صانعته “نانفو وانغ” على تثبيت المشاهد “المهتزة” بل وحتى “المقلوبة”، نتيجة سقوط الكاميرا من يدها على الأرض أو بفعل اهتزازها العنيف أثناء محاولات رجال الشرطة انتزاعها منها بالقوة وإتلاف محتوياتها أكثر من مرة، إلى درجة صار اهتمامها منصباً لا على ما هو مسجل فوق أشرطتها فحسب، بل على خزين “ذاكرتها” الإلكتروني والعمل مهما كلف الأمر على إخراجه من الصين بعد تأكدها من أن عملها على توثيق تجربة ناشطة مدنية، غير عادية، لن يسير بسهولة ما دامت السلطات الصينية بكل “عظمتها” قد قررت ملاحقتها وإسكات صوتها، مع أنها لم تتجه صوب السياسة مباشرة، بل ركزت نشاطها على حماية الأطفال من الاستغلال الجنسي والمطالبة بتوفير شروط صحية أفضل للنساء الفقيرات المدفوعات بقوة الحاجة للعمل في بيوت الدعارة.

لتوثيقها والتعرف على خفاياها قررت الناشطة “يه هايان” التطوع للعمل مجاناً في إحدى بيوت الدعارة وبذلك أضافت غرابة أخرى على فيلم Hooligan Sparrow وورطت دون قصد منها مخرجته في نشاط “محظور” عرضها للمساءلة القانونية ولملاحقة رجال المخابرات الصينية، وبسبب كل تلك “الخلطة العجيبة” جاء منجزها متفرداً بأسلوبه، سجالي المضمون تشابكت فيه الأدوار والحكايات أما أبرز أبطاله فكانوا؛ أرض الصين الواسعة، الكاميرا و”عصفور مشاغب”.
لا تلتزم الصينية “نانفو وانغ” بسياق زمني تقليدي لأحداث فيلمها، والأرجح أن ظروف تصويره وطبيعة نشاط بطلتها، التي جاءت من الولايات المتحدة الأمريكية من أجل توثيقه، فرضت “اللعب” المحبب. فالمشهد الأول حيث تظهر فيه المخرجة وهي تستعد لمقابلة رجال المخابرات في بيتها لاستجوابها حول علاقتها بالناشطة هو في الحقيقة المشهد الأخير من مغامرتها في الصين وهكذا في مشاهد أخرى نرى الزمن يتحرك جيئة وذهاباً وفق سياق السرد الذاتي لا المسار الواقعي لتطور الأحداث، وتنوع أماكن وقوعها بسبب كثرة هروب الناشطة من مدينة إلى أخرى. ويمكن إضافة استعدادها الداخلي لروي الحكايات بطريقتها الخاصة إلى بقية الأسباب. طريقة سرد مختلفة تجمع بها الصوت (بوصفها راوية للأحداث) مع الصورة المسجلة بكاميرتها وتعرف جيداً كيف تنقل مشاعرها لحظة التقاط كل لقطة فيها. عملية التوليف بينهما (المونتاج) حصيلتها كانت فيلم؛ طريق ومغامرة واستقصاء. تداخلت بسببه مصائر شخصية واقعية لم يخطط لها على الورق فجاء الوثائقي الصيني، بقوة فعلها الإنساني، صادقاً في نقله الواقع عبر السينما ورؤية المشاركين أنفسهم فيها.

لم تتعرف المخرجة “وانغ” على الناشطة “يه هايان” في الصين، سمعت باسمها المستعار “عصفور مشاغب” من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وهي في الخارج وزاد اهتمامها بمتابعة نشاطاتها بعد نقل الصحف الأمريكية تفاصيل تجربتها في “المبغى” فقررت توثيقها دون الاستنكاف من وجود دوافع شخصية. فتجربة النساء المشتغلات في تقديم “الخدمات الترفيهية” للعمال المهاجرين من الأرياف إلى المدن دون زوجاتهم تعرفها جيداً. هي أيضاً مثلهن جاءت من الريف إلى المدينة بسبب الفقر وتعرفت عن قرب ما الذي يتعرضن له من أصناف الذل والاستغلال الجسدي.
المصادفة وحدها هي من غَيَّر موضوع فيلمها، فحال وصولها الصين كانت “العصفورة” منشغلة في ملاحقة فضيحة “أطفال المدارس”. قادت في مدينة تبعد مئات الأميال عن مكان إقامتها حملة قوية مع بقية ناشطات طالبن فيها الكشف عن أسباب اختفاء ست طالبات من مدراسهن، سيتضح لاحقاً أن اثنتين منهن (11 + 14 سنة) كانتا، كما رصدتهن كاميرات الفندق، في غرفة بصحبة مدير المدرسة وأحد كبار موظفي المدينة، لاحظت المخرجة أثناء تصويرها المظاهرات المطلبية للناشطات، وجود أشخاص يراقبونها ويصورونها، سيتضح لاحقاً لها أنهم رجال شرطة كلفوا برصد تحركاتها، ففي الصين يُمنع أي نشاط خارج إرادة قادتها وأجهزة أمنها وأكثر ما يخيفها؛ الكاميرا والعمل المدني المستقل والأشنع بالنسبة إليها المساس بحرمة “كبار” موظفيها.

ملاحقة الناشطات للقضية كشفت عن وجود تقاليد فساد راسخة من بينها؛ تقديم مدراء مدارس البنات بعض طالباتهم “هدية” إلى موظفي الدولة، مقابل حصولهم على امتيازات، وبسبب طبيعة نظام يضع قادة البلاد موضع الآلهة، غالباً ما يسكت أهالي الضحايا عن حقهم ولهذا السبب أيضاً كان وجود “العصفورة” مقلقاً لإدارة المدينة فعملوا على طردها منها، شعورها بالخطر المحيط بها وبطفلتها سيدفعها لطلب المساعدة المباشرة من المخرجة وبالتحديد من كاميرتها القادرة على توثيق ما قد تتعرض له، ستنشأ بالتدريج علاقة إنسانية خاصة بين “العصفورة” والمخرجة وفي مراحل متقدمة حين كان تجد نفسها محبوسة في أقفاص الحكومة، تطلب منها رعاية طفلتها فصارت المخرجة لها راعية ثانية.
تسرد “وانغ” مسيرة عذابات “العصفورة” وهجرتها الدائمة هرباً من ملاحقة الشرطة وعملائها، الذين لم يتورعوا عن ضربها وتأليب أصحاب الشقق على طردها أكثر من مرة، التحفت مع طفلتها السماء ونامت في الشوارع لكنها لم تستكِن في الدفاع عن الأطفال المعرضين للانتهاك الجسدي، حبها لابنتها والخوف من تعرضها مثل كثر من الأطفال لاستغلال جنسي محمي بقوة “الفساد”، كان يدفعها بقوة للمضي في مسار حياتها المؤلم، صبرها على الصعاب ومقاومتها نفوذ سلطة دولة عظمى كان يثير في نفس المخرجة الإعجاب والقبول بالمضي معها في رحلتها من بلدة إلى أخرى ومن سجن إلى سجن، تواجه القمع بمزيد من الاحتجاج والمطالبة بتغيير القوانين القديمة بما يتناسب مع متغيرات الواقع، بعملها مع حقوقيات ناشطات توصلت إلى بنود قوانين تعتبر استلام “الأطفال” مبالغ مالية مقابل بيع أجسادهم؛ تجارة وبالتالي تخفف العقوبة المفروضة على الجاني، على الورق هناك نص يجيز إعدام المغتصب والسجن لمدد طويلة لمشتري الجنس من الأطفال لكن القانون “المخفف” هو المعمول به عملياً وبالنسبة للمتنفذين هو وسيلتهم الناجعة للتهرب من العقاب.

يمضي الوثائقي دون قصد إلى طبيعة النظام السياسي القمعي وكراهيته لمفهوم التعددية وحقوق الإنسان، وعبر ما تتعرض له “العصفورة” ورفاقها ستتجسد آلية النظام البوليسي وقدرته على مراقبة المعارضين والمشاكسين له أينما حلوا، فأخبار “العصفورة” كانت تسبقها إلى المكان الذي تنوي الذهاب اليه كناشطة أو “شريدة”، يجند النظام بقوة اقتصاده آلاف العملاء وفي كل مكان، يصنع منهم وحوشاً بشرية لا تسمع سوى صوت سيدها!. لن تنجو من براثنهم كاميرا المخرجة لأنهم اعتبروها عدواً لهم، محاولات تخليص “ذاكرتها” الإلكترونية واحدة من أجمل مغامرات الوثائقي وعبره تتضح معالم تشكل جبهة معارضة تتحرك بشجاعة نادرة، لا الموت يوقفها ولا السجون تحجبها عن الأنظار وفي حال دخول الكاميرا على الخط فإن نشاطها سيتجاوز بُعده الجغرافي ويصبح أكثر قدرة على التأثير والضغط. من تجربة وثائقيها ستتعلم المخرجة، التي تركت بلادها قبل سنتين، أن كل المواد ذات الطبيعة الإعلامية (ميديا) تُراقب وتفتش أثناء مروها بالبريد لهذا كان لابد من تهريب التسجيلات بطرق ملتوية لا تمر على البريد العادي.
سيّتوحد مع الوقت مصير الفيلم مع مصير أبطاله وسيصبح ضياع أحدهم خسارة كبيرة للآخر، ولهذا ستغدو فكرة عودة “العصفورة” إلى عشها الأول مقبولة، إلى الريف الصيني يدخل الوثائقي عبر بيت الناشطة التي قررت عدم التحرك والاستكانة مؤقتاً، لتجنيب عائلتها انتقام الدولة. الحياة في القرية تفسر سبب هجرة الناس منها، فإلى جانب الفقر تنعدم تقريباً الخدمات الصحية وبالنسبة للفلاحين الفقراء غير القادرين على دفع أثمان الأدوية ومراجعات الأطباء يصبح الموت بديلاً مريحاً. يهشم “عصفور مشاكس” الصورة النمطية للفلاح الصيني السعيد ويرسم واحدة معتمة بدلاً منه، لتعميق أثرها عند المتلقي ستلعب موسيقى “ناتان هالبرين” دورها على أحسن ما يرام، فيما “التقطيع” السريع والمؤثرات الخارجية الإلكترونية ستضفي عليه حيوية وحداثة يمكن بها اختصار سرد حكايات توزعت أحداثها على طول البلاد المترعة بالفقر والألم تُسيّرها سلطة لا تعرف الرحمة، تخاف رغم هيبتها من “عصفورة” صغيرة تطير بحرية لترى وتحكي لنا ما الذي يجري تحت بصرها.

في كل مرحلة من نشاط المجاهرات بأصواتهن عالياً ضد الظلم تغدو تسريبات التسجيلات المهربة سراً إلى وسائل التواصل الاجتماعي مصدراً دافعاً لحراك شعبي بخاصة عند أولياء أمور الأطفال المنتهكة أجسادهم جنسياً. يتضح من مقابلات المخرجة لبعضهم حجم رعبهم من السلطة ورجالها، لكنه من جانب ثانٍ يكشف عن مدى قوة تأثير النشاط السلمي، فصورة “العصفورة” مع ابنتها على الطريق العام دون سقف وبجوارها بعض أثاث منزلها ستصبح “أيقونة” ورمزاً لامرأة شجاعة تتحمل كل العذاب من أجل الدفاع عن المهانين في بلادها، وستجبر بدورها السلطات على تقديم “أكباش فداء” مثل مدير المدرسة، الذي أدين وحكم عليه بالسجن لمدة طويلة، أما الكاميرا “الفوتوغرافية” فستقوم بعرض بعض صور الناشطات إلى نيويورك عبر معرض “تجريبي” نظمته المخرجة كُرس لتجسيد شجاعتهن، فيما كانت “العصفورة” تهم بترك بيتها القديم متجهة مرة أخرى للمشاركة في نشاط جديد وفي مدينة بعيدة، عن قريتها الفقيرة. نهاية الفيلم ليست سعيدة فالواقع معتم وحزين لكنها متفائلة بقدرة أجيال جديدة على خرق سور الصين العظيم وكشف ما يجري خلفه من انتهاكات وجرائم، ربما طلب ابنة “يه هايان” الحصول على كاميرا بمناسبة عيد ميلادها يشي بجانب منه ويؤشر إلى تعرفه على مواطن قوتها وقدرتها على قول ما يخشى الملايين البوح به بلسانهم صراحةً.